الصين تبدأ بمحاصرة الأصنام: وراء الأكمة ما وراءها
في مواد سابقة أشير إلى أن اقتصاد السوق والإنتاج البضاعي المهيمنين عالمياً يشكلان قاعدة مادية قوية للثقافة الاستهلاكية والليبرالية الفردانية، وهذه بدورها تشكل الإطار لمختلف الاتجاهات السياسية والقيمية الليبرالية. وهذا التناقض يشكل في هذه اللحظة التاريخية تحدّياً جدّياً أمام الاتجاهين التاريخيين المتصارعين، بين واحد آفل، وآخر يولد ويتبلور. وهذا التحدي صار بارزاً أكثر على السطح على لسان جهاز الدولة في الدول التي تعبّر أوضح تعبير عن الاتجاه التاريخي الذي يولد، أي روسيا والصين.
اتجاهات المواجهة وموقعها التاريخي
في سياق التحدّي، وفي لحظة تاريخية تقتضي تماسكاً اجتماعياً وسياسياً عالياً داخل الدول الصاعدة، تحت لواء الوحدة والصمود في وجه الخلخلة الداخلية التي لا يمكن أن تحصل إلا في سياق عقلية جماعية للمجتمع، وإشتراك الجميع في تحمل مسؤولية المهمة التاريخية والتحديات التي تتعارض بالضرورة مع عقلية الفردانية والابتعاد عن الانخراط في قضايا المجتمع بشكل فاعل التي هي من مظاهر مجتمع الاستهلاك والترفيه السطحي في تعارض مع قيم الصلابة والـ «ثورية» المطلوبة، في هذا السياق التاريخي، بدأت بالتبلور اتجاهات المواجهة في خطوات أولية هي رأس جبل الجليد للانتقال التاريخي لتحويل ضروري لعلاقات الإنتاج وملكية الثروة، مع ما يترافق معها من تحويل في البنية السياسية ودور الفرد وموقعه في الإدارة الاجتماعية الفاعلة. ولكن إلى حدّ الآن يبدو أن التناقض الناتج عن هيمنة علاقات السوق والإنتاج البضاعي تقف عائقاً أمام تطوير المواجهة في شكلها الجذري لتجفيف المنابع المادية للمظاهر الثقافية المرافقة لاقتصاد السوق، والتي تصب في نهاية المطاف في صالح الليبرالية ومشروعها الحياتي وأهدافه ومعانيه وتصوراته عن الحياة وموقع الفرد ودوره، مما يشكل قاعدة متقدمة للعدوان على القطب الصاعد نفسه. وهذا ما سميناه سابقاً بضغط العقدة الثقافية (يمكن مراجعة مادة قاسيون: ضغط العقدة الثقافية كرأس لجبل الجليد- قاسيون عدد 1024).
الصين وأصنام السوق
تعاني الصين بشكل خاص من أزمة النمط الثقافي الاستهلاكي مع كل ما يستتبعه ذلك من هيمنة لأصنام هذه الثقافة، والتي تقوم على قاعدة مادية من علاقات الدعاية والاستقطاب والترويج ووسائل الدعاية الداعمة وتقديم «أبطال» السوق وأصنامه والتي تشكل الحامل الفردي للبضاعة، أي تشيُّؤ العلاقات والفرد لصالح البضاعة. وبالنسبة للصين، التي تحولت وبشكل كبير في المرحلة السابقة إلى تعويض النقص في الاستهلاك العالمي عبر توسيع قاعدة الاستهلاك الداخلي. هذا القطاع في الصين هو من الضخامة التي توزاي مليارات الدولارات وتشمل شبكة واسعة من العاملين والشركات والأصنام السينمائية والتلفزيونية. إنها المظاهر التقليدية التي تعودنا عليها في الثقافة الاستهلاكية الغربية في العقود الماضية، ولكنها بالنسبة للصين في تعارض بنيوي مع مسار الصين التاريخي التي تجد نفسها فيه. هذه المظاهر من البنية الفوقية تتعارض بالضرورة مع مظاهر أخرى في البنية الفوقية نفسها، وتحديداً المسار السياسي وتقرير مصير البلاد مع ما يفرضه ذلك من حالة قيمية وثقافية تختلف عن هيمنة المظاهر الليبرالية السوقية.
احتدام المواجهة من الباب المالي، الحقوقي، القيمي الفوقي
بسبب التناقض الذي تعيشه الصين بين وزن كبير لاقتصاد السوق، وبين مسارها التاريخي وضرورات المواجهة السياسية عالمياً، فإن المواجهة التي وعتها الصين وضمن حدود هذا التناقض، تعبّر عن نفسها بأشكال فوقية لا تنتمي كما قلنا إلى تجفيف منابع المخاطر الثقافية المذكورة. فخلال الأسبوعين الماضيين احتدمت القضية في الصين آخذة شكل المواجهة الجدية، مالياً وثقافياً مع هذه الأصنام، إما من باب محاربة الفساد في سوق إعلامية متضخمة، أو من باب محاربة الترويج لمظاهر ثقافية اعتبرتها السلطات مهددة ومتعارضة مع أهداف المجتمع الصيني. وليست قضية ضبط سوق الألعاب الإكترونية إلا جانباً منها.
نماذج مختلفة
لا يبدو أن شبكة CNN كانت سعيدة أبداً بقرار الصين معاقبة إحدى مشاهير التلفزيون والسينما في الصين الممثلة جانغ شوانغ، نتيجة تورطها بفضيحة أخلاقية بعد اتهام شريكها السابق بتخليها عن ولديها في الولايات المتحدة، عبر تغريمها بمبلغ مالي وصل إلى 46 مليون دولار أمريكي، وإزالة أعمالها عن الشبكة! ممثلة مشهورة أخرى هي جاو واي، تمت إزالة أعمالها وأزيل اسمها عن لائحة الممثلين، وأغلقت صفحاتها عن مواقع التواصل الصينية، وذلك بسبب تهربها الضريبي. إضافة إلى «نجم البوب» الكندي الصيني كرسي وو الذي أوقف بسبب قضية اغتصاب. وحسب المقال «لماذا يضيّق الحزب الشيوعي الخناق على أشهر نجوم ونوادي المعجبين في الصين؟» لامست CNN تخوم المواجهة الثقافية السياسية في الصين، فاعتبرت أن هذه الحملة الجديدة شديدة القسوة والاتساع غير المسبوقة جاءت بعد خطاب الرئيس الصيني بمواجهة «المعارضة السياسية، الناشطين الاجتماعيين، الليبرالية الأيديولوجية، والأعمال الخاصة». هذا ما اعتبرته الـCNN اتهاماً ضد تصويب نظام السيطرة والتحكم للحزب الشيوعي الحاكم حسب تعبيرها. وأكد المقال أن هذا امتداد للمعركة الثقافية الأيديولوجية في الصين، التي أطلقها علناً الرئيس الصيني في سياق إعادة توزيع الثروة والتي يجب أن يتحمل قسم كبير منها أصحاب المداخيل الفلكية من قطاع التلفزيون والإعلام الذين استفادوا من الطفرة الاقتصادية وتوسع قطاع الاستهلاك في العقود السابقة، فجانغ كسبت في شهرين ونصف 24 مليون دولار في حين لا يكسب بعض مئات الملايين من الصينيين أكثر من 140 دولاراً في الشهر الواحد. وردّت CNN هذه الممارسات إلى زمن الثورة الثقافية التي أطلقها الزعيم ماو تزي دونغ وشكلت علامة فارقة في حياة المجتمع الصيني. علامات الانزعاج الغربي برزت في مقال آخر لـCNN حول قرار الصين التضييق على قطاع الألعاب الإلكترونية الضخم في الصين لحماية الأطفال والشباب من الإدمان وعدم الفعالية الاجتماعية و«المخدر الرّوحي». فهذه الممارسة اعتبرتها CNN، ودائماً حسب «مواقف لأشخاص على الشبكة»، أنها ستسبب تراجعاً في ثقة المؤسسات الاستثمارية وتخلفاً صينياً في قطاع الألعاب التنافسية! كذا!
في بعض تفاصيل التوصيات الـ10
كانت إدارة الفضاء السيبراني (الإلكتروني) في الصين CAC قد أصدرت 10 توصيات بما يتعلق «بتنظيف الفوضى الحاصلة» في قطاع الإعلام والسينما والدعاية ونوادي المعجبين في الصين. واعتبر القرار دليلاً على حزم السلطات الثقافية والسياسية في البلاد على الإمساك بهذا الملف الثقافي والاجتماعي الحساس. وشملت التوصيات تخفيض الأجور الفلكية للعاملين في القطاع، ومكافحة التهرب الضريبي، ومراقبة المدفوعات. ومراقبة «توظيف الأطفال النجوم» ومنع توظيف القاصرين في برامج الواقع والترفيه، ومنع ما يسمى بشبكات دعم النجوم من قبل المعجبين عبر التبرعات أو شراء سلع مرتبطة بالنجوم. فهذه الشبكات تخلق «ترابطاً نفسياً واجتماعياً بين المعجبين ومثلهم العليا السينمائية». فهذا القطاع شكل سوقاً ضخمة للأرباح السهلة الريعية، عبر وجود 28 تطبيقاً هاتفياً لتتبع «المثل العليا» من المشاهير. في السياق منعت منصة بث الفيديو إي تسي يي iQiyi برامج المبارزة بين المشاهير. وشجعت التوصيات على ضرورة استبدال قضايا التنافس الفردي الذي يعزز تفكك المجتمع، واستهدفت أيضاً قضية تشويه الهويات الجنسية الجندرية، لصالح تصحيح قيم التذوق الجمالي وتقديم القيم الثورية والتقليدية الممتازة، ضد قيم تعزيز الولع بالثراء والانتصار الفردي. ورافق كل ذلك لائحة عقوبات قاسية للمخِلّين بالتوصيات. إن الساحة الثقافية هي أرض معركة فعلية صارت ضرورة داخلية صينية تطال تطورها التاريخي العام. وما خطاب الرئيس الصيني الأخير في مؤتمر للكوادر السياسية الشابة حول ضرورة اختبار دروس الحياة والانغماس في قضاياها الصراعية من أجل تكوين الذات، فالتكوين الثوري لا يأتي إلا من الممارسة وغنى الحياة، ليس ذلك إلا دليلاً علنياً على تثوير الحالة الأيديولوجية الثقافية في الصين. وما الانزعاج السياسي والأيديولوجي الفاقع لـ CNN إلا مؤشر على أن الممارسة الصينية الجديدة طالت الخطوط الحمر الأيديولوجية الثقافية لليبرالية الرأسمالية. ولكن ليس هذا إلا بداية طريق طرح مشروع حياة جماعي، وحلم فردي، يتلاءم مع ولادة العالم الجديد، الذي للأفراد أدوار فاعلة أخرى غير كونها مستوعبات للاستهلاك وشفط فائض القيمة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1035