في قديم اليسار التقليدي و«الحديث» ومعاندة التاريخ
على الرغم من أن عملية الصراع الفكري ضمن الخط اليساري عامة (الماركسي الثوري تحديداً) لم تتطور في المرحلة الأخيرة لعدة أسباب، منها تسارع الحدث نفسه على وقع عمق الأزمة، ما سمح بتخطي العديد من القضايا المطروحة من قبل الواقع نفسه، فحُسم النقاش. ومنها أيضاً الضحالة الفكرية التي تطبع غالبيّة التنظيمات اليسارية التقليدية، أو ما تبقّى منها، ما لم يسمح أيضاً بإنضاج الحدود النظرية للصراع الفكري. فالصراع يتطلب نقيضين، وإذا ما كان أحدهما غير مؤهل للمعركة، تنتفي إمكانية المعركة نفسها، وهذا مؤسف حقاً، فبقاء المعركة تحت السّطح يؤخّر في حسمها ويميّعها. ولكن تبقى تأثيرات الخلفيات النظرية، أو قُلْ للدقة: التهويمات النظرية، حاضرة في ممارسة تلك القوى، وما يظهر من قوى جنينياً على أطراف الحركة الشعبية المتصاعدة.
بعض ملامح المرحلة السابقة
في أدبيات الماركسيين في المرحلة السابقة في المنطقة تحديداً، دار نقاش بين هذه القوى حول الجانب القومي والوطني والأممي. وفي سياق النقاش كانت بعض القوى تعتبر مُغلِّبة القومي على الوطني، وأخرى العكس، وبعضها غلّب الأممي لصالح الاثنين. على كل حال، شيء من هذا يحكم ولا شك الاتجاهات العامة للقوى التي ما زالت تدور في إطار هذا الفكر بغض النظر عن موقعها الفعلي تجاه هذا الفكر نفسه. ولكن الأخطر أن غالبيتها تفكّر تجاه المرحلة الحالية ضمن أدوات المرحلة السابقة نفسها ولا زالت محكومة بإحداثيات سابقة. وهذا الجمود يطبع كامل جهازها المفاهيمي، أو عند من يولد حديثاً من قوى تحاول الظهور مظهر القوى الماركسية.
ما بين الأممي والقومي والوطني
إن غالبية القوى التي تفكر في المرحلة الحالية وحركتها واتجاهها ما زالت تنطلق من ذات التقييمات الأممية والقومية والوطنية التي بنى عليها الخط الثوري سابقاً رؤيته وبرنامجه وخطابه. فهي ما زالت تعتبر في الحركة التقدمية العالمية (الأممية) في حضور دول اشتراكية معلنة، وغير ذلك بالنسبة لها يعتبر خارج سياق الحركة التقدمية التاريخية. هكذا مثلاً يتعامل البعض مع روسيا «الرأسمالية» وهي سهلة تصنيفها حسب منطلقهم «الأممي». أما الصين فهي أصعب قليلاً عليهم فهي بالنسبة لهم: رأسمالية + حزب شيوعي. هكذا يقومون بجمع العناصر جمعاً قسرياً ميكانيكياً، فيضاف الحزب الشيوعي إضافة خارجية على البنية التي هي رأسمالية! أمّا في المجال القومي، فما زالت هذه القوى إما في قبولها أو رفضها تتجاهل، من موقع الجمود نفسه، التحول الذي طال هذه الأنظمة التي عبّرت عن حركة استقلال نسبية، وتتجاهل وزن الترابط العالي بينها وبين العلاقات الإمبريالية طوال عقود من تراجع الوزن الاشتراكي الدولي. أما في الجانب الداخلي، يقوم قسم ممن يعادون الوضع الدولي بكامله اليوم، أو يتوجسون منه، بالانغلاق شبه الكامل في حدود الدول في رسم الرؤية والبرنامج. فينقسم الواقع بالنسبة لها ما بين خارج- داخل، في فصل قسري ضمن الحركة الشاملة للنظام العالمي. فتعكس بذلك فكراً غير علمي عبر تفكيك وحدة العالم، والنظر إلى الخارجي من موقع الحدود السياسية، وتسقط التداخل في العلاقات المادية للحركة. فهي في رفضها وتوجّسها من الجانب العالمي، لعدم فهمه، تحدّ نفسها في عملية «طبقية نظيفة» داخلية.
في تكثيف التناقضات
يظهر عقم هذه الطروحات في جمودها عن إدراك الجديد التاريخي، الذي هو جوهر أي فكر علمي يحاول الفعل في الواقع. ويمكن القول إن ما ترفضه هذه القوى وهذه التهويمات النظرية، هو بالتحديد ما يجب الوقوف عنده. فتطور التناقضات العالمية، والترابط الشديد خلال العقود الماضية ما بين البنى الاقتصادية والاجتماعية ضمن البنية العالمية، يجعل من الصراع ذا طابع عالمي بالمعنى العملي وليس النظري فقط. فالمهام المطروحة من الطبيعة إلى الصحة إلى الاقتصاد إلى الحروب والهجرة وأزمة الغذاء والمياه، والإنتاج والتوزيع، وحتى قضية القوى العاملة نفسها، كلها تأخذ اليوم طابعاً عالمياً يقتضي حله على الصعيد العالمي، على الرغم من ضرورة أن يتم عكسه في المستويات القومية والوطنية للدول. وهذا الميل للحركة إلى العالمية يتخطى اليوم العلاقة ما بين تنظيمات، ليضم الدول ضمن تجمعات إقليمية وعالمية، هي التعبير المباشر السياسي عن الوزن الأعلى للجانب العالمي للصراع. فأي ملف داخلي أو قومي- إقليمي لا يمكن التصدي له بمعزل عن موقعه ضمن الخريطة الجيوسياسية العالمية. وهذا يفرضه التقارب الكبير التاريخي والمكاني للتناقضات في البنية العالمية. فالتناقضات في الرأسمالية أصبحت تقتضي حلّا شاملاً ومترابطاً، وأي تقدم في حل أي تناقض يفترض حلاً للبقية. وهذا الميل يمكن ملاحظته في عدد الأطر العالمية التي تشكلت، أو انتعشت، مؤخراً خارج الأطر «الأممية» التقليدية السابقة، من منظمة شنغهاي إلى آسيان، إلى تجربة رابطة الدول المستقلة وما بقي منها، إلى صيغة أستانا، والتنسيق العالي شبه اليومي، وحتى اللحظي، ما بين الدول حول مجمل الملفات.
وهكذا، يظهر الميل الانعزالي، وفي أحسن الأحوال المثالي، لدى غالبية القوى اليوم التي تحمل شعار الثورية، في معاداتها وعدم فهمها للجديد التاريخي. فالوزن الوطني والإقليمي صار أقل لصالح وزن الحركة العالمية. حتى لو لم تفهم هذه القوى طبيعة القوى العالمية التي تجلس في مقدمة الحركة العالمية بفعل الضرورة، وحتى لو لم ترض عنها تلك القوى، جالسة في وضع انتظاري لما هو في ذهنها الظرف «الأممي» الذي فيه وحده تمارس هذه القوى «أمميتها». يا لبؤسها التاريخي العلمي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1036