حول «ثقافة الرأسمالية الجديدة»
صدر كتاب «ثقافة الرأسمالي الجديدة» للباحث الاجتماعي الإثنوغرافي ريتشارد سينيت (منشورات جامعة ييل- الولايات المتحدة الأمريكية، 2006)، وصدر مترجماً إلى العربية عن دار الفارابي (بيروت، 2008). ويبحث التحولات التي طالت العلاقات الاجتماعية اليومية الممارسية (البراكسيس حسب غرامشي) في ظل النيوليبرالية وعولمة عمليات الإنتاج والاقتصاد التكنولوجي والنمط الاستهلاكي، والتحوّل الذي طال المعاني والقيم الفرديّة والأهداف والمستوى السياسي.
نبذة عن الكاتب
ولد ريتشارد سينيت عام 1949 لأبوين من المهاجرين الرّوس. والدته ناشطة عمّاليّة، وقاتل والده في الحرب الإسبانية ضد الفاشية، ثم «قاتل ضد الشيوعيين»، وخرجا لاحقاً من الحزب الشيوعي تحت خلاف عنوانه «اتفاق ستالين- هتلر» (لهذه الخلفية ربما دور في تشكيل آراء سينيت العدميّة تجاه آفاق المشروع الماركسي، والدولة السوفييتية). هو روائي وموسيقي، وعالم اجتماع وإثنوغرافيا، من منشوراته: «سقوط الرجل العام» (1977)، «ضمير العين» (1990)، «تآكل الشخصية، العواقب الفردية للعمل في الرأسمالية الجديدة» (1998) ويشغل حالياً منصب زميل في «مركز حول الرأسمالية والمجتمع» (جامعة كولومبيا- الولايات المتحدة الأمريكية).
عن موقف الكاتب وجوهر طرحه
يستهلّ الكاتب مقدمته بأن ما تم رفعه من شعارات وما تم تنفيذه لاحقاً منذ منتصف القرن الماضي من ضرب البيروقراطيات التي رفعها «اليسار الجديد» والليبرالية على حد سواء، لم يجلب سوى شكلٍ جديدٍ من انعدام العدالة والاضطراب والقلق الاجتماعيين وتفكيك المجتمع ومؤسسات الرعاية والصحة، وتراجع سِمة الاستقرار النسبي في المجتمع، وصارت الهجرة أيقونة العصر، وصار الحنين مربوطاً بالندم. وفي سياق هذا التفككّ الشامل للأيديولوجيا «المركزية البيروقراطية، في شكليها الاشتراكي والرأسمالي»! يسأل الكاتب: ما الذي يجمع الناس ويشدهم إلى بعضهم البعض فيما تتفكك المؤسسات المادية التي ينتمون إليها؟ أي: ما هو المستوى الفوقي القيمي والروحي والمرتبط ببنية الشخصية المناسبة للمستوى التحتي الاقتصادي الجديد؟ ويستكمل الكاتب السؤال بآخر: ما هو نوع الأفراد القادرين على العيش في عالم مضطرب «سائل»، دائم الصدمات، بلا ثبات في الأهداف المطلوب بلوغها في حياة الفرد المعاشة؟ ويجيب بوجود ثلاثة تحديات كبرى أمام أفراد اليوم: الوقت (بالمعنى الوجودي)؛ وإدارة الذات في الأجل القريب بعد تدمير الآجال البعيدة في ظل بروز ظاهرة ارتجال الفرد لقصة حياته لكي يعطيها معنى ما، وتعايشه دون وعي مستدام بذاته.
أما التحدي الثاني: يتعلق بالموهبة، فالفرد عليه أن يعيد خلق نفسه على مستوى المهارات بمعدل ثلاث مرات خلال حياته. فيسود مفهوم «القدرة الكامنة» التي ترتكز على المرونة والتخلّي و«السطحية». والتحدي الثالث: هو القدرة على الاستسلام، و«كيفية التخلّص من الماضي» وترك ما تعلّمه وعرفه لصالح الجديد. وحسب الكاتب: إن هذا الصنف من البشر هو غير معتاد. فالبشر يميلون إلى ديمومة حياة وقصة مستدامة، ويبنون على ماضيهم. لهذا: إن النمط الحالي يدمّر الغالبية من البشر.
فصول الكتاب
يتوزع الكتاب على أربعة فصول: البيروقراطية، والموهبة وشبح انعدام الجدوى، والسياسة الاستهلاكية، والرأسمالية الاجتماعية في زمننا. ويحاجج الكاتب، بأن التحول في بنية المؤسسات من تقليدية لها بنيتها البيرواقراطية الهرمية المفهومة والثابتة من حيث النتائج والأهداف الممتدة على مدى عمر الفرد، نحو مؤسسات «سائلة» بالمعنى التنظيمي، عابرة للقارات يحكمها مجلس تنفيذي (محكوم بالبورصة) غير مرتبط بالإدارة المسؤولة داخل المؤسسة، كل ذلك يجعل من حياة العاملين غير مفهومة وغير متوقعة، وأكثر تنافساً وعدائية بسبب الاصطفاء على أساس «القدرة الكامنة»، لا على أساس الخبرة المكتسبة المتراكمة «الحِرَفيّة». هذا يحرم الأفراد من قدرتهم على إدارة حياتهم. وهذا النوع من المؤسسات التي تَضْعُف فيه بيروقراطية الطبقة الوسطى السابقة، على حساب المدراء التنفيذيين والمستشارين المنفصلين عن المؤسسة، بل فقط بما تمثله من استثمار، فتتعاظم قيم انعدام المسؤولية والثقة وفقدان الاحترام للعمل ذاته، وضرب أسس الإرضاء المؤجّل والتفكير الإستراتيجي. فكل شيء مرتبط بالأجل القريب، ما يفتح الباب واسعاً أمام مأساة انعدام الجدوى. ومن لا يملكون «القدرة الكامنة» يُترَكون معلّقين، أمام «دراما اجتماعية عاطفية» على «اعتبار أنهم لم يعودوا نافعين أو ذوي قيمة». كل هذا، محمولاً على قاعدة الاستهلاك الواسع، خلق مجالاً للحياة السياسية «الرخوة»، وانحداراً في مستوى الصراع السياسي، على حساب استغلال وهم شغف الاستهلاك لدى الفرد، في واقع مأمول متخيّلٌ غير مرتبط بوظيفة محددة نفعيّة للغرض الذي يجري استهلاكه، بل مرتبط بمعنى غير مدرك في وعي الفرد، وهنا يدخل الخيال كمعادٍ لصاحبه. فتصير السياسة كمنصات عرض بضائع دائمة التحوّل والجذب الدرامي، يحلّ الشكل البرّاق محلّ الوظيفة، ويصير الفعل التقدمي، الذي يتطلّب صبراً، مملاً، لأن المستهلك يحتاج إلى إرضاء سريع، غير قابل للتأجيل والإنتظار. فالمناخ السياسي السائد كما الاقتصاد الجديد، خلق مناخاً (وأفراداً) خالياً من الحرفيّة، مع توسّع ضخم في الفضاء الدعائي لوسائل الدعاية والإعلام، كما في سوق المنتجات كما في السياسة. وكل ذلك يجمعه منطق مفكك، وقاعدته هي الاقتصاد السياسي الفوضوى تخطيطياًّ. وهذا ما أضعف قاعدة السياسة التقدمية.
«مخارج» محتملة
من موقع تعويض غياب المرساة الثقافية في مجتمع فقدان المعنى، يختم الكاتب بضرورة تقديم «ثلاث قيم حرجة»: القصّ (فعل بناء القِصّة)، والجدوى، والحرفيّة. طارحاً السماح بنسبة استقرار أكبر في العمل، حتى لو كان متنقلاً بين وظيفة وأخرى، ولكن يحمل ثباتاً زمنياً بأجل بعيد لتحقيق إمكانية تكوين القصة الوجودية. وتعزيز أهمية الوظائف التي تحمل أدواراً اجتماعية تضْمَنُ الاعتراف الاجتماعي، عبر تأمين الدخل لعمال الرعاية الاجتماعية ضمن العائلة أو خارجها، الذين هم اليوم دون أجر، في ظل اتساع فئة كبار السن، لتعويض غياب الجدوى عند الفرد. وتعزيز إنتاج شيء جديد، مما يرفع ارتباط الفرد بواقعه، عبر البحث عن المشاكل لا تجنّبها، وتلّمس نواقصه لا الهروب منها في صورة الذات المثاليّة المُرَوَّجة.
موقع الطرح تاريخياً
من موقع اليسار الجديد، ومقولات «الدولة البيروقراطية العسكرية الاشتراكية»، أي: موقع الاشتراكية الديمقراطية، يطرح الكاتب تناقضات الحياة الممارسية الملموسة المعنوية للأفراد في ظل النيوليبرالية، كفقدان القيمة وغياب الاعتراف، وفراغ المعنى، نتيجة التقلب في الاقتصاد الرأسمالي المأزوم نفسه، وتراجعه عن ثوابت توزيع الثروة التي أُرسيت في لحظة الرشوة التاريخية. ولكن هذه الحلول لا تتجاوز الإصلاح دون المس بأسس النظام. هو لم يطرح تغيير علاقات الإنتاج نحو الاشتراكية التي تعالج القضايا الثقافية الممارسية الوجودية عبر تغيير الموقع الاغترابي للفرد. فهو أعلن في بداية النص أن الاقتصاد الرأسمالي الحديث أنهى مشروع ماركس المحمول على البروليتاريا المدينية التي انتفت اليوم. وإذا ما أردنا التكثيف، إنه يتجاهل فعل قانون تفاوت التطور وقضية وحدة العالم، الذي يسمح بالنظر للنظام بشكل موحد عالميّ، دون الغرق في حدود الدول «المنفصلة». فالتحوّل الحاصل فعلاً في القيم وأشكال الإنتاج في بعض المجتمعات، يمكن تعويضه عبر أخذ الحركة الموضوعية للبشرية ككل. فالبروليتاريا التي تتركز في الصين تجعل من الصين (فوقياً، كجهاز سياسي) تحمل خطاً ذا مضمون أكثر بروليتارية على مستوى العالم. دون أن ينفي ذلك وزن المؤسسات التقليدية في الدول الأخرى حتى لو تعاظم وزن المؤسسات «المرنة». ويشكّل الكتاب مؤشراً آخر على الجانب المفقود نسبياً لدى المشروع الثوري، أي: ضرورة تقديم ذاته على أساس حامل لثقافة جديدة لا في قالب رومنسي يعيد للقديم حياته، بل يجيب عن التناقضات التي حملها التطور في نمط الحياة الرأسمالي. والأهم هو: رفع الصراع المشترك خارج الحدود، وتوحيد الجهود بما يتناسب مع عالميّة المعركة و«سيولة» انتقال القوى العاملة، وسطوة الإعلام، وتنظيمها في حركة (ليس بالضرورة تحالفاً) تتخطى التنسيق، نحو أطر واضحة التنظيم والهوية دولاً وتنظيمات
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1023