د.محمد المعوش
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
لفتنا الأسبوع الماضي، وفي سياق الصراع في فلسطين المحتلّة، أن منصّات التواصل «الاجتماعية» العالميّة مارست انطلاقاً من دورها ووظيفتها، قمعاً للصوت المعادي للصهيونية وللكيان. أُغلِقت صفحات لتنظيمات، وحُجِبَت حسابات لأفراد. فاحتدم الجدل على هذه المنصات بالذات، حول عدم ديمقراطية هذه المنصات، وعن ضرورة الصراع لانتزاع الديمقراطية منها. ولكن يبدو أن وظيفة هذه الوسائل وقاعدة عملها ليس مطروحاً المسّ بها عمليّاً. وهذا يرجع ربّما إلى تبادل منافع محدود بين المنصات ومُستخدميها. تبادل المنافع الذي طالما جرى الكلام عنه، في إطار محاولة الأفراد إشباع الحاجات التي ضاق بها المجتمع، فانفتح لها «الصّدرُ الرّحب» لهذه المنصّات!
إن الصراع السياسي، في مناوراته وتكتيكاته، لا يتحرك بحرّية حسب إرادة أصحاب من يقوم به، لا على مستوى القوى الثورية، ولا على مستوى النقيض المحافظ والرّجعي. فكلا النقيضين محكومان بالقضايا المادية التي حولها يدور هذا التكتيك أو ذاك، هذه المناورة أو تلك. ولذلك، فإن البحث عن جذر تطور التكتيك والمناورة لا بد وأن يجري على مستوى التطور التاريخي للقضايا الصراعية نفسها. ونحن اليوم أمام تيار رجعي لا يجد حرجاً، بل لا يجد مهرباً، من أن يلبس لباس الموقع الثوري، أو بالأحرى، يتخذ من ملامح هذا الموقع أدوات لمناورته. ليس هذا بالجديد التاريخي، ولكنه يكتسب اليوم عمقاً أبعد مما سبق.
في مقاله «دروس انتفاضة موسكو» يشدّد لينين على فكرة أساسية من مقدمة إنجلز لكتاب ماركس «الصراع الطبقي في فرنسا»: «إن التكتيك العسكري رهن بمستوى التكنيك العسكري، فإنجلز هو الذي كرّر هذه الحقيقة ووضعها ممضوغة في أفواه الماركسيين». وكان لينين في مقاله يدرس تطور فكرة التكتيكات التي تسلكها الفئة المنتفضة انطلاقاً من مرحلته التاريخية والتحولات التي طالت بنية أجهزة الدولة (وحكماً أدوات القمع في يد جهاز الدولة العسكري) وشروط الصراع الطبقي بالضرورة، من مرحلة المسدسات في الدفاع عن المتاريس إلى مرحلة المدافع مثلاً. فما هو تطور هذه المسألة تاريخياً من انتفاضة موسكو وصولاً إلى الأسلحة الحديثة والمرحلة التي تطورت إليها الإمبريالية؟ وهل هي اليوم مطروحة في شكلها النظري على غالبية القوى الثورية؟!
يبدو أنّ جديد المرحلة التاريخية التي نحن في أحشائها لا يزال في بداياته المتواضعة. ليس فقط على المستوى البعيد، بل على مستوى الحاضر أيضاً. وللانتباه، وحتى لا نقع في فخّ الميكانيكية والمثالية، نقول: إن الجديد هذا ينعكس ليس فقط ضمن القانون العام لهذه المرحلة، القانون الذي قد يبقى ثابتاً لفترة محددة، بل أيضاً ينعكس بظواهر جديدة حسب المسار الذي تأخذه الأحداث نفسها، في تسارعها أو بطئها، بمعزل عن قانونها العام. أي: في الصدف المتعددة، وتداخل تلك الصدف التي لا يمكن تحديدها إلّا عند حصولها. من هنا لا بد للفكر هذا ألّا يركن إلى سرديّة ثابتة، وإلّا تجاوزه الواقع في جديده الدائم. فكيف في هذه المرحلة التاريخية النوعية من عمر البشرية التي ولا بد أن جديدها كثير دفّاق!
شكّلت قضيّة الصراع بين تيارات الفلسفة الأساسية، أي: بين المادية والمثالية، الإطار العام للصراع الفلسفي طوال تاريخ البشرية. وشكّل انفصال العمل الذهني عن العمل اليدوي تاريخياً- بسبب طبيعة التقسيم الاجتماعي للعمل بين الطبقات الاجتماعية- الأساس المادي التاريخي لتعاظم الجانب المثالي في الفكر الفلسفي. وكان لدخول العمل اليدوي إلى مسرح التاريخ ممثلاً بالطبقة العاملة وحركتها الثورية عاملاً لتعاظم دور المادية في الفكر الفلسفي. والتياران تعايشا جنباً إلى جنب في الفكر الواحد، واختلف تناسبهما حسب المرحلة التاريخية وموازين التقدم والتراجع الثوري فيها. ولكن اليوم وفي هذه المرحلة التاريخية صار للقضية معنى آخر: إنها قضية اشتداد التناقض إلى حدّ انهيار الوعي على نفسه.
نزولاً من قرية داعل في جِبال قضاء البترون شمال لبنان، يُقابِلُك وادي العِصيّ المعروف بهذا الإسم، وهو يُعرف أيضاً بِبُستان العِصيّ. وهناك اسم آخر له هو بستان العاصي، ويعرفه بعض أهله بوادي العُصاة. الوادي- السّهل حسب الروايات، هو منطقة سكنها قبل التأريخ الميلاديّ مجموعة من قراصنة السّاحل الذين دحرهم الرومان بسبب هجماتهم على السّفن، فلجأوا إلى الداخل قليلاً، وقاموا بالعصيان هناك، فكان اسم الوادي على اسم فعلهم ذاك، هذا الوادي المحميّ من قبل الطبيعة الجبلية القاسية الفاصلة مع الساحل. ولا بأس من تحوير الاسم قليلاً إلى عِصيّ، ففِعل «العصيان» ما لبث أن صار من ملامح وَرَثَة تلك المنطقة، على الإقطاع، وعلى الطبيعة، ومن ثم على المستعمر الغربي.
تجري في الميدان العلمي منذ عقود طويلة عملية سرقة موصوفة من قبل التيار العلمي السائد. والمثير للغثيان، أن تلك السرقة تجري ضمن عملية استعراض عِلمَويّ مبالغ فيه. تجري فيها، ولهذا الهدف بالتحديد، عملية استيعاب المُنتَج العلمي المادي التاريخي، وتفريغه من جوهره الثوري بالتحديد. ومن تلك المحاولات تفريغ نظرية التطور الذهني التاريخي من معناها، في محاولة لتثبيت الوعي ضمن حدوده التاريخية، فلا جديد تحت الشمس، وهذا هو رعب الرأسمالية. فما هي قوة تلك الطروحات الثورية التي ستكون علامة تطور الوعي في عصرالإنسانية القادم؟
درجت منذ سنوات موضة أخرى تضاف إلى باقي صرعات عصر الجنون الرأسمالي، تتعلَّق بالتربية «الحديثة» ودفاتر شروطها، والتي هي حسب الزعم السائد تشكِّل منشأ المجتمع الجديد. وإلى جانبها نبتت عشرات القطاعات العلمية والوظيفية والدعائية لترافق هذه الصرعة «النهضوية» وتدعم تنفيذها. ويجري كل يوم إخضاع الملايين لهذا الوهم التضليلي؛ أنّ مدخل التغيير الأساس يكمن في عملية التربية، ويقولون: «لكي نغير المجتمع علينا أن نغير التربية»!
عديدة هي العوامل التي لها ملامح الأزمة الوجودية، التي تدفع فضاء الشرق الممتد من الصين إلى منطقتنا، نحو التكامل، ومنها قضية المياه وندرتها، توزيعها وتلوّثها. والمادة هنا في أساسها هي قراءة في كتاب «معارك المياه» (من أجل مورد مشترك للبشرية) لمحمد العربي بوقره الصادر عن دار الفارابي في بيروت.
على الرغم من مشاعر البؤس والسواد والهزيمة التي حاول مشعوذو الرأسمالية إلباسها لعالمنا الفكري والنفسي في مرحلة التراجع الثوري وانهيار الاتحاد السوفييتي، بقي عقلٌ ناجٍ شكل منارة للتائهين الذين سيأتون هائمين بحثاً عن نورٍ وعن دفء ما. عقلٌ ينطق باسم الضرورة التي أعلنوا انتهاءها. ينطق بلغة التناقضات القديمة المتجددة، وتلك الجديدة. عقلٌ ينطق بالأمل المُصارِع. بناء الأمل هذا هو أحد أهم وظائف القوى الثورية حسب آخر أمين سر للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، «أوليغ شينين»، ممّن عَبَروا بين عصرين تاريخيّين. شينين الذي أعلن نبوءة عمّا سيعمّ عالمنا من تسطيح وسقوط في القيم والمعايير، وعمّا يعنيه وجود تلك المنارة الثورية.