ضغط العقدة الثقافية كرأس لجبل الجليد

ضغط العقدة الثقافية كرأس لجبل الجليد

إن قانون التناسب بين البنيتين الفوقية والتحتية في المجتمع يفرض نفسه دائماً، وهو يفيدنا اليوم لفهم التناقضات العاملة في البنية الرأسمالية مركزاً وأطرافاً، قوى متراجعة كانت أم صاعدة. التناقضات التي قلّما تلقى التركيز، ولكنها حاضرة في ممارسة الأجهزة الفوقية للدول على مختلف مواقعها في البنية الرأسمالية العالمية.

إشارات مختلفة

صرّحت الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروف أمس السّبت أن القيم الغربية ليست سوى «قيم الشمولية الليبرالية»، في إشارة إلى مواقف وممارسات تحالف أنظمة الغرب «الديمقراطي» تجاه الدول الأخرى وتحديداً روسيا والصين. فيما أشار الرئيس الصيني سابقاً في المؤتمر الوطني الـ19 للحزب الشيوعي الصيني (2017) على ضرورة أن تقود الماركسية السياسة الأيديولوجية والثقافية القيميّة والمعنوية للصين والشعب الصيني مع تعزيز القيم الاشتراكية ارتباطاً بالثقافة الصينية التقليدية، في إشارة إلى التطور المستمر والمتسارع في حاجات المجتمع الصيني الثقافية والروحية في إطار ما يسميه التقرير بـ «التكامل الخماسي» (البناء الاقتصادي- البناء السياسي- البناء الثقافي- البناء الاجتماعي- البناء الحضاري الإيكولوجي). بينما كان الرئيس الروسي قد أشار في نهاية العام 2019 في اجتماع في عشق آباد (عاصمة تركمانستان) لمجلس رؤساء رابطة الدول المستقلة (والتي تضم 12 دولة من الفضاء السوفياتي السابق هي روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا ومولدوفا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان وتركمانستان وأوزباكستان وكازاخستان وطاجكستان وقرغيستان) بأنه لا يجب اعتبار الليبرالية هي النمط الثقافي الأوحد الذي لا منازع له، ولا يجب فرضه على الجميع في تعارض مع مصالح السكان، فلا يكون هناك هزات داخلية في المجتمعات، مؤكداً على ضرورة عدم التخلي عن التقاليد الثقافية الراسخة منذ قرون لروسيا والدول داخل الرابط، والتي يجب الدفاع عنها والتمسك بها.

التناسب والمواجهة

إن النماذج المذكورة أعلاه هي دلائل عن ضغط الملف الثقافي القيمي (الذي هو بالنهاية نمط الحياة المعاش والممارسي) على الملف السياسي الذي لا يمكن فكّه عن سياق المواجهة التي تخوضها الدول ضمن المنظومة الرأسمالية الإمبريالية. وهذه الإشارات دليل آخر على ضرورة طرح قضية نمط الحياة وما يقوم عليه من قيم ومعانٍ وأهداف بشكل أوضح على بساط البحث إلى جانب البحث الاقتصادي- السياسي- العسكري. فالتناقض الذي يجب تحديده هنا، والذي طالما تمت الإشارة إليه، هو أن اقتصاد السوق في دول المركز كما في دول الأطراف فرض قيم الليبرالية بشكل ضروري. فاقتصاد السوق القائم على الإنتاج البضاعي، ونمط العمل المأجور، في ظل غياب المشاريع السياسية التي تحشد الشعب بشكل مباشر، أي حيث يغيب التنظيم الشعبي المباشر في العلاقة مع جهاز الدولة، وارتباط مشروع المجتمع السياسي بحياة الفرد اليومية ودوره في هذا المشروع. كل ذلك يفرض استتباع الأفراد إلى قيم هذا السوق والفردانية إلى حد ما. فطالما تغيب السردية الاشتراكية أو الجماعيّة العامة بالمعنى الممارسي المباشر، وليس فقط وجودها على مستوى ممارسة مصالح الدولة الوطنية القوميّة الإستراتيجية (كما يمكن النظر إليها اليوم في كل من روسيا والصين التي يحمل خطابها بشكل غالب ملامح المواجهة الخارجية)، فإن سردية الليبرالية هي التي تهيمن. وهذا يمكن ملاحظته في المجتمعات المذكورة، من حيث الأهداف المرسومة للأفراد المحددين في حياتهم اليومية، وتطلعاتهم، ونظرتهم إلى موقعهم ومستقبلهم والقيم التي حولها تتطوّر قصة حياتهم كما هم ينظُرون إليها.

حلّ التنافض

إن الليبرالية ثقافياً بهذا المعنى هذه محمولة مادياً على نمط الحياة الاستهلاكي الخاص باقتصاد السوق بشكل مباشر، وقيم هذا النمط الفردانية التي يغيب فيها دور الفرد المنتج الإبداعي بالمعنى الاجتماعي، حيث تطغى فكرة السعادة الاستهلاكية على السعادة الإنتاجية الإبداعية المرتبطة مباشرة بمصالح الكلّ. أي مصالح تقدم المجتمع وتطوره على كل الصعد العلمية والبيئية والفنية والاقتصادية... وهكذا، فإن الاقتصاد هو حصان طروادة للليبرالية الثقافية. فالحاجات التي يخلقها المجتمع الحالي يطرح حاجة لمشروع ثقافي ونمط حياة تأتي الليبرالية كسردية خاصة للأهداف وإرضائها لتسدّه. ولهذا فإن الدول التي تطرح قضية مواجهة الليبرالية ثقافياً وتقديم مشروع ثقافي بديل تسميه الصين النمط المدفوع بالقيم الاشتراكية والماركسية، وتسميه روسيا النمط الثقافي الخاص التقليدي في اندماجه مع مصالح المجتمع والسكان، تواجه مسألة التناسب بين البنية الفوقية والتحتية. فمواجهة الليبرالية يقتضي تجفيف منابعها التحتية على مستوى «البراكسيس» أو الوجود الممارسي للأفراد. هذا الوجود النابع من علاقات الإنتاج وما يستتبع عنها من علاقات حقوقية وأدوار اجتماعية.
وهذا لا يمكن حلّه بقرارات فوقية وخطط أيديولوجية معزولة متعارضة مع الوجود المادي الحالي للدول التي ترفع لواء هذا المشروع الثقافي المعادي لليبرالية.

ملامح بديلة

ليس خافياً أن التقرير الذي قدّمه الرئيس الصيني في المؤتمر الوطني المشار إليه يحمل ملامح مادية تتجاوز الطرح الثقافي الفوقي المجرد. فأشار إلى تعزيز الدور الإبداعي للطاقات البشرية الصينية علمياً وفنياً واقتصادياً... وأشار إلى أهمية التنمية المتمحورة حول الفرد، لناحية تعزيز الصحة الجسدية (مثال دعم ممارسة الرياضة واللياقة البدنية) والعقلية ورفع شعار «سعادة الشعب». ولكن هذا يبقى تعزيزاً لعناصر ضمن بنية اقتصاد السوق الحالي الاستهلاكية. بينما يجب إجراء تعديلات على مستوى البنية لا على مستوى عناصر ضمن البنية. فالتعديل في العناصر يفقد معناه النوعي إذا ما حصل ضمن بنية تفرض هي نمطها الممارسي الأقوى على العناصر.
إن حلّ هذا التناقض يبدو أنه الذي يفرض نفسه في هذه المرحلة، كونه يبدو أنه عمليّاً صار مركز العقد والتناقضات الأخرى، أي إنه ممثل لباقي التناقضات، التي تعني بما تعنيه تغيير علاقات الإنتاج نفسها، حيث لم يعد يكفي تغييرات في مستوى الرفاه المادي الاقتصادي كمياً. فالمشاريع الثقافية البديلة (اشتراكية الطابع القادرة وحدها على مواجهة خطر الليبرالية الفردانية) هي تعبير عن تغيير نوعي ضمن نمط الحياة، لا مجردَ تعديلات كميّة في الحاجات (رفع مستويات الصحة والغذاء والأمن والطاقة)، بل انتقالاً نوعياً لكيفية تحقيق الحاجات المجرد على مستوى الأهداف الوجودية ومعاني الحياة نفسها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1024