أوروبا أمام موجات اضطراب اجتماعي وسياسي والمؤشرات بدأت بالفعل!
ترتبط درجة الاستقرار السياسي في أيّ بلدٍ من البلدان بمفهوم درجة الرضى الاجتماعي لدى سكانه، فتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية يدفع المجتمع للاحتجاج أكثر، ويدفع هذا المزاج الساخط إلى وضع كلّ السياسات الحكومية تحت المجهر لتخضع لإعادة تقييم، إمّا من قبل القوى السياسية الموجودة فعلاً أو من قوى الشارع نفسه.
تعتبر هذه المقدّمة مسألةً بديهية بالنسبة للكثيرين، ولذلك لا يعتبر التنبؤ بظهور تحركات شعبية واسعة في أوروبا مسألة صعبة، لا بل إنّ تحركات كهذه قد ظهرت بالفعل وبدأت تسيطر على المشهد، ليبقى السؤال المطروح، ما هو الواقع الجديد الذي ستفرضه هذه الاحتجاجات؟ وما هو حجم التغيير القادرة على تحقيقه؟
أمثلة سريعة
تشهد قطاعات النقل الجوي والسكك الحديدية اضطرابات حقيقية نتيجة لتحركات عمالية منظمة إلى درجة أن المشكلة تكاد تكون واحدة في كل أوروبا، في إشارة لدرجة ترابط هذه القطاعات فيما بينها على المستوى العالمي وعلى المستوى التمويل والاستثمار. فتشهد حركة النقل الجوي مثلاً اضطرابات كبرى غير مسبوقة، فقد شهدت المطارات في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا والسويد والدنمارك والنرويج إلغاءات واسعة لنسبة كبيرة من إجمالي الرحلات الجوية، وتحديداً ذات الوجهات القصيرة، وتُرَدّ هذه الاضطرابات إلى الإضرابات التي ينفذها العاملون في المطارات وشركات الطيران بالإضافة إلى نقص العمالة التي يعاني منها عددٌ لا بأس به من شركات الخطوط الجوية. وعلى الرغم من الضرر الكبير الذي لحق بهذه الشركات إلا أنها لا تبدي حتى اللحظة استعداداً للتنازل ورفع أجور العمال الذين يطالبون بزيادة لتعويض ما التهمه التضخم من أجورهم. ومن جانب آخر يبدو الشق الثاني من المشكلة والمرتبط بنقص العمالة الضرورية مسألة ملفتة حقاً! فشركات الطيران التي سرّحت عدداً من عمالها بعد انخفاض الطلب الشديد الناتج عن إجراءات الحظر التي رافقت انتشار وباء كورونا لم تعوِّض نقصَ التوظيفات تلك حتى مع انتعاش الطلب مجدداً، كمؤشر جديد على حجم الأزمة الاقتصادية العالمية.
الأخطر قادم
تشكّل تداعيات الارتفاعات القياسية في أسعار مصادر الطاقة والمواد الأولية عقبات كبرى بوجه القطاع الإنتاجي في أوروبا، ويتلقى الاقتصاد الألماني صدمات حقيقية، إلى تلك الدرجة التي أعلن فيها وزير الاقتصاد الألماني ونائب المستشار الألماني روبرت هابك بأنَّ نقص إمدادات الغاز سوف تؤدي إلى نقص في إمداد المعامل وخصوصاً تلك المفصولة عن الشبكة الرئيسية، وأضاف بأنَّ المرافق الألمانية معرّضة لخطر الإخفاقات المتتالية التي قد تتطلب تفعيل بندٍ قانوني يسمح لها بتمرير زيادات في الأسعار خارج نطاق التزامات العقد، أي أنَّ الحكومة الألمانية ستجد نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أنْ يجري تحميل الخسائر للمواطنين عبر فتح المجال أمام الشركات لرفع أسعارها، وإما عبر رفع تكاليف الإنتاج أمام المعامل ممّا سيقود إلى تسريحات عمال كبرى وإفلاسات، وقد تجد نفسها مضطرّة للقيام بالخطوتين معاً وتحديداً بعد استنفاد كل الخيارات الأخرى التي تسمح لألمانيا بالمناورة حتى اللحظة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الوضع الجيد نسبياً للاقتصاد الألماني وانخفاض الدين العام بالمقارنة مع باقي اقتصادات أوروبا نستطيع أن نتخيل حجم الكارثة التي تخيّم على أوروبا.
الارتدادات الشعبية
بالإضافة إلى الإضرابات الواسعة التي سبق ذكرها شهدتْ عددٌ من البلدان الأوروبية احتجاجاتٍ شعبية كردِّ فعلٍ أوّلي على ارتفاعات الأسعار الجنونية، وشملت حتى اللحظة كلاً من لندن وفرنسا وإيطاليا واليونان، ولا يزال الباب مفتوحاً أمام انضمام دول جديدة إلى القائمة، فالواقع الذي يفرض نفسه على أوروبا والشكل الذي تتعامل معه الحكومات الأوروبية التابعة لواشنطن يمهّد للانفجار القادم، فالخسائر ستكون كبيرة جداً وإذا كان «العملاق الألماني» يتجه لتحميل الجزء الأكبر منها على عاتق المواطنين فلا نتوقع أنْ تقوم دول الجنوب الأوروبي المُفقَرة بإجراءات اجتماعية لتخفيف الآثار الكارثية عن سكانها. هذه الآثار لن تحرِّك الشارع فحسب بل بدأتْ تفعَلُ فعلها لدى النخب السياسية الأوروبية التي بدأت ترى أنَّ مصالحَها تتناقضُ مع استراتيجية واشنطن المفروضة عليهم، مما ساهم في جعل المناخ ملائماً أكثر لتقديم قيادات جديدة لتعبّر عن مصالح هذه النخب بالتحديد، وستكون هذه القيادات وبغضّ النظر عن برامجها الاقتصادية والاجتماعية أكثر عناداً في وجه واشنطن. أيّ أنه بات من المرجح أكثر أنْ نشهد تغييرات سياسية حقيقية في أوروبا. سيكون بعضها ضمن توافق محدَّد للملّاكين الأوروبيين ولكن بعضها الآخر سيكون حتماً معبراً عن قوى سياسية جديدة تعبّر في جوهرها عن مصالح الطبقة العاملة الأوروبية لا أصحاب الثروة والملّاكين.