قضيّة الفلسفة اليوم بين التاريخي والسياسي

قضيّة الفلسفة اليوم بين التاريخي والسياسي

الفلسفة أو شمولية التجريد والتعميم هي بالنهاية قضية ترتبط بشكل وثيق بنظرية المعرفة، أي في انعكاس الواقع المادي في الوعي، بشكل مفاهيم وعلاقات. إنها إذاً مسألة تاريخية. فانعكاس الواقع المادي في الوعي، ليس انعكاساً مباشراً، بل تتوسّطه علاقة صاحب الوعي بالواقع. أي يتوسطه النشاط والممارسة التي تربط الفرد بالمجتمع. وظروف المرحلة الحاليّة تصبغ الفلسفة بملامح يجب التوقف عندها لما له من دور على الصراع السياسي عالمياً، أي قضية الوعي البشري عموماً.

الفكر الفلسفي
بين الديالكتيك والمنطق الشكلي

عالج مفكرو الماركسية الأوائل قضية اختلاف الفكر الديالكتيكي عن المنطق الشكلي (المثالي)، وتحديداً في كون المنطق الشكلي بسيطاً سطحياً يتجاهل قضية الحركة، ونسبية المعرفة والحقيقة. على عكس الديالكتيك الذي يدرس العلاقات من وجهة نظر تاريخية، ومن وجهة نظر ولادة التناقضات وحلّها، أي مسألة القفزات، والأهم مسألة الترابط العام للواقع وظواهره.

المنطق الشكلي يسود

إن تتبع الخط العام للخطاب السياسي السائد (الذي يمكن اعتباره مؤشِّراً بارزاً على مستوى الفكر الذي يحكم الوعي في مرحلة تاريخية ما) ومظاهر الثّقافة السائدة، ونقصد بذلك الفكر الأيديولوجي السياسي الغربي السائد عالمياً، وثقافة الليبرالية التي تدعمه، لا يمكن إلا أن يظهر ملامح المنطق الشكلي فلسفياً. مثلاً، إن دراسة الصراع السياسي الذي يخوضه الغرب عامة ضد القوى الصاعدة، أي روسيا والصين، يكشف سطحية الحجج-الفرضيات والعلاقات والمفاهيم التي على أساسها يبني هذا الغرب هجومه وممارسته. لا بل إن هذه السطحية والبساطة وصلت إلى حد الهزليّة. والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى. نجد هذه السطحية الشكلية في أداء القوى السياسية الرجعية في دول الأطراف كذلك. وليست دولنا إلا نموذجاً فاقعاً عن الجوهر الفلسفي الشكلي السطحي البسيط لكيفية بناء خطابها ورؤيتها التي يجري تعميمها.وهذا تقف وراءه منظومة فكرية جرى فرضها طوال العقود الماضية، وتحديداً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، في الإعلام والأكاديميا والتربية... وعودة سريعة إلى إحداثيات الفكر السياسي عالمياً ما قبل انهيار المنظومة الاشتراكية، أي إلى المرحلة التي كان أمام الغرب خصم سياسي يفرض إحداثيات عميقة للصراع، تكشف أن المنطق الشكلي كان أضعف نسبياً. فالغرب وفكره اضطرا إلى أن يواجها الفكر النقيض بأدوات فكرية ومنطق أكثر عمقاً من تلك التي اضطر الغرب إلى حملها بعد غياب هذا الخصم. وللتبسيط، فإنه حتى مراجعة الرموز السياسية للدول الغربية على مستوى رؤساء مجالس الوزارة أو رؤساء الدول، تكشف أيضاً الفروقات الشخصية العميقة بين من هم ينتمون إلى حقبة الصراع العميق في مرحلة وجود المنظومة الاشتراكية، وبين من ينتمون لمرحلة النيوليبرالية منذ التسعينات. أنظروا مثلاً الفروق بين تشرتشل وبوريس جونسون، أو بين روزفلت وترومان وأيزنهاور مع جورج بوش الابن وأوباما وترامب. الفروقات الشخصية المشار إليها هنا تعكس فروقات في ملامح عمق المرحلة والمنطق السياسي المحمول من قبل الرموز السياسية. فكلما تسطح هذا المنطق كلما تسطح حامل هذا المنطق، وقلّة الحاجة إلى ملامح معقدة وعميقة في شخصيته وقدراته.

عن تراجع سيادة المنطق الشكّلي

في المقابل، إن مراجعة الخطاب السياسي الذي بدأ يرتسم مؤخراً، وتحديداً، المنطق الفلسفي الذي يقف وراءه، عبر رموز المحور الصاعد، وتحديداً روسيا والصين، تسمح بالاستنتاج الأولي أن هناك تراجعاً واضحاً ومواجهة للمنطق الشكلي الذي فرضه الغرب في العقود الماضية. فالرؤية العالمية التي تقدمها الصين وروسيا مثلاً، حول العمق والشمول اللذين ينظران عبرهما للمرحلة وصعوباتها، كما الخطط التي تطرحانها، كل ذلك يدلّ على ملامح منطق ديالكتيكي ولو لم يتم تسميته بهذا الاسم فشروط المعركة نفسها تفرض هكذا عمق وهكذا شمول وهكذا اتساع. إنها وكما أشرنا قضية ممارسية لها علاقة بالنشاط الذي يربط الإنسان بواقعه. ولأن هذه الدول في نشاطها وممارستها تتصدى للقضايا بحثاً عن حقيقتها لا من أجل التعمية، فإن انعكاس الواقع في وعيها يجب أن يكتسب ملامح التعقيد والتطور وتحديد التناقضات التي هي في الواقع الفعلي. والأمثلة على ذلك أيضاً لا تعد ولا تحصى، ويمكن إيجادها تحديداً في قضية “الحركة” الحاضرة في رؤية هذه الدول بالذات. بينما يطلق الغرب رؤيته للواقع، تقدم روسيا والصين موقفاً متحركا يلحظ التطور والتحول في الواقع، كما أنه ينزع نحو الشمول وربط الظواهر في حركتها. وما إدخال الطبيعة والبيئة (أي الحدود التاريخية للظواهر والحياة) والمصير المشترك للبشرية إلا دليل على تحييد المنطق الشكلي لدى الغرب. والمواجهات الإعلامية اليومية بين القوى الصاعدة والغرب غنية بالأمثلة عن تواجه المنطق الشّكلي والمنطق الديالكتيكي. وهذا يحتاج إلى مواد منفصلة للدلالة عليها بالمباشر.

قاعدة مادية مساعدة للمنطق الشكلي

إن العقود الماضية في نمط الممارسة والنشاط التي أرسته أسست للمنطق الشكلي في الفكر. أي الليبرالية الثقافية، وتبسيط علاقة الفرد بالواقع التي تروج لها الليبرالية عبر القصة الفردية السهلة والمنطق الخطي الذي ينحفر في رأس الأفراد عن تطورهم الخاص، الذي يؤسس لرؤيتهم للظواهر حولهم. وما توسع الأكاديميا والتعليم لدى الفئات الاجتماعية، وما توسع السلاح الإعلامي، وووسائط الدعاية والتواصل، ليسا إلّا أداة قوية لصالح المنطق الشكلي. فكل ما يتم تلقيه وتعلمه وسماعه وقراءته يعبر عن ملامح المنطق الشكلي في النظر للحياة والأمور. والأهم هو تراجع الموقع الصراعي للأفراد في العقود الماضية، ما جعل الفكر أعزلَ من أدوات كشف أعماق الواقع، فما تم الترويج له هو أنّ ما نراه هو الحقيقة، فتماثل الفكر مع المشهد المباشر، وتماثل المنطق مع الحدث. إنه المنطق الشكلي في أفقع أشكاله. ولهذا قد يجد الإنسان صعوبة في أن يسلك المنطق السياسي المواجه للشكلية مسلكه بسهولة في الوعي مرحلياً.
ولكن، حتى لا نغرق في الشكلية أنفسنا، إن شمول المعركة عالمياً، والاتجاه التاريخي الصاعد الذي لا راد له، والذي تكلم عنه الرئيس الصيني مؤخراً، «كفيل بأن يشكل الحامل المادي» كفيلين بتطور الفكر الفلسفي، أي تطور ملامح الفكر والوعي بشكل عام.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1026