الأسعار وارتباطها بالدولار... النزعة التجارية والريعية
تبدو سوق السلع المحلية مرتبطة بتغيرات الدولار... وهذا صحيح، فالدولار يتحول إلى أداة التسعير في السوق السورية اليوم، رغم كل القوانين والتشريعات التي تبقى (حبراً على ورق) لأن القوانين الموضوعية في السوق هي التي تفعل فعلها. ولكن هل الدولار فعلياً هو محدد الأسعار؟!
يطرح السوريون سؤالاً بسطياً ومنطقياً: لماذا ترتفع الأسعار مع ارتفاع سعر الدولار، ولكنها لا تنخفض مع انخفاضه؟! والإجابة يمكن أن تكون بسيطة حيث لا ثقة للسوق بأن انخفاض الدولار مستمر بل يعلمون أنه مؤقت... ولكن أبعد من هذا، تكشف هذه الحالة أن التسعير لا يرتبط بالدولار إلّا جزئياً، وهو فعلياً يرتبط بفقدان الثقة بالليرة وسوق المضاربة على السيولة.
ترتفع أسعار السلع مع ارتفاع الدولار لسبيين، الأول ظاهري: ويتعلق بأن جزءاً هاماً من السلع أو مكوناتها مستورد ومرتبط بالقطع الأجنبي، وهو ما يسمى (النزعة التجارية)، أما الثاني: فهو يتعلق بسوق المال، أي: بحركة تداول الليرة والدولار والبضائع الأخرى، التي تلعب وظيفة حافظ للقيمة وتحديداً الذهب والعقارات بمستوى أقل، والتي تلعب دوراً أساساً في تحديد المستوى العام للأسعار، وهو ما يمكن أن نسميه (النزعة الريعية).
النزعة التجارية الناتج المرتبط بالخارج
إن حجم ارتباط الناتج المحلي بالخارج يسمّى عادة بالنزعة التجارية، وهو يُقاس عادة بالعجز التجاري، أي: الفرق بين الواردات والصادرات، ونسبتها إلى حجم الناتج السنوي. فالدولار مطلوب للدفع للواردات، وفي المقابل، يمكن أن تتم تلبية جزء منه عبر التصدير. فعندما تكون الواردات أكبر من الصادرات فإن جزءاً من الدخل الناتج يجب أن يتحول إلى دولار لتلبية الواردات.
وبأخذ العام 2018 وهو العام الذي تتوفر فيه بيانات حكومية، فإن النزعة التجارية في الاقتصاد السوري كانت: 21%. أي: من كل 100 ليرة دخل سنوي هنالك 21 ليرة يجب أن تتحول إلى دولار لتغطي الواردات.
وهذه النسبة في عام 2010 لم تكن تتعدى: 8%، إذ تضاعفت النزعة التجارية في الاقتصاد السوري بسبب التراجع الكبير في الناتج، والأكثر تأثيراً التراجع الكبير في الصادرات. (من بيانات المجموعة الإحصائية السورية لعام 2019).
تعتبر نسبة 21% (مرتفعة جداً) وفق تصنيف منظمة اليونكتاد لهذا المؤشر... فالدول التي نسبة العجز التجاري فيها للناتج تفوق 20% تعتبر شديدة النزعة التجارية والارتباط بالخارج.
ارتباط القطاعات الحقيقية بالخارج
ولكن، إذا ما فصّلنا أكثر في النزعة التجارية للاقتصاد السوري في الظرف الحالي، وطبّقنا المعيار السابق على القطاعات الحقيقية، حيث يتحقق الناتج الفعلي، ومدى ارتباطه بالمستوردات، فإن النسبة ترتفع بشكل ملحوظ...
إنّ قطاعات الإنتاج الفعلي، التي يتولد منها الدخل الحقيقي والثروة الجديدة تعتمد على الخارج بنسب هامة، وهي القطاعات الأربعة الأساس: الزراعة، والصناعة، والإنشاء، وقطاع خدمات النقل والتخزين والاتصالات، التي ساهمت بنسبة 66% من ناتج 2018. ولمحاولة تقدير اعتماد دخلها السنوي على الدولار، يمكن مقارنة صافي تجارتها الخارجية مع ناتجها.
والنسبة التقديرية تشير إلى أن النزعة التجارية في هذه القطاعات تبلغ 36%. أي: مقابل كل 100 ليرة ناتج متحقق في هذه القطاعات ينبغي أن يتم تحويل 36 ليرة إلى دولار لتغطية جزء المستوردات التي لا تستطيع الصادرات أن تغطيها.
وقد تمّ تقدير تجارتها الخارجية بأخذ صافي التجارة الخارجية للسلع الوسطية والسلع الرأسمالية، التي تستخدم في هذه القطاعات حصراً، وقد بلغ صافي تجارة هذه السلع 2223 مليار ليرة، أي: ما يعادل في حينها: 5 مليارات دولار بأسعار الدولار الرسمي. بينما بلغ ناتجها السنوي: 6085 مليار ليرة أي: ما يقارب: 14 مليار دولار.
إن أكثر من ثلث ناتج هذه القطاعات يرتبط بالدولار، وعلى المنتجين نظرياً أن يرفعوا أسعارهم بهذه النسبة ليغطوا ارتفاع تكاليف الاستيراد...
ولكن، الارتفاعات تأتي أعلى من هذه النسبة، ففي الغذائيات، مثلاً: ارتفعت تكلفة سلة الغذاء خلال العام الحالي بنسبة أعلى من ارتفاع سعر الدولار بمقدار الربع 24% إضافية (وفق تكاليف سلة قاسيون للغذاء).
والدولار باعتباره يعكس تكلفة الاستيراد الخارجي، لا يمكن أن يفسّر كل ارتفاعات الأسعار الحاصلة التي ترتبط بالوجه الآخر للدولار ولليرة، باعتبارها سلعاً يتم تداولها، والتي يمكن أن نسميها (النزعة الريعية).
النزعة الريعية التسعير المرتبط بكلفة رأس المال
يضطر المنتجون لأن يغيروا أسعارهم بنسبة 36% نظرياً مع تغيرات سعر الدولار، التي تتحدد في سوق تداوله (بيعه وشرائه واحتكاره)، ولكن، ماذا عن الـ 64% المتبقية، والتي يفترض أنها تُسعّر محلياً وبالليرة؟! إنّها أيضاً تُسعّر في سوق تداول المال المحلية... حيث يتم احتكار الليرة أو تغريق السوق بها وبيعها وشراؤها مقابل السلع الأخرى.
المنتجون يسعّرون على أساس تكاليف استثمارهم الموزّعة بين الدولار والليرة، وفي بيئة لا يلعبون فيها الدور الحاسم في تحديد قيمة العملة وتداولها. وهم يسعون إلى حماية معدل ربحهم عبر وضع هامش لتغيّر قيمة الليرة، ما يُسمّى بتكلفة رأس المال. ليضعوا نسبة إضافية إلى التسعير تقارب معدل التضخم المتوقّع كهامش حماية... لأن الليرات التي سيجنونها كدخل قد لا تكون قادرة على تغطية التكاليف ذاتها بعد سنة، أو حتى بعد عدة أشهر.
ولتسهيل العملية، يتم تسعير كل المستلزمات المستوردة وغير المستوردة على أساس الدولار، لأن قيمته أكثر ثباتاً في الخارج، وهو بديل الليرة المتراجعة في الداخل... ليتحول الدولار إلى عملة التسعير الإنتاجي، وتتحرك أسعار كل السلع المحلية والمستوردة مع تحركاته.
يضطر المنتجون للقيام بهذه العملية، ورفع الأسعار مع ارتفاعات تكلفة رأس المال، ليحاولوا الحفاظ على دخلهم ثابتاً، عبر تحميل الحلقة الأضعف وهي: المستهلكون والعاملون بأجر تحديداً، كلفة هذا الارتفاع من خلال رفع أسعار السلع النهائية في السوق المحلية.
والمنتجون بدورهم، هم حلقة أضعف للقوى الأكبر الفاعلة في سوق رأس المال، أي: مالكو الفوائض الذين لا يرضون بمعدل ربح 15-20%... بل يحصلون على ربح احتكاري من الهيمنة على استيراد الأساسيات بمعدلات ربح أضعاف التكلفة، ومن متاجرتهم بالقطع الأجنبي والعقارات والمعادن الثمينة، ومن هيمنتهم على المال العام والأراضي العامة وأرباحهم من نهبه، هذا عدا عن حصصهم المجانية عبر إتاوات على الدخل المنتج في السوق تأتي من مواقع النفوذ و(السلبطة) مثل: الدور الذي تلعبه الحواجز ونقاط العبور، هذا عدا عن نشاطهم الأسود وأرباحه الكبرى. إن هؤلاء هم من يحددون قيمة العملة في ظل غياب أي دور فاعل للدولة والسلطة النقدية، وذلك لأنهم يمتلكون الكتلة الأكبر من السيولة.
إن نزعة الريع، أي: الوزن الكبير لاستثمار الأموال وتدويرها في نشاطات المضاربة، هي عامل أساس في تراجع قيمة الليرة، وزيادة الطلب على الدولار، وتهريب الأموال إلى الخارج. وهي عملياً (تتسلبط) على الدخل المنتج في القطاعات الإنتاجية داخل البلاد، وتضخّم تكاليفها... وهؤلاء هم الأكثر قدرة على المحافظة على معدلات ربحهم، وحجم أرباحهم بين شرائح الدخل الأخرى، لأنهم يستطيعون الضغط على المنتجين، وعلى المستهلكين، وعلى المال العام. وتصل إلى أيديهم أكبر كتلة من الليرة يسارعون إلى تحويلها إلى دولار وعقارات وذهب وأرصدة خارجية.
دخل الجميع يقل ويتشوّه توزيعه
إنّ كبار مالكي المال، وقوى الاحتكار والفساد والسلبطة، هم عبء على المنتجين والمستهلكين... وهم سبب أساس في تراجع قيمة الليرة، والطلب على الدولار. ومع كل توسّع في نفوذهم وطبيعة نشاطهم فإن الأسعار سترتفع، ومع كل دورة ارتفاع أسعار فإن إمكانات الاستهلاك تتقلص، وتؤدي بالتالي إلى تقليص حجم الإنتاج، ومع تقلّص الإنتاج يتراجع توليد دخل وثروة جديدين، ويتعمق الركود... ويبدأ المنتجون تدريجياً بالخروج من السوق ليهاجروا بما تبقى من أموالهم، أو لينقلوا نشاطهم إلى نشاط تجاري وريعي تحت كنف مالكي المال (مثلما يحصل مع توسّع تهريب البضائع الزراعية، فقطاع تربية المواشي مرهون لسوق التهريب، وينضم إليه حديثاً إنتاج البيض وأنواع من الخضار)... أي: تتم عملية إعادة توزيع ثروة لمصلحة من هم فوق على حساب المنتجين في الصناعة والزراعة وغيرها، وليس فقط على حساب أصحاب الأجور.
أما أصحاب الأجر، فإنهم يزدادون فقراً ويصلون إلى حد الجوع الذي يشمل 9 ملايين اليوم! أو يدخلون في دائرة البطالة، ويبحثون عن سبل الارتزاق بعد أن أُغلقت طرق الهجرة الانتحارية بالبحر...
مسألة الأسعار تعكس كل شيء... فارتباط الأسعار والإنتاج المحلي بالدولار هو فقدان البلاد (لسيادتها)، وهو ناجم عملياً عن تراجع الإنتاج المحلي والارتهان للاستيراد، وعن تسيّد مالكي المال وأصحاب الربح الضخم من النفوذ والتجارة الاحتكارية، وسعي هؤلاء إلى ربح سريع مضاربي.
إن تقليص النزعة التجارية عبر إنتاج بدائل المستوردات، وإعادة ربط الإنتاج المحلي بمستلزمات محلية الصنع، هو ضرورة لفك ارتباط أسعار السلع بالدولار، ولكن هذه الضرورة لا يمكن أن تتم طالما أن الليرة مرهونة (لنزعة الريع) أي: لمن تتكدس لديهم أكبر كتلة لليرة، ويبيعونها برخص مقابل الدولار، الذي يهاجر جزء هام منه إلى أرصدتهم الخارجية. إن استعادة السيادة تتطلب استعادة الإنتاج المحلي عبر استعادة الموارد المتراكمة لدى القوى المالكة للثروة، والمتحكمة بتوزيع الدخل، والتي لم تعد تكتفي بدفع أصحاب الأجور للجوع، بل وتدفع المنتجين للتوقف عن إنتاجهم، وتقضي على ما تبقى من دعائم الاستقرار.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 976