إلى موسكو… زيارات رفيعة المستوى ولكن!

إلى موسكو… زيارات رفيعة المستوى ولكن!

التوتر الشديد الذي نشهده في أوروبا، يرافقه نشاط دبلوماسي ملحوظ، وعلى الرغم من أن التصريحات الظاهرية تميل إلى رفض التصعيد الحالي، إلا أن ممارسات البعض تقول غير هذا تماماً! لنبقى أمام واقع حيث تفرض الولايات المتحدة على حلفائها الأوروبيين ظرفاً شديد الخطورة مما يدفع بعضهم للبحث عن مخارج حقيقية وإعادة النظر بجدوى العلاقة مع واشنطن.

استضاف الكرملين مؤخراً لقاءين بين المسؤولين الروس من جهة ونظرائهم الأوروبيين من جهة أخرى، ليستضيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في 7 شباط، أما عن الوفد البريطاني الذي زار موسكو في فترة مقاربة، فقد كان باستقباله وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي التقى نظيرته البريطانية إليزابيث تراس، فيما استقبل وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو نظيرَه البريطاني بن والاس.
تشكّل الزيارتان نموذجَين مختلفَين لشكلِ التعامل الأوروبي مع روسيا في هذا الظرف المتوتّر، وعلى الرغم من الاختلاف الجذري بين الأهداف الفرنسية والبريطانية إلا أننا أمام حالةٍ فريدة تستحقّ التوقّف عندها


في أبعاد الزيارة الفرنسية

تقول الرواية الرسمية الفرنسية إنّ زيارة الرئيس الفرنسي إلى موسكو وكلَّ النشاط المرافق له من زيارات إلى ألمانيا وأوكرانيا وإجراء اتصالات موسَّعة مع أطراف متعدِّدة بما فيها الولايات المتحدة، إنما تهدف للبحث عن مخرجٍ آمن من الأزمة الحالية وتسعى لوقف التصعيد، وهذا بحدّ ذاته يعتبر خطوةً إيجابية، ولكن ما يخفيه ماكرون هو أن التصعيد الحالي هو تصعيد على مستوى العالم ولذلك فهو أكبر بكثير من وزن فرنسا الحالي، التي خسرت أيضاً بعد الحرب العالمية الثانية جزءاً أساسياً من وزنها الأوروبي!

فإذا كان الرئيس الفرنسي يسعى لخفض التصعيد في أوروبا فهذا يعني أنه قادر على دفع الولايات المتحدة للقبول بالرجوع إلى خطوط ما قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، وهي مهمة لا تتناسب مع حجمه، حتى أنّ المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي وعند سؤالها ما إذا كان البيت الأبيض يرى في مباحثات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين إشارات إلى أنَّ لدى الأوروبيين منصة منفصلة للتفاوض مع روسيا، أجابت بشكل قاطع أنها لا تتفق مع هذه القراءة وأنّ الولايات المتحدة حسب بساكي «تعتبر اللاعب الأساسي في هذا الصدد» وأن الزيارة الفرنسية تعتبر مفاوضات مختلفة جرت بشكل متزامن، وإذا اعتبرنا أن طموح الرئيس الفرنسي ينحصر في حل الأزمة الأوكرانية - التي تعد جزءاً بسيط من الأزمة الحالية - فهذا يعني أنه ملزمٌ بتطبيق اتفاقات مينسك التي كانت فرنسا جزءاً منها، إلى جانب ألمانيا وأوكرانيا التي تشكل مع روسيا ما عرف باسم «رباعية النورماندي»، لكن لدى روسيا قناعة بأن ثلاثة أطراف «من الاتفاق الرباعي» لا تعمل بجدية لتحقيقه، حتى أن المبعوث الروسي لمفاوضات النورماندي دميتري كوزاك أعلن مؤخراً أنه كان مضطراً للاستعانة بقاموس كامبريدج لشرح معاني بعض الكلمات في الاتفاق.

ما سبق شكّل الأرضية المنطقية للقول بأن الرئيس الفرنسي يحاول مدفوعاً بحسابات الانتخابات القادمة تصدير نفسه قادراً على حل «المشكلات الكبرى التي تواجه أوروبا»، فهذه الفكرة وعلى الرغم من أنها تفسِّر جزئياً السلوك الفرنسي إلا أنها تظل قاصرة، فإذا قلنا إنّ الرئيس الفرنسي يرى في زيارته إلى روسيا وكل التصريحات المرافقة لها «دعاية انتخابية» له فهذا يعكس بوضوح المزاج العام في أوروبا التي يتعاظم قلقها مع التصعيد الجاري إلى تلك الدرجة التي بات فيها «التوسط» لنزع فتيل المشكلة يعتبر دعاية انتخابية في فرنسا، والرئيس الفرنسي بتحركاته هذه يعبر عن رغبة أوروبية بإيجاد مخرج من المأزق الحالي، ويعزز هذا الطرح أن المستشار الألماني أولاف شولتس ذهب في وقت متزامن إلى الولايات المتحدة، الزيارة التي رأى فيها بعض المحللين أنها تعبير عن مساعٍ أوروبية مشتركة للحدّ من التصعيد المكلف. حتى أنّ المستشار الألماني قال في المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع الرئيس الفرنسي والرئيس البولندي: «تتمثل مساعينا اليوم في إطار مثلث فيمار في أننا نريد قبل كل شيء تحقيق خفض للتصعيد في الوضع المتوتر، نحن بحاجة إلى مفاوضات وحل»، وأضاف «إننا موحدون حول هدف المحافظة على السلام في أوروبا عبر الدبلوماسية والرسائل الواضحة».

ماذا عن الزيارة البريطانية

يبدو أن زيارة وزيرة الخارجية ووزير الدفاع البريطانيين إلى موسكو أتت في سياق مختلف تماماً، ففي الوقت الذي أعطت الزيارة الفرنسية وما رافقها من تحركات إشارات إلى رغبة أوروبية في خفض التصعيد وإيجاد «حل عبر المفاوضات»، كانت الزيارة البريطانية أشبه بـ «حوار الطرشان» كما وصفها وزير الخارجية الروسي، وقال «بصراحة، أشعر بخيبة أمل لأن حوارنا بمثابة حوار الطرشان. نتحدث لكننا لا نسمع بعضنا البعض»، هذا بالإضافة إلى ما تم تناقله بشكل واسع حول إصرار الوزيرة البريطانية على ضرورة انسحاب روسيا من منطقتي فورونيج وروستوف الروسيتين القريبتين من الحدود مع أوكرانيا ما اعتبره وزير الخارجية الروسي تعدّياً على السيادة الروسية فبادر بسؤال السيدة تراس «هل تعترفون بالسيادة الروسية على هذه المناطق؟» لتجيبه وزيرة خارجية بريطانيا «لن نعترف أبداً بالسيادة الروسية على هذه المناطق» مما فرض على السفيرة البريطانية في موسكو التدخل وتنبيه السيدة تراس بأنها تتحدث عن أراضٍ روسية. ربما تكون هذه الحادثة طريفة بالفعل إلا أنها تعبّر بوضوح عن واقع مؤسف، فالعالم اليوم أمام احتمال اندلاع حرب عالمية جديدة، ويجري التصعيد بشكلٍ أساسي منذ أنْ أفادت تقارير غربية بأنّ روسيا تنشر قواتها في فورونيج وروستوف واليوم وبعد أسابيع من التصعيد يتبين أنّ وزيرة خارجية إحدى الدول الفاعلة والمحرضة في هذا الملف لا تعرف تماماً أين تقع هذه المناطق ولا تعرف إن كانت أراضٍ روسية أو أوكرانية!

هذا هو الواقع المؤسف الذي أرادته الولايات المتحدة لأوروبا بعد الحرب، أن يتحول قادتها وسياسيوها إلى مجرد دمى ومهرجين. وهذا يؤكد مجدداً أن الزيارة المستعجلة للوفد البريطاني «رفيع المستوى» هذا، كانت بغرض تسجيل النقاط وتبليغ التهديدات الغربية بشكل شخصي للقيادة الروسية، كما لو أنهم يريدون القول بأنهم يبذلون قصارى جهدهم في الحفاظ على أمن أوروبا في الوقت الذي يقومون فيه بكل أنواع الاستفزاز الممكنة. المسألة تبدو أكثر وضوحاً عند وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيف بورويل الذي رأى في زيارة ماكرون إلى موسكو بارقة أمل بتجنب المواجهة العسكرية، وقال إنّ ما يشغل روسيا ليس أوكرانيا، بل ما أسماه «الهندسة الجديدة للأمن في أوروبا» والتي تعارضها موسكو حسب بورويل، وهذا صحيح فإن روسيا تستجيب لمحاولات الولايات المتحدة عبر وسائل مختلفة اقتصادية وعسكرية لاحتواء روسيا وتفتيتها. الاستجابة الروسية تغطي حتى اللحظة الجانب الأكثر إلحاحاً في المسألة بالنسبة لها وهو الجانب الخارجي والعسكري لكنها ستكون مضطرة في وقتٍ قريب جداً إلى إجراء تغييرات بنيوية في شكل توزيع الثروة ودور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وإلا لن تكون روسيا قادرة على تثمير النتائج الإيجابية على الجبهة الخارجية.

آخر تعديل على الأربعاء, 16 شباط/فبراير 2022 12:16