الإمبراطورية الغارقة تضغط زناد «عقوبات» انتحارية
فيديل قره باغي فيديل قره باغي

الإمبراطورية الغارقة تضغط زناد «عقوبات» انتحارية

تصاعدت في الأيام القليلة الماضية هستيريا العقوبات الغربية على روسيا، بتنسيق من مقرّ أمر عملياتها في واشنطن. وشملت العقوبات طيفاً واسعاً غير مسبوق في تغطيتها للمجالات الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية والمعنوية لدرجة صعوبة تتبُّع تفاصيلها في قائمة واحدة شاملة نظراً لكثرتها وتواترها السريع. لكننا سنركز فيما يلي على أسئلة: لماذا العقوبات؟ وعلى ماذا يعوّل الغرب من عقوباته على روسيا؟ وماذا تُخبرنا هستيريا العقوبات الحالية عن المأزق الأمريكي-الغربي؟

إحصاء موجز لعقوبات القرن الماضي

قام الباحث هوفباور وزملاؤه عام 2007 بإحصاء 174 حالة موثقة للعقوبات في القرن العشرين، منها 20 مناسبة فقط لعقوبات فرضتها الأمم المتحدة (وهذه هي الوحيدة التي تعتبر «شرعية» من وجهة نظر القانون الدولي) أما ما تبقى فتعتبر «أحادية الجانب» أو غير شرعية، وتوزعت كما يلي:

109 مرات فرضتها الولايات المتحدة.
16 مرة فرضتها المملكة المتحدة.
14 مرة فرضها الاتحاد الأوروبي.
13 مرة فرضها الاتحاد السوفييتي/ أو روسيا.

على ماذا تعوّل واشنطن من العقوبات على روسيا؟

إحدى الغايات من العقوبات كما هو واضح إحداث أكبر تخريب ممكن في العلاقات المحتمل تطورها بين أوروبا الغربية والشرقية وعزل شطري أوراسيا عن بعضهما. لكن من غايات تخريب وإضعاف الخصوم أيضاً، ربما تكون العقوبات محاولة أخيرة يائسة لإجهاض استباقي لتغيرات داخلية محتملة داخل النظام السياسي والاقتصادي الروسي نفسه، وفي علاقة روسيا مع الصين، والتي إذا حدثت باتجاه إيجابي وجذري كفايةً ستكون خطيرة ليس فقط على المصالح الأمريكية الإمبريالية، بل وسوف تسرع الولادة الكاملة للعالَم الجديد القائم على مبدأ الكسب المتبادل، مما يسدد ضربة قاصمة لنموذج ناهب-منهوب في العلاقات الدولية (التبادل اللامتكافئ). ولذلك ربما تعوّل واشنطن على «الطابور الخامس» لها في النخب المالية الأكثر ميلاً وقرباً للغرب داخل روسيا، للضغط ضدّ تلك السياسات الروسية المناهضة لواشنطن.
إذا كانت هذه الفرضية صحيحة، فإنّ العقوبات بهذه الشراسة والزخم والاتساع والسرعة في تلاحقها مؤشرٌ على درجة عالية غير مسبوقة من عمق المأزق الأمريكي-الغربي حتى يقامروا بهذه الورقة التي يسيرون بها على حافة الهاوية، بسبب الإمكانية الموضوعية العالية لأن تنقلب سياسة العقوبات هذه إلى ضدّها وتعود وبالاً مدمّراً عليهم، كما يتضح من التفاصيل التي انتشرت تحليلات كثيرة عنها خلال الفترة الماضية خصوصاً حول أزمات الطاقة والغاز وصولاً إلى أزمة الغذاء والتضخم وتسريع الانهيار القادم لا محالة، في اقتصاد مُعَولَم لن ينجو من لظاه أيّ بلد وأمريكا وأوروبا ضمناً.

«العقوبات» و«الحرب الهجينة»

تجدر الملاحظة بأنّ كثيراً من إجراءات الهستيريا الغربية الحالية ضد روسيا ربما لا ينطبق عليها تقليدياً توصيف «عقوبات» فقط، أكثر مما هي إجراءات تصبّ في مجال الحرب الهجينة الثقافية والإيديولوجية والنفسية والرمزية وما إلى ذلك، على سبيل المثال إجراءات من قبيل حظر تدريس أدب دويستوفسكي في إحدى الجامعات الإيطالية، أو إلغاء استعمال موسيقى تشايكوفسكي في أماكن ومناسبات معينة، وتحريض العنصرية و«الروسوفوبيا»، والتضييق على مشاركة الرياضيين الروس في المنافسات الدولية، التي لم تستثنِ حتى «ذوي الاحتياجات الخاصة» في ضربةٍ غير مسبوقة للمتاجرة الغربية المزمنة بشعارات النزاهة والحرية وعدم التسييس التي تتساقط أقنعتها عن كلّ وجوه المنظمات والمؤسسات الدولية والجامعات المرتهنة للسيّد الأمريكي، وتكشف عن مأزق غربي أخلاقي وثقافي وحضاري غير مسبوق.

علاقة تكثيف العقوبات بهزائم التدخّل العسكري (المباشَر وبالوكالة)

في محاولة فهم هذا التركيز الغربي الكثيف والمسعور على أداة العقوبات، ورغم أنّه من الواضح أنّها كانت سوف تطبّق على كل الأحوال سواء بذرائع أو من دونها، ولكن مع ذلك ربما نعثر على جزء من الإجابة حول التوقيت والكثافة والتسارع في فرضها، بناءً على النظر إلى ما حلّ بالأدوات العسكرية للإمبريالية. حيث لا يمكن أن ننسى التراكم السابق للأحداث من الانسحاب الأمريكي المذلّ من أفغانستان بعد احتلالها المباشر، وترتيبات الانسحاب المقترب من نهاياته من العراق وسورية، فذراع التدخلات العسكرية المباشرة قد تعرّض إلى التكبيل إلى حدّ كبير بمعنى فشل أهدافه المعلنة وبالتالي صعوبة تجديد نسخ جديدة منه في أماكن أخرى في العالَم عدا عن تكلفته الباهظة. ومن جهة ثانية تلقّى ذراع التدخلات غير المباشرة، والحروب بالوكالة كأسلوب مبتكر، ضربات موجعة أيضاً، وخاصةً بعد المنعطف النوعي بهزيمة «داعش» وأشباهها في سورية الذي تمّ تحديداً وبشكل حاسم بفضل التدخّل الروسي في عملية مكافحة الإرهاب باتجاه معاكس تماماً للسلوك الأمريكي الذي زرع هذا الإرهاب واستثمره بل وعمل على إعادة إحيائه رغم الادّعاء بمحاربته.

لذلك يبدو أنّ واشنطن وأتباعها ومع تقدّم أحداث المعركة في أوكرانيا، أخذوا يدركون بسرعة وفي كل يوم جديد أنّ حربهم بالوكالة التي كانوا يعوّلون بوضوح فيها على نواتهم الأصلب وهي عصابات النازيين الجدد والمرتزقة، سرعان ما أخذت تمنى بالهزائم، وهكذا باتوا شبه مكبّلي الذراعين عملياً مع أحداث أوكرانيا (فلا تدخُّل عسكري بالوكالة قد نفعهم، والتدخل المباشر خطير للغاية ويخشون تصادماً مباشراً بين قوات الناتو الرسمية والقوات الروسية). لذلك يمكننا تصوير الأمر مثل شخصٍّ تم تكبيل ذراعيه خلف ظهره على كرسيّ ولم يعد بمقدوره إضافة إلى «الصراخ الإعلامي» سوى سلاح وحيد وهو «البصاق» في وجه خصمه: هذا «البصاق» هو بالتحديد العقوبات، والتي رغم قذارتها وما تحمله من سموم تلحق أضراراً، لكنّها على ما يبدو قد تكون تلك البصقة التي تسقط وترتد على وجه مطلقها نفسه.

وعلى هذا يمكننا أن نفسر لماذا قال الرئيس الأمريكي جو بايدن في 26 شباط «هناك خياران: بدء حرب عالمية ثالثة والدخول في حرب مع روسيا فيزيائياً. أو الخيار الثاني، التأكد من أن الدولة التي تتصرف بشكل مخالف للقانون الدولي [ويقصد بايدن تطبيقه تارة وعدم تطبيقه طوراً، وعلى هوى واشنطن دائماً ينتهي بها الأمر بدفع ثمن قيامها بذلك» أي عن طريق العقوبات «الأوسع في التاريخ» وفقاً لتعبير بايدن نفسه، في محاولة على ما يبدو للتبرير الاستباقي للخسائر الداخلية على أمريكا والغرب التي ستحدث بسبب الإطلاق الاضطراري لهذه العقوبات بوصفها ربما الرصاصة الأخيرة في المخزن إذا لم ترجَح كفة الاحتمال الغربي المجنون في جرّ البشرية إلى الفناء عن طريق حرب نووية.

 

آخر تعديل على الأربعاء, 09 آذار/مارس 2022 19:15