بعيداً عن «الكرنفالات» ما شروط «تحول رقمي» ناجح في سورية؟
انعقد منذ أيام في دمشق «المؤتمر الدولي الثالث للتحول الرقمي». ربما لم يسمع كثيرٌ من السوريين بـ«الحدث»، بسبب الوضع المزري لانقطاعٍات الكهرباء أو الإنترنت أو كليهما، أو ربما شعر كثيرون منهم بنفورٍ أو بمفارقة مريرة لدى سماع المصطلح، ويمكن تفهّم موقفهم، على الأقل لأنّ صفات مثل «رقمي» و«إلكتروني» و«ذكي» باتت ملتصقة بمعاناتهم مع بطاقات «الذكاء» الحكومي وبشقائهم سعياً لـ«تنزيل» بعض اللقم في المعدة، أو الاحتماء من سحابة ماطرة، قبل أن يفكّروا بـ«تنزيل» بياناتٍ ما من مساحة «تخزين سحابيّ» افتراضي على الإنترنت. لكن هذا لا يعني بالطبع بأنّ السوريّين لا يستحقون التمتع بأحدث منجزات ثورة الاتصالات والمعلومات التي يفترض أنها اليوم حقّ وضرورة إنسانية معاصرة، بكل مناحي الحياة. يتناول التقرير التالي شروط «التحوّل رقمي» علماً أنّ الدولة يجب أن تحقّق أولاً شروط وجود «اقتصاد» أصلاً في بلد موحّد حتى تصبح «رقمَنَته» ممكنة.
لا بد في البداية من التأكيد على أنّ التحول الرقمي مهمة من العيار الثقيل لها علاقة مباشرة أولاً بإنهاء الأزمات والاستقرار السياسي، وتوحيد البلد، ووضعه على سكة نموذج جديد قابلٍ للحياة وليس الاستمرار بسياسات «السقوط الحرّ» في هاوية الفشل والكوارث الليبرالية واستمرار الأزمة السياسية.
انعقد المؤتمر الرقمي المذكور في قصر المؤتمرات بدمشق بين 9 – 11 نيسان الجاري، وهو فعالية ينظم دوراتها «الاتحاد العربي للتجارة الإلكترونية بالتعاون مع المجموعة العربية للمعارض والمؤتمرات» (المؤتمر الأول كان في الإمارات 2017 والثاني في مصر 2018).
حضر المؤتمر خبراء عرب وأجانب ورجال أعمال وإداريين وهيئات ومراكز بحثية من (مصر والإمارات وسلطنة عمان وتونس والجزائر والعراق والأردن ولبنان والسعودية والكويت واليمن والبحرين وروسيا والنمسا واليونان والهند وسويسرا) إضافة إلى الجهات السورية الحكومية والخاصة.
مصطلحات كثيرة ترددت في المؤتمر وتغطياته الإعلامية: «بلوك تشين» – تجارة رقمية – دفع رقمي – عملة رقمية - تنمية مستدامة - تعليم إلكتروني - أمن المعلومات والأمن السيبراني... وغيرها.
خبير يتحدث عن ستة شروط
على إحدى المنصات الإلكترونية الرسمية Digitec التابعة لـ«المؤتمر الدولي للتحول الرقمي» نفسه الذي انعقدت دورته الثالثة في دمشق، ولكن حول فعالية سابقة هي مؤتمر Seamless 2017 للتحول الرقمي المنعقد في الإمارات، نجد محاضرة مفيدة ألقاها عاطف حلمي، وزير الاتصالات والتقانة المصري الأسبق.
قال حلمي آنذاك بأنّ «الاقتصاد الرقمي يشكل نحو 25% من الاقتصاد العالَمي» مع توقعات بتضاعف النسبة اليوم. والجزء الأهم من كلامه هو المتعلق بالمتطلبات والشروط لامتلاك «اقتصاد رقمي ناجح» – رغم أنّ المقصود بـ«النجاح» قد يكون وفق المعايير الرأسمالية الليبرالية التي يبدو أنّ حلمي يمثّلها ولا شكّ بأنّ كثيراً من المشاركين في النسخة السورية من المؤتمر يمثلونها بالطبع وعلى رأسهم الحكومة السورية.
ولكن هذا لا يعني بأنّ الشروط التي تكلّم عنها حلمي بحد ذاتها ليست بالفعل شروطاً ضرورية لتحوّل رقمي، أما كيفية جني ثماره لمصلحة أية طبقات في المجتمع، فهذا أمرٌ آخر يختلف حسب النظام السياسي-الاقتصادي للبلد.
وبكل الأحوال يجب امتلاك «رؤية» و«استراتيجية» و«لبنات بناء» أساسية للاقتصاد الرقمي، وهي وفقاً لحلمي ست لبنات أساسية، نلخصها فيما يلي:
أولاً – البنية التحتية الفيزيائية: تكنولوجيا اتصالات شبكات الحزمة العريضة broadband والألياف البصرية fiber optics عبر جميع مناطق البلد، مشدّداً بأنّ هذا لا يعني اقتصارها على «المدن الرئيسية» في البلد، بل يشترط توسيع شبكة الألياف البصرية والخدمات إلى المناطق الريفية والنائية. كما وذكر تقنية الجيل الرابع و LTE 4G (نقل البيانات اللاسلكية «واير-لس» التي تسمح بتحميل المستندات والموسيقى والفيديو بسرعة أكبر بكثير من الجيل الثالث 3G) كما وذكر التوجه نحو الجيل الخامس أيضاً 5G. تحت بند البنية التحتية ذكر الخبير المصري أيضاً أهمية شرط وجود «الحوسَبة السَّحَابيّة» cloud computing (التي توفر عدداً من الخدمات الحاسوبية المتكاملة دون التقيد بالموارد المحلية بهدف التيسير على المستخدم، مثل مساحات لتخزين البيانات والنسخ الاحتياطي والمزامنة الذاتية، ودفع البريد الإلكتروني والطباعة عن بعد...)، فضلاً عن الكابلات البحرية.
ثانياً – بنية تحتية معلوماتية ذات محتوى رقمي: لفت حلمي إلى أنّ البلاد العربية التي تحوي 5% من سكان العالَم، لم تحقق رقمنة سوى بنسبة 2% فقط من إجمالي محتوى المعلومات العربية على تنوعها. ولذلك من الشروط أيضاً وجود «منصة رقمية وطنية متكاملة عبر البلد بأكمله»، والتي لا تعني مجرد تأمين اتصال بين المواطنين ومقدمي الخدمات، بل وشدّد على أنْ تكون «مناسبة» وتكاليفها معقولة وممكن تحمّلها من المواطن. ولنا أن نتخيّل مباشرةً أنّ تحقيق مهمة كهذه تكاد تكون مستحيلة في الواقع السوري الحالي بحال استمرار سيطرة الفساد الكبير ولصوصية رأس المال الخاص الذي ما زال يستلب قطاع الاتصالات بخدمات سيئة وتكلفة باهظة.
ثالثاً – «التنمية المجتمعية»: ضرورة رفع قدرات الناس في المناطق النائية، ورفع الوعي وتدريبهم وتشجيعهم لكي يمتلكوا القدرة والرغبة والثقافة لاستعمال الخدمات الإلكترونية بالفعل.
رابعاً – البرامج والمبادرات الصناعية الرقمية: ويعني ذلك تشجيع الابتكار لدى فئات المجتمع المحترفة والمهنية، وتشجيعهم على استخدام تطبيقات الموبايل، وأهمية القطاع الأكاديمي والتعليم العالي في هذا المجال وتكامله وتعاونه مع الاقتصاد والأعمال.
خامساً – تأمين الاتصال بشبكة الإنترنت عبر استراتيجية وطنية شاملة تؤمّن الإنترنت بشكل موثوق ويومي وآمن وسريع مع حماية خصوصية المستخدمين، وتحقيق «الأمن السيبراني».
سادساً – أطر العمل القانونية والتنظيمية والتشريعات المناسبة: بحيث تساعد المواطنين والمستخدمين على استعمال الخدمات الإلكترونية والرقمية. وبالنسبة للمؤتمر الذي انعقد في دمشق، من غير المبشِّر أنّه بدل التركيز على انخراط الدولة والقطاع العام، شدّد «المشاركون» على ضرورة التشريعات والتسهيلات لما وصفوه بـ«رأس المال المغامر»، وفق ما نقلت إحدى وسائل الإعلام.
ويجدر بالذكر أن الخبير المصري ربط بين الاقتصاد الرقمي وإرادة حقيقية لـ«محاربة الفساد» في العالم النامي وتحسين الإنتاجية والخدمات، وبالعدالة الاجتماعية وإيصال الخدمات إلى المناطق الريفية والمهمّشة. وكمثال على بلدان اعتبرها نماذج ناجحة في الاقتصاد الرقمي قال إن الأنجح برأيه هي «الولايات المتحدة الأمريكية» و«الإمارات العربية المتحدة». وبالنسبة لتركيا – البرازيل – الأرجنتين، قال بأنّها بلدان كانت قبل نحو 20 عاماً «على وشك الإفلاس» فجاء «الاقتصاد الرقمي» ليسهم بـ«إنقاذها» وفقاً لكلام حلمي في 2017. ولكن لنلاحظ اليوم أنّ البرازيل على الأقل أعلنت إفلاسها على لسان رئيسها، مما يعني بأنّ «التحول الرقمي» ليس بحدّ ذاته «ضمانة سحرية» لإنقاذ اقتصاد بلد، وخاصةً إذا كان مبتلى بسياسات إفقار ونهب وفساد (وتحديداً نيوليبرالية).
ماذا عن الـ«بلوك تشين»؟
ونختم حول مصطلح يتكرر في هذه المؤتمرات وهو «البلوك تشين» Bloc Chain وتعني «سلسلة الكتل»، ولنقرأ مما ورد عنه في مقال رأي سابق على الموقع الرسمي للأمم المتحدة، كتبته كاثي موليغان الباحثة والخبيرة في هندسة العملة المشفرة، وزميلة بمجلس المنتدى الاقتصادي العالمي المعني بتقنية «البلوك تشين» وعضوة في الفريق الرفيع المستوى للأمين العام للأمم المتحدة المعني بالتعاون الرقمي:
«هناك قدر كبير من الصخب حول تقنية (البلوك تشين)... يتحدث الناس غالبًا عن العملات المشفرة على أنها «خالية من سيطرة الحكومة» أو خارج السوق والنظام السياسي الحالي. ومع ذلك، فإن تقنية (البلوك تشين) غير موجود في فراغ، بل تعمل بالفعل داخل الاقتصاد السياسي مثل كل التقنيات الأخرى. وعلاوة على ذلك، فإن فكرة أن العملة يمكن أن توجد دون تدخّل الحكومات هي فكرة خاطئة؛ لا يوجد شيء سياسيّ أكثر من المال...».
هذا وحذّرت الخبيرة أيضاً من أنّ «الانتقال إلى اقتصاد رقمي بالكامل دون تحديث أنظمتنا التعليمية هو وصفة كارثية مؤكدة».