الردّ على الورم والاستعصاء: من الأفضل أقل شرط أن يكون أحسن
إنها فعلاً كالساحر الذي أطلق المارد ولم يعد قادراً على السيطرة عليه، كما يوصّفها ماركس، فالرأسمالية، وتحديداً بعد أن كفّت أن تكون قوة تقدمية تاريخية، دفعت مختلف المستويات حدّ التضخم المفرط، المبالغ فيه. والتضخم يطبع جانب المعاناة كما جانب «الرفاهية» الذي قدمت نماذجه النيوليبرالية بشكله الفاقع. والتضخم طال كل الجوانب، وما الورم السرطاني إلا نموذجه الطبي الجسدي الملموس. ولهذا التضخم وزنه الكبير على تحديد طرق التطور القادمة، كقوة شد رجعية، لا يمكن إلا التوقف عندها لا كتفصيل، بل كقوة مادية وازنة.
التورم الكمّي من جديد
من المناسب إعادة التأكيد انطلاقاً من القاعدة المادية للرأسمالية، أنه انطلاقاً من السعي إلى الربح وتراكمه دون حدود، يمكن فهم كل مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية الأخرى. فالنيوليبرالية وثقافتها ليست إلا الشكل الاجتماعي الأوضح لهذا القانون الناظم. فكل شيء هنا يجب أن يكون كثيراً حتى يحقق غايته، من الاستهلاك إلى العلاقات إلى الأشياء المملوكة... كل شيء عبارة عن الكمية. وصار التضخم الكمّي هذا مرض الكرة الأرضية ككلّ. وما الفيسبوك إلّا مؤشر على هذا التضخم الكمّي لهذا النمط من الحياة. ولكن في ظل كل الضجيج العالمي وما تم إنتاجه من سلع ومنتجات إعلامية ودعائية وثقافية وعلميّة، كان الورم يخنق الحياة في الجسم الاجتماعي، ويقزّم الوجود الإنساني إلى ما يشبه الـ«ديدان» كما يوصفّها ألبرتو موارفيا. هذا من جانب «الرفاهية» المتاحة، أما من جانب المعاناة، فالتضخم وصل أيضاً حدوداً قصوى تهدد الوجود المادي والمعنوي كتعبير عن وصول الرأسمالية إلى حدودها التاريخية التي لا مفرّ من نتائجها المدمرة طالما بقيت في المدى القريب. فالتورّم الحاصل في كلا جانبي العملة، معاناة- ترفيه، أدخل البشر أنفسهم في حالة الأموات الأحياء- «الزومبي»، عقلاً وجسداً.
الشدّ الرجعي للخلف
إن وزن الورم هذا في جانبيه، معاناة- «ترفيه»، ليس بسيطاً في تشكيل مصاعب العمل السياسي، فهو ليس فقط قاعدة للتشويش والفوضى الفكرية والنفسية الحاصلة نتيجة العلاقة المضطربة والمهشمة بالبناء الاجتماعي، بل يشكّل أيضاً قاعدة للإنفلات من شروط الانتظام الاجتماعي الضروري لأية عملية بناء للجديد. وهذا ربما قد يطال مجتمعات أكثر من غيرها. وليس هذا النوع من الورم الذي يمكن استئصاله. ولهذا بالتحديد هناك ضرورة للتقدم بنموذج قادر على تعطيل قاعدة هذا الورم، أي الطاقة التي تمدّه بالقدرة على التضخم. النموذج هذا ولا بد من نموذج حياة شامل، ليس لحد اليوم عنوان للمرحلة على مستوى العالم. وهذا له مبرراته عملياً. ولكن طول الأزمة ولا شك سيفرض نفسه، في عملية صراعية سيتقدم فيها الجانب الفكري والثقافي والنظري أكثر وأكثر. وهذا برأينا ما يجب التركيز عليه في جانب العمل العالمي الأممي.
هل هذا ممكن؟
إن هذه الخطوة، أي التقدم بمشروع حياة شامل، ليس بالمعنى الدفاعي فقط في وجه النظام العالمي الإمبريالي- الرأسمالي، بل كتجديد الحياة في مشروع نمط الحياة الاشتراكي بما يتلاءم مع التناقضات الجديدة التي ظهرت خلال العقود الماضية، إن هكذا خطوة مرتبطة حكماً بظروف الصراع في كل دولة كما بظروف الصراع العالمي نفسه. ولكن لا يمكن أن تبقى هذه القضية دون طرح علني وخلق الإطار المناسب لها، كما يجري خلق أطر حول قضايا حساسة مصيرية أخرى، من الطبيعة إلى المسألة النووية إلى قضايا أخرى. ولا شك هناك قوى اجتماعية واسعة في الغرب والشرق معاً، في المركز كما في الأطراف قادرة على التوحد حول التقدم بنموذج حياة جديد يعزل الورم، ويخفف من خنقه للجسم الاجتماعي ولأي مشروع بناء. فمشروع البناء خارج الهدف العلني المناسب لتطلعات شعوب العالم التي اختبرت التضخم الكمي وما يعنيه تفريغ الحياة من معاناها، بالضد من حالة «الديدان» التي أشار إليها مورافيا.
من الأفضل أقل شرط أن يكون أحسن
في آخر كتاباته، أشار لينين إلى وزن الماضي، وهنا كان السياق المقصود جهاز الدولة في علاقته بالموروث الثقافي والتربية السياسية ودور ذلك في تقرير مصير تطور المشروع الثوري السوفياتي، لهذا الوزن دور مقرر لاتجاه التطور. أما اليوم، يمكن تعميم هذا الموروث على النظام العالمي ككل، بعد مستوى التشابك والتماثل الاستنساخي للعولمة على مستوى نمط الحياة. وبعد إشارته إلى شروط العمل الرهيبة والصعبة، يقول:» ينبغي أن نتبع القاعدة التي تقول: من الأفضل أقل شرط أن يكون أحسن. علينا أن نتبع القاعدة التي تقول:من الأفضل أن نحظى بمورد بشري جيّد في عامين أو ثلاثة بدلاً من العمل بتسرع بدون أمل في أن نحظى بذلك على الإطلاق». ويضيف «أعرف أنه من الصعب اتباع هذه القاعدة وتطبيقها في ظروفنا. أعلم أن القاعدة المضادة ستفرض نفسها من خلال آلاف الثغرات. أعلم أنه ستواجه مقاومة عظيمة، ولا بد من وجود إصرار شيطاني.... ومع ذلك أنا مقتنع أنه عن طريق هذا الجهد وحده نستطيع أن نحقق هدفنا...». فما هو هذا «الأقل-الأحسن» في الحالة العالمية من الصراع المتشابك؟ وحتى لا نسقط السياق اللينيني إسقاطاً على الفكرة هنا، لا بد أنّ الوقت ليس في صالح بناء أحزاب تقليدية، دون أن ننفي ضرورة هذه الفكرة. ولكن التورم الخانق نفسه لا يبدو أنه سيسمح بهذا المشروع بالولادة دون عوامل مخففة أخرى داعمة تلتقي فيها مختلف الينابيع من أجل تشكيل جدول عالمي. فلا بد من أجل كسر حالة الاستعصاء النسبية الموجودة أن تحصل خطوات إبداعية على شاكلة خلق إطار عالمي حول هذه القضية مع ما يقتضيها ذلك من خطوات تنفيذية واضحة. وتجميع الطاقات العالمية على هذا الأساس مع ما يقتضيه ذلك من قدرة إعلامية مؤثرة. وهذا لا يتبعد كثيراً عن اتجاه الصين في رفع قضية مجتمع الرفاهية، ولكنه بالطبع يحتاج إلى تعميق، ولا يجب أن يختلف مع توجهات دولة كروسيا في مرحلة إعادة انطلاقتها التاريخية في ظل أزمة وجودية كالتي هي اليوم. فتلك الدول لن تبقى بهذا الاستقرار المرحلي كما هي اليوم مع تعاظم حدة الأزمات والتناقضات. ولا يمكن لأحد أن ينفي وجود نواة في مختلف أنحاء العالم مشتتة ولكنها ولا شك قوة تقدمية كامنة يجب تظهيرها في اتجاه طرح المشروع الشامل الذي سيساهم بكسر استعصاء الحالات السياسية المعزولة في كل دولة على حدة، من أمريكا اللاتينية إلى الشرق الأقصى، والحياة نفسها قد جهزت القاعدة الاجتماعية لتلقي طروحات هكذا مشروع.
ليست بالمهمة بالسهلة، ولكنها ولا شك حاجة موضوعية لتعطيل الشد الرجعي للخلف، وتخفيف طاقة الورم الخانق، وتحويلها إلى منافذ أخرى تقدمية. هذا هو الأقل الأحسن الذي قد يكون رداً إبداعياً على عدة استعصاءات في وقت واحد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1039