كورونا يُصيب «الدولة الفاشلة»
إنّ وباء فيروس كورونا المستجد، قد وضع العالم على محك مباشر مع الحقائق، وبدأ بتقشير الدول واحدة تلو أًخرى لتبدأ بالتعري أمام شعوبها، ولسرعة هذا الوباء وارتباطه مباشرة بالوجود الإنساني من حياة وموت، وبروز النموذج الصيني بالمقارنة مع المنظومة الغربية، فقد أصاب مباشرة وسريعاً أيضاً، العديد من المفاهيم المرتبطة بالوعي البشري، لتدخل على إثره مرحلة «سريرية»، جراء الصدمة، نحو الاستشفاء...
أتحفنا الأوروبيون والأمريكيون، طيلة عقودٍ خلت بمصطلحات ومفاهيم متنوعة ومطاطة حول «الدولة»، مثل «الدولة القوية – الدولة الرخوة – الدولة الهشة – الدولة المارقة... الخ.» إلا أنّ أكثرها استخداماً ورواجاً قد كان «الدولة الفاشلة»، ورغم عدم اتفاق دولتين على الأكثر من بين هؤلاء حول أيّ من معاني وتفسيرات هذه المصطلحات بالجانب النظري والعام، إلا أنّها جميعاً استُخدمت بتقييمات وتفسيرات مختلفة جداً كُل حين وآخر بما يتناسب مع الظرف السياسي والاستراتيجيات والأهداف الموضوعة من قِبلهم بحسب كل مرحلة.
بدايات وتطور
تشير بعض البحوث الحالية إلى ظهور مفهوم «الدولة الفاشلة» في ثمانينيات القرن الماضي من قِبل أكاديميي السياسة الغربيين، وانتقل إلى الساحة السياسية والإعلامية ببدايات التسعينات، واضعاً أول أهدافه «الصومال»، تحت ذرائع الحيطة والحذر من أخطار «الدول الفاشلة»، لما تسببه من أزمات ومضاعفات إقليمية ودولية... ومع تجربة «المفهوم» وتأثيره سياسياً واجتماعياً، جرى تطويره وأصاب لاحقاً «تاهيتي» و«البوسنة والهرسك». بعد ذلك، انتقل المفهوم إلى «الأمم المتحدة»، وتطورت معها الذريعة لتشمل البُعد «الإنساني»، ولتُنشئ ما يسمى بـ«مبدأ مسؤولية الحماية» الذي يُعطي ضوءاً أخضراً لـ«الدول القوية» للتدخل في «الدول الفاشلة» لـ«إنقاذ شعوبها»، وأصبحت تصدر لهذا المفهوم من مختلف مراكز الابحاث الغربية، وبشكل دوري، قوائم تصنيفية حول الدول من الأقوى إلى الأكثر فشلاً، عبر «مؤشرات» متنوعة وبصياغات مطاطة وغير مضبوطة و«عرضة للتأويل».
توازى ظهور هذا المفهوم الغربي، مع خواتيم مرحلة انتقال شكل الاستعمار القديم المباشر، عبر صيغ «الانتداب» و«الوصاية»، إلى الشكل «الجديد»، خدمةً له، عبر «الحروب الهجينة» أو «حروب الجيل الرابع» - التي تستند بجزءٍ هام منها إلى التلاعب في المفاهيم والوعي الاجتماعي عبر الوسائل العلمية - و«الشركات العابرة للقارات»، وقد برز بشدة في بدايات العقد الحالي مع انطلاقة ما سمي بالـ «الربيع العربي»، وكان استخدامه الأكبر يتعلق باستهداف الوعي الاجتماعي لشعوبِ «الدول الفاشلة»، التي هي ذاتها «الدول الطرفية المنهوبة»، بالاستناد إلى تناقضاتها الداخلية، ليفعل بالحد الأدنى -مع مختلف المصطلحات والأدوات الأخرى- إشكالات سياسية في البلد المُستهدف وتتبعه اضطرابات اجتماعية يجري تغذيتها، أو بالحد الأعلى، غطاءً دولياً وتمهيداً ضمن «الرأي العام والدولي» بحال تطلب الأمر تدخلاً مباشراً، كما جرى في العراق 2003 وليبيا 2011.
رغم التعريفات العديدة جداً لـ«الدولة الفاشلة»، إلا أنّ أكثرها استخداماً وعموميةً هو: فقدان الحكومة المركزية سيطرتها على إقليم أو أكثر من أراضيها، أو فقدان الدولة حقها السيادي في احتكار القوّة بشكلٍ شرعي، مما يعرضها للاضطرابات الاجتماعية، أو أن تصبح الدولة عاجزة عن تقديم الخدمات المجتمعية، أو فقدانها القدرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها، أو عجزها عن التفاعل والتعاون مع الدول الأخرى كعضو في «الأسرة الدولية».
هزّة في «المفهوم»...
مع التغيّرات الدولية، وتسارعها بشكل مضطرد منذ عدة سنوات وحتى الآن، بتراجع الغرب، وكثرة هزائمه، تراجع معه «زخم» هذه المفاهيم المصطنعة بشكل يتناسب وسرعتها أيضاً، ونذكر بشكل مختصر: خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والانقسام الأمريكي بعفنه الإعلامي «مهاترات المحاكم» ومؤشرات انقسام «الحزب الديمقراطي» أيضاً، وتظاهرات «السترات الصفراء» في كل من فرنسا وألمانيا، ناهيك عن أزمات الحكم والخسائر الجيوسياسية والاستراتيجية. ومؤخراً: أزمة النفط وخسائر البورصة الهائلة. إلا أنّ كل هذا الكلام في الجوانب السياسية والاقتصادية، لا يعادل ربع التأثير الحيّ لـ«وباء فيروس كورونا المستجد» على وعي المجتمعات والشعوب جرّاء الاستجابة السيئة والأداء الحكومي «الفاشل» لـ «الدول القوية» الغربية، لما له من علاقة بالمرض والحياة والموت المباشر اتجاهها، فهنا تحديداً، تسقط كل الادّعاءات، وتبرز الأفعال التي تعبر مباشرةً عن «الحقائق».
الصين، ذات الدولة «المركزية»، والتي في سياق تعريفات ومفاهيم الغرب أيضاً تحظى بـ«نظام شمولي»- ولهذا المفهوم فرعٌ خاص- مع ما يتبعه من مصطلحات ضمن الصورة النمطية المُنتجة، أثبتت قدرتها الاستثنائية على إدارة شؤونها في الأزمات وخارجها، وأوضحت بشكل لا يمكن لأحدٍ أن يتجاهله، أولوياتها اتجاه أراضيها وشعبها، ضاربةً عُرض الحائط «الربح» في مقابل «القيم الإنسانية» و«الحياة». ولا حاجة هنا لتكرار الاجراءات والبيانات التي تثبت ذلك. وبعد أن انتصرت في معركتها على «الوباء الفيروسي» بدأت تعرض استعدادها لمساعدة باقي الدول في محنتها، بإرسال المعدات والفرق الطبية والعلمية إليها، ومنها ما يصنّف «دول قوية».
في الوقت الذي تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، بـ«نَعي» شعوبها وبـ«الملايين»، واضعةً اياهم تحت رحمة «الغابة» الرأسمالية و«الاصطفاء الطبيعي»، ومغلقة حدودها فيما بينهم، لا للحدّ من انتشار الوباء بقدر اختبائهم خلف هذه الذريعة لعدم تقديم أية مساعدة، وليس لقلة النوايا أيضاً، وإنما لعدم القدرة والعجز عن مساعدة أنفسها أساساً... في حين أن كوبا مثالاً، «الدولة الفاشلة والمركزية» وذات «النظام الشمولي» تُرسل فرقاً ومعدات طبية إلى الخارج لمساعدة الشعوب.
...وارتدّ عليهم
الآن، واستناداً إلى التقاطعات في التعريفات المتنوعة لـ«الدولة الفاشلة»، وما هو الأكثر استخداماً... ألا تنطبق البنود السابقة على الدول الغربية «القوية»؟
في احتكار القوة: لا تملك إلا «المال» فقط، وهذا وحده أنتج «اضطرابات اجتماعية» قبل أيّ وباء... في 2019 كانت أوروبا مليئة بالتظاهرات والاحتجاجات الشعبية.
وفي الدولة العاجزة: جميعها قاب قوسين أو أدنى من حالة عدم قدرة أنظمتها الصحية والاجتماعية على استيعاب الظرف الناشئ، وفشلها، وعدم قدرتها عن تعويض مواطنيها من خلال اجازات عمل لضرورة إقامة حجرٍ صحيّ، والتهديد بنفاذ المواد الطبية والمعقمات والغذائيات.
وفي اتخاذ القرارات وتنفيذها: لعلّ ترامب مثالاً يتكلم عن قرارات هذه الدول «الفعلية» حينما أقرّ «يوم الصلاة الوطني» داعياً شعبه للدعاء للنجاة من هذا الوباء.
وفي العجز عن التعاون مع «الأسرة الدولية»: فقد تكلم الرئيس الصربي بذلك حينما قال إن التضامن الأوروبي محض «خرافة».
وفي فقدان الحكومة المركزية سيطرتها: يصطاد كل جانبٍ منها أحدهم الآخر – محلياً ودولياً - ضمن «الديمقراطية الغربية»، على أكتاف معاناة شعوبهم، ومتاجرين بذلك تحت شعارات «الإنسانية» خاصتهم.
إذاً، وبعد كل هذا، وضمن «مفاهيمهم وتعريفاتهم» أليسوا «دولاً فاشلة»؟ وعليه: فبإمكان الصين مثالاً، استناداً لما أثبتته، ولـ«مبدأ مسؤولية الحماية» من «أخطار» الدول الفاشلة و«إنقاذاً لشعوبهم»، أن تتدخل وتفرض «وصايتها وإدارتها» عليها، وتصنع: «المركزية الصينية» على غرار «الديمقراطية الأمريكية»!
لكن لا تخافوا، فحتى في هذه النقطة، فإن الاختلاف بين أهداف «الربح» و«الحياة الإنسانية» ينعكس بسلوك النموذج الصيني دولياً، وهنا لا حاجة أيضاً لتكرار المواقف والاجراءات التي ذُكرت.
سَقط... وسيسقط غيرها
إنّ المسألة هنا ليست «مبارزة» حول من هم «الدول الفاشلة» او ما شابهها، بل تحديداً، بسقوط هذه المفاهيم التي فُرضت قسراً على الشعوب... وإذا ما كان الاصطلاح صحيحاً، فإن الأمر يتعلق بوصفه كـ«مفهوم»، بمحتواه وتعريفه وصحّته بالمعنى الحقيقي والواقعي، لا الاستخدام السياسي بالشكل الغربي المطاط والعريض.
وهناك من المفاهيم ما هو أوسع، كـ«الإنسانية» التي يجري تصويبها الآن في محكّ التجربة والحقيقة المباشرة، وغيرها مثل «الحرية» و«الديمقراطية» والكثير مما هو راسخ زوراً في الوعي البشري بفعل المنظومة الرأسمالية العالمية التي باتت تتعفن وتتآكل أمام أنظارنا اليوم... ماذا سيعرّي لنا «كورونا» في الغد أيضاً؟