فضيحة في بريطانيا: مراسلات الخلية السرّية التي عزلت ماي وعيّنت جونسون
لم تأخذ فضيحة التسريب الحديث لمراسلات الخلية الأمنية البريطانية التي أطاحت بتيريزا ماي، ما تستحقه من الإضاءة الإعلامية عليها. رغم أنها كشفٌ نادرٌ من حيث حجم تفاصيله ودلالاته؛ عدة غيغابايتات من ملفات البريد الإلكتروني المسرّبة التي ظهرت لأول مرة عبر موقع يسمى «رأس القشّ المخادع». ولن يتسع التقرير التالي سوى للمحة أو لغيض من فيض هذه القصة، والتي مختصرها أنّ «عصابة» ضيقة متنوّعة التخصّصات والارتباطات بالمخابرات البريطانية والأمريكية مموّلة من نخب خفية من رأس المال العالمي فوق القومي تقوم بعمليات معقّدة سياسية واستخبارية ومالية وإعلامية ونفسية تبدّل خلالها قيادة الحكومة البريطانية عدة مرات، أو فلنقل: «تُداوِلُها على السلطة» لكن من فوق - على غرار التعيين والعزل في الأنظمة البرجوازية الطرفية ذات الديكتاتورية السافرة - لكن بطرق أكثر خداعاً وتعقيداً. وأبرز أهدافها تنفيذ سيناريو البريكسيت القاسي لفصل كامل لبريطانيا عن الاتحاد الأوروبي. ولم تكتف بالتآمر لتغيير رؤساء الوزراء بل وقلبت موازين القوى في البرلمان بطرق لا علاقة لها بما يسمى «ديمقراطية». تشير الوثائق أيضاً إلى عدم رضا النخبة مؤخراً حتى عن دميتها (رأس القشّ) بوريس جونسون – هذا قد يفسّر مغزى فضيحة حفلة كورونا (بارتي-غيت) – وتفكر بتعيين وزيرة الخارجية ليز تروس بدلاً منه. تمثل التسريبات فرصةً للاطلاع على خفايا المطبخ الاستخباري للنخبة وكشفاً لهشاشة «الديمقراطية» الغربية التي من أوضح الدلائل الحديثة على بعدها عن مصالح شعوبها وتبعيتها لواشنطن، تلك الكوميديا السوداء الجارية بشأن أوكرانيا وروسيا، حيث يشدّ الاتحاد الأوروبي مشنقة عقوباته حول عنقه بالذات وأعناق شعوبه وشعوب العالَم.
لمحة موجزة
حيكت المؤامرة خلال عامي 2018 و2019 بعد مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، وسط مفاوضات طويلة وصعبة مع بروكسل حول شروط البريكست. يرى عدد من المسؤولين الأمنيين في خلية المؤامرة بقيادة الداهية المنسّق والمستشار العسكري البريطاني غويثان برينس، وريتشارد ديرلاف رئيس سابق لجهاز المخابرات البريطانية MI6، أنّ رئيسة الوزراء تيريزا ماي متساهلة وخطتها «ضعيفة» للغاية، ومن الضروري لمصالح النخبة المموّلة للمؤامرة استبدالها.
يعرب غويثان برنس في أحد مراسلاته ضمن الخلية أيضاً عن الاستعداد للاستعانة بـ«أبناء عمومتنا» ما وراء الأطلسي (ويقصد الأمريكيين) وبهنري كيسنجر شخصياً إذا كان يريد المشاركة وأنه سيزوّده بكل المواد اللازمة. ويقوم برنس بجولة خاصة إلى الولايات المتحدة تتضمن لقاءات مع شخصيات أمنية وبرلمانية لاستجلاب الدعم.
تنجح الخلية في اختراق أوساط حساسة محيطة برئيسة الوزراء تيريزا ماي، ومن ضمن مطبخ صياغة وثائق التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، حيث تنجح العميلة «إيفلين فار» التي اسمها المستعار هو «كارولين بل» بالحصول على صورة من وثيقة خطة ماي السرية للتفاوض مع الاتحاد الأوروبي، وتسرّبها لمشغّليها في الخلية (العصابة). وسرعان ما يكتب غويثان برنس في إحدى مراسلات البريد الإلكتروني (عبر بروتون ميل الذي تستخدمه الخلية كوسيلة تنسيق وتواصل)، قائلاً عن ماي: «لقد حصلنا على خطتها الحربية، والآن اقتلها واقتل خطّتها»، ويقصد القضاء على ماي سياسياً كرئيسة وزراء. ونتيجة لذلك فشلت ماي في خطة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في البرلمان وفي المفاوضات مع دول الاتحاد الأوروبي. وتم استبدالها ببوريس جونسون الأكثر تشدداً في هذا الملف، والذي أكمله بالطريقة التي أرادتها مؤسسة السلطة.
يتفق المتآمرون في مراسلاتهم الإلكترونية على أنه: «فور توليه رئاسة الوزراء، يجب على بوريس جونسون دعوة جميع المحافظين إلى البرلمان، وطلب تأكيد الدعم لـخطة (الخروج النظيف من الاتحاد الأوروبي)»، بل ويكشف غويثان برنس عن أنّهم زوّدوا جونسون بقائمة بأسماء النواب والمسؤولين المعارضين للاتجاه المطلوب والذي يتعيّن على جونسون العمل على التخلّص منهم واستبدالهم بآخرين مطواعين لما هو مطلوب. وبالطبع استفادت الخلية كثيراً من وجود ريتشارد ديرلاف فيها، وهو رئيس سابق لجهاز الاستخبارات البريطاني (قبل 2004) والذي ما زال له أصدقاء وصلات ليس فقط في الاستخبارات البريطانية بل وفي المخابرات الأمريكية (سي آي إيه)، حيث كثيراً ما كان برنس يطلب من ديرلاف القيام بـ«دراسة أمنية» حول أعضاء البرلمان أو أي شخصيات تهتم العصابة المتآمرة بالاستعلام عنهم.
الإعلام البريطاني السائد مثل صحيفة الغارديان، حاول تقزيم أهمية الفضيحة، عبر التركيز على اتهام «قراصنة روس» بأنهم اخترقوا البريد الإلكتروني للخلية وسرّبوه، أكثر من تركيزه على مضمون التسريبات وتفاصيلها وماذا تعني للـ«ديمقراطية» الغربية.
طابِق تمويل
من الممولين المنخرطين في المراسلات مع الأعضاء التنفيذيين في الخلية الزوجين الثريين تيموثي وماري كلود – وهما أرستقراطيان استقرا في الملاذ الضريبي في جيرسي على مدار العقود الماضية، والمعلومات عن أثرياء مثلهم شحيحة، فهم يتجنبون عن قصد أيّ ذكر لأنفسهم على الشبكات الاجتماعية والإنترنت، لذلك فهم يناسبون دور «أكياس النقود» بشكل مثالي كما وصفت الأمر المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زخاروفا في منشور لها على تلغرام حول الفضيحة في 4 حزيران الجاري. ومع ذلك يمكننا أن نتوقّع أنّ رأس الهرم التمويلي لا يتوقف عند الأثرياء المذكورة أسماؤهم، حيث إنهم على الأرجح حلقة وصل أو «رتبة» مالية معيّنة لمستوى سرّي أعلى وأكثر ثراءً وخفاءً.
قرار مموّلي جونسون باستبداله
يكتب غويثان برنس إلى شخص اسمه «إيدي» رسالة بريد إلكتروني بتاريخ 11 كانون الثاني 2022 يختمها بالمقطع التالي:
«لا أرى أيّ سبب لبقاء رئيس الوزراء [جونسون] واقفاً على قدميه؛ لقد فقد السيطرة على عقله وقوة إرادته لدرجة أن ذلك قد يكون أمراً أفضل؟ سوف يتطلّب الأمر قيادةً جديدة [طازجة/فرِش] للخروج من المستنقع الأخضر، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتمّ سوى بشكلٍ حاسم، وليس عبر خطوات صغيرة...» ويضيف، والحديث ما زال عن جونسون: «هل لدينا الثقة بأنّ لديه حقاً القدرة على التحمّل لإنجاز البريكست؟» وبالمقابل يقارن ليز تروس بجونسون فيتابع: «من الواضح أنّ سكرتيرة الخارجية تملكها [أيْ القدرة على التحمّل...]، بدعمٍ من فروست [وزير البريكست ديفيد فروست] وهي تبدي العزم على التحوّل كما كانت السيدة T يوماً ما». ثم يتابع الرسالة مستبعداً وزير الخزانة ريشي سوناك كخليفة لجونسون: «سوناك لن يبلي بلاءً حسناً أليس كذلك؟ إنّه في الصميم منفاخُ عَولَمةٍ (globalonist) بليريٌّ آخر؟ [نسبةً إلى توني بلير] مثل بوريس؟».
ثم يختم الرسالة الإلكترونية بكشفٍ مهمّ لتحويل صنبور تمويل كبير بعيداً عن جونسون: «قبل انتهاء العطلة حدث أنني جلست على مائدة العشاء بجوار أحد المموّلين طويلي الأمد لبوجو»، يعني لبوريس جونسون، «والذي أخبرني بأنّه قد تخلّص منه» -استعمل حرفياً كلمة dump التي تعني بدقة أكثر: ألقاه في القمامة أو مكب النفايات- «وأنّه قد أبلغه بذلك وأخبَرَهُ بأنّ السبب في ذلك هي آن بولين Anne Boleyn ومديروها (شركة غلودسميثس وغوميرز) وأنّه قد حوّل أمواله إلى تروس».