ما هي الأهداف السياسية لكارثة الحرائق، ولطريقة التعامل الإعلامي معها؟

ما هي الأهداف السياسية لكارثة الحرائق، ولطريقة التعامل الإعلامي معها؟

بالتوازي مع الحرائق المفتعلة التي التهمت الساحل السوري، اشتعل الحيز الذي يشغله السوريون من وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة فيسبوك، بحرائق من نوع آخر... فقد بذل «مثقفون» وصحفيون وسياسيون، (محسوبون بمعظمهم في عداد "الموالاة") قصارى جهدهم في تحويل هذا الحيز إلى منبر لشتى أنواع الهجمات على الروس ودورهم في سورية، والحجة أنّ الروس وقفوا متفرجين على الحرائق ولم يساهموا في إطفائها!... وبطبيعة الحال، لم يتأخر زملاء هؤلاء المحسوبون على "المعارضة" عن نصرتهم في «قضيتهم» هذه، كما هو الشأن في قضايا عديدة متشابهة، تبدأ من الخبز والمازوت ولا تنتهي عند تطابق المواقف من اللجنة الدستورية والحل السياسي ككل...

تثبيت الوقائع

قبل الدخول في نقاش المسألة، لا ضير من تثبيت أمرين هما: الأول هو أنّ الروس قد أسهموا فعلاً في إطفاء الحرائق، وليس عبر سيارات إطفاء فقط (كما قال الخبر اليتيم في جريدة الوطن نقلاً عن رئيس بلدية القرداحة)، وإنما أيضاً عبر طائرات إطفاء تدخلت بعد أقل من 24 ساعة من بداية الحرائق.

هذه المساهمة جرى توثيقها في فيديو صدر بالروسية يوم السبت الماضي (وهو مرفق مع ترجمته العربية التي قدمتها سبوتنيك بعد يومين كاملين!) وكان موقع المركز الثقافي الروسي في دمشق على الانترنت قد نشر يوم السبت المعلومات التالية حول المساهمة الروسية في اليومين الأولين للحرائق: «قامت مروحيتان روسيتان بـ٦٥ طلعة لإطفاء الحرائق وقامت بإلقاء عشرات الأطنان وبالتحديد أكثر من ١٣٠ طن من الماء على الحرائق».

الأمر الثاني هو أنّ قسماً عريضاً من الإعلام السوري، قد ساعد حملة الهجوم هذه بشكل مباشر أو غير مباشر، مقصود أو غير مقصود؟، بأن سكت عن خبر طائرات الإطفاء الروسية المشاركة في إطفاء الحريق، أو أخّر نشره... بل والأكثر إثارة للدهشة أن الإعلام الروسي الناطق بالعربية، هو الآخر إما أنه لم ينشر شيئاً حول تلك المساهمة أو تأخر في النشر!

وهكذا، بقدرة قادر، جرى حرف قسم كبير من النقاش حول الحرائق، ليوضع البحث عن الأسباب والفاعلين جانباً، ويجري التركيز على الخذلان (المفترض) من الروس!

إضافة إلى ما سبق، ينبغي ألا يسقط من الاعتبار أنّ موجة الحرائق هذه ليست الأولى من نوعها، بل باتت تقليداً سنوياً يأتي ضمن الفترة ذاتها تقريباً من كل سنة، مع الاختلاف في حجم الدمار الذي تخلّفه. من الذاكرة القريبة، لا يمكن أن ننسى حرائق 3 تشرين الثاني في ريف اللاذقية عام 2016، والتي وصلت إلى 15 حريقاً اشتعلت كلها ليلاً «بالمصادفة» طبعاً، و«بالمصادفة» في وقت واحد، و«بالمصادفة» مع ظروف ريح مواتية للامتداد، والتهمت في حينه ما يصل إلى 400 هكتار من الأراضي الحراجية والزراعية... ومن الذاكرة الأقرب، هنالك حرائق أيلول من هذا العام، والتي جاءت ضمن سلسلة «المصادفات» العجيبة نفسها، والتي تصب أرباحُها المالية القذرة كل مرة في جيوب فئة من (المفحمين- المحطبين- كاسري الحراج- المستثمرين..)، ويمكن هذه المرة، ولأن الحرائق شملت بقسم مهم منها أشجار ومواسم الزيتون لهذا العام، أنّ يكون المستوردون الكبار يدفئون أيديهم حماساً بنيران الحريق استعداداً لاستيراد كميات كبيرة من زيت الزيتون هذا العام. يضاف إلى الحرائق المذكورة هنا، عشرات الحرائق التي نشبت الأسبوع الماضي فقط وبالتزامن في (حمص- طرطوس- اللاذقية)... ولكنّ الأرباح الأكثر قذارة، ليست تلك المالية، بل السياسية بالذات... كما سنبين لاحقاً.

 

 
 من مساهمة الحوامات الروسية في إطفاء الحرائق الأخيرة

 

 

كل الأزمات تأتي «فجأة»، وفي الموعد نفسه!

إذا كانت سنين الحرب في سورية قد خلقت أو عمّقت شتى أنواع الأزمات المعيشية والاقتصادية والبيئية..وإلخ، فإنّ ما لا يجوز القفز فوقه هو أنّ أصنافاً عديدة من الأزمات لم تولد «فجأة» مع الأزمة، بل هي ممتدة ومستمرة مما قبلها بسنوات عديدة، إنْ لم يكن بعقود...

للتذكير فقط، نستحضر مثال الأزمة السنوية للمازوت. لا حاجة إلى إنعاش الذاكرة بما يخص سني الأزمة؛ إذ بات السوريون يعرفون أن أزمة المازوت هي جزء من الأجندة السنوية لكل عام، والتي تأتي «مباغتة» لأجهزة الدولة، في كل سنة وفي الموعد ذاته تقريباً. ولكن ربما تحتاج الذاكرة إلى إنعاش بما يخص سنين عديدة سبقت الأزمة...

لا يمكن أن ينسى السوريون اليوم الأسود من عام 2007 والذي قررت فيه الحكومة السورية برعاية سيئ الذكر عبد الله الدردري أن ترفع الدعم عن المازوت رافعة سعره من 7 ليرات لليتر إلى 25 ليرة... وما خلّفه ذلك خلال أشهر قلائل من دمار هائل في الثروة الزراعية (التي لم يعد لدى الفلاحين إمكانية سقايتها باستخدام الميتورات العاملة بالمازوت) وكذا الثروة الحيوانية... ولعل سكان دمشق وحلب، يتذكرون كيف امتلأت ساحات المدينتين الرئيسية والفرعية في حينه، بالآلاف من أبناء الجزيرة السورية من الفلاحين الذين خسروا مواسمهم وتركوا أرضهم وافترشوا تلك الساحات بلباس العمل الميداني بانتظار من يعرض عليهم أي عمل (فعالة كما يسمونه: ويعني مختلف الأعمال العضلية من عتالة وتعزيل وبناء وغيرها) ليحصّلوا قوتهم وقوت عيالهم.

 

استطراد ضروري

هل تذكرون أي الحجج والذرائع جرى تقديمها في حينه لرفع الدعم عن المازوت؟ الحجة الأساسية هي أنّ السعر أرخص من دول الجوار لذلك يجري تهريب المازوت. وكيف كان يتجلى ذلك الأمر؟ نعم، كان يتجلى بأزمات المازوت السنوية مطلع فصل الشتاء، وعبر الطوابير الطويلة... الطويلة... واختفاء المادة من الأسواق... ودائماً وأبداً، وحتى الآن، يجري الحديث عن «الدعم» الذي جرى رفعه بوصفه مكرمة تقدمها الدولة للشعب! في تناقض مع الحقيقة الواضحة التي تتلخص بما يلي: الدعم هو إعادة توزيع جزئي للثروة المنهوبة، للتعويض عن حجم النهب الهائل للأجور(حيث كان توزيع الثروة قبل 2011 يتم بالشكل 75% يبتلعها أصحاب الأرباح، و25% لباقي السوريين، وبالتحديد لحوالي 80% من السوريين)، بحيث يصبح ممكناً لمنتجي الثروة هؤلاء (أي العمال والفلاحون والموظفون وعموم فقراء الشعب السوري، 80% من السوريين) أن يواصلوا إنتاج الثروة التي ستصب بقسمها الأعظم، كل عام، كما سابقه، في جيوب الناهبين الكبار.

نزعم أنّ الاستطراد السابق ضروري، لأنّ الأجور لو كانت مكافئة لحاجات المعيشة بحدها الأدنى، ولو لم تكن منهوبة، ليس خلال الأزمة فحسب، بل وقبلها أيضاً، لما كانت هنالك ضرورة للدعم من الأساس، والذي تصر صفاقة بعض المسؤولين والمحللين والمرتزقة من «علماء الاقتصاد»، من أتباع وأنصار الناهبين الكبار، على تصويره وكأنه منّة ومكرمة على الشعب... الشعب الذي ينتج الثروة بأسرها (بأرباحها وأجورها) ولا ينوبه منها حتى الحد الأدنى الضروري للغذاء (في الربع الماضي من السنة، بات الحد الأدنى الضروري لكفاية حاجة أسرة سورية من 5 أشخاص من الغذاء الأساسي هو 311 ألف ليرة سورية شهرياً...بينما متوسط الأجور بحدود 60 ألف ليرة!).

ونزعم أنّ هذا الاستطراد ضروري، لأنه يضع المصيبة الجديدة (مصيبة الحرائق)، في سياقها الحقيقي، أي في سياق جملة الأزمات التي تعيشها البلاد منذ سنوات طويلة ما قبل 2011...

 

 

مساعدة الحوامات الروسية في إخماد الحرائق في سورية

 

 

تمهيد لعرض الأهداف

قبل عرض ما نعتقد أنه الأهداف السياسية لنقل إحداثيات التعاطي مع الأزمات السورية العديدة، صوب الهجوم على الروس بشكل خاص، ينبغي أن نمهّد بالنقاط التالية:

  • سواء كان الأمر «هجوماً إعلامياً» من قبل سوريين، على روسيا وسياساتها اتجاه سورية، أو «دفاعاً إعلامياً» عنها... فإنّ المعنيّ بالمسألة هو سورية نفسها ومستقبلها بالدرجة الأولى، وليس الروس... فلا الهجوم ولا الدفاع سيؤثران أي تأثير جدي على وزن روسيا الدولي.
  • ولأن الوضع السوري هو ساحة اشتباك دولي وإقليمي، ولأنّ نتائج هذا الاشتباك ستلعب دوراً أساسياً في رسم المستقبل السوري، فإنّ طبيعة الاصطفاف بين «دفاع» و«هجوم» هو في جوهره اصطفاف معلن أو غير معلن اتجاه القوى الدولية والإقليمية الأخرى الموجودة على الساحة، وهو كمحصلة اصطفاف من الخيارات النهائية بما يخص مستقبل سورية وأزمتها، وبالذات كيفية خروجها (أو عدم خروجها) من الأزمة.

 

الأهداف السياسية

أقل الأهداف أهمية من الهجوم على روسيا، عبر إلقاء مسؤولية الأزمات المختلفة على كاهلها (من أزمة سعر الصرف إلى المازوت والبنزين والقمح والحرائق وإلخ)، هو التغطية على الفاعلين الحقيقيين والمستفيدين من هذه الأزمات... وهؤلاء طرفان واضحان: الأول هو الغرب بعقوباته وصفقاته الفاسدة من تحت الطاولة مع الفاسدين الكبار (الذين يعاقبهم بالعلن ويتعامل معهم عبر السماسرة بالسر!)، والثاني هو هؤلاء الفاسدون الكبار أنفسهم، والذين تحولوا إلى محتكرين كبار يدفّعون الشعب السوري ثمن عدد كبير من البضائع أضعافاً مضاعفة عن السعر العالمي بحجة العقوبات والحصار (27 مليار ليرة سورية شهرياً أرباح المحتكرين الكبار من خمس مواد غذائية أساسية فقط/ البنزين المستورد لسورية 3 أضعاف العالمي: و(ربح العقوبات) قد يصل 920 مليون دولار سنوياً!)... في حين أنّ الحلول الواقعية (وإنْ كان الحل الشامل الوحيد هو الحل السياسي، حتى حين يتعلق الأمر بالأزمات الاقتصادية) إلا أن الحلول الجزئية موجودة وكلمة السر فيها هي التخلي عن الدولار والانتقال إلى منظومة SWAP بدلاً من SWIFT الغربية، والاتجاه شرقاً بالفعل لا بالكلام... (يمكن العودة إلى الروابط المضمنة لمزيد من التفاصيل، وهي بمعظمها مقالات بحثية لمسؤولة الشؤون الاقتصادية في قاسيون، عشتار محمود).

وقد اعتبرنا الفائدة السابقة من الهجوم، أي التغطية على الفاعلين الحقيقيين، أقل أهمية مما سنعرضه تالياً، لأنّ النهب والتهرب من مسؤوليته رغم أهمية ذلك بالنسبة للناهبين، يأتي بالدرجة الثانية من الأهمية بعد الحفاظ على شروط استمرار النهب... ونقصد بذلك الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تسمح للناهبين باستمرار عملية النهب.

ولذا، فالهدف السياسي الأساسي –برأينا- من الهجوم على روسيا، يتلخص بالعمق بالنقطتين التاليتين:

  • مغازلة الفاسدين الكبار للغرب، بأقطابه المختلفة، وتوسيع الأبواب الخلفية المفتوحة معه، أملاً بالوصول إلى ترتيب ما للمرحلة اللاحقة يحافظ على أسس النهب... وأي مغازلة يمكنها أن تكون أقرب لقلوب المسؤولين الغربيين من الهجوم على روسيا؟
  • التلويح الضمني، (والذي تحول في مفاصل عديدة إلى علني، سواء عبر مسؤولين سوريين أو عبر "مثقفين" وصحفيين)، وخاصة مع نضوج استحقاقات الحل السياسي، بأنّ الفاسدين الكبار وما يسيطرون عليه من سياسات حكومية، يمكن في حال لم يمتثل الروسي إلى رغباتهم في منع تنفيذ 2254 ومنع أي تغيير، أن ينقلبوا ضده، وأن يصطفوا مع أعدائه بالذات، في حال قبل هؤلاء الأخيرون تمرير صفقة ما من تحت الطاولة... بما في ذلك كجزء من صفقات إقليمية أكبر.
آخر تعديل على الثلاثاء, 13 تشرين1/أكتوير 2020 13:58