حول الأزمة الأيديولوجية الثقافية العالمية كمهمة انتقال اشتراكي

حول الأزمة الأيديولوجية الثقافية العالمية كمهمة انتقال اشتراكي

في مواد عديدة سابقة، كنا قد أشرنا إلى أن الرأسمالية وفي آخر مناورة تاريخية لها باتجاه الظهور بمظهر المشروع الحياتي العام من خلال الليبرالية الاستهلاكية والفردانية كنمط حياة عالمي، دخلت في العقدين الأخيرين بشكل خاص في أزمة نتيجة حدة التناقضات التي وصل إليها هذا النموذج على كل المستويات العقلية والنفسية والعلائقية المباشرة. فالرأسمالية، كنظام تغريب للإنسان، ليس مكتوب لها أن تحقق الحاجات التي أوهمت البشرية أنها ستقوم بتحقيقها. خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية التي ضيقت الهوامش في هذا النموذج أساساً. ولكن هذا يفرض فراغاً في المستوى الأيديولوجي يجب دائماً الانطلاق منه في التفكير في تطور الصراع العالمي.

أزمة النموذج كآخر نموذج؟

من الممكن القول إن المناورة التاريخية التي قامت بها الرأسمالية في منتصف القرن الماضي هي المناورة الوحيدة المتاحة تاريخياً، إلى جانب الاحتمال الآخر، أي: التحول إلى نموذج فاشي عالمي. وإذا كانت الفاشية في القرن الماضي كانت يدها أكثر طلاقة قبل تثبيت قوى نقيضة لها، فهي اليوم على العكس، تواجه وزناً عالمياً نقيضاً يتمثل بشكل بارز بروسيا والصين. ولهذا، فإن احتمال الانتقال الى الفاشية عالمياً، والذي بدأ بالظهور منذ أكثر من عقد تقريباً يواجه أزمة تاريخية هو الآخر. فالوزن الاقتصادي- السياسي والاجتماعي الذي تشكل في النصف الثاني من القرن الماضي وأول ثلاثة عقود من هذا القرن يفعل فعله. ونقصد بذلك الدول التي تشكلت في الهامش التاريخي لصعود الاشتراكية ووجودها طوال حوالي ستة عقود من الزمن. بغض النظر عن مدى جذرية كل طرف في هذه الدول. فهذه الكتل وعلى وقع الأزمة الوجودية محكومة بالتحرك حسب الضرورة التاريخية لبقائها، مهما أبدت من مناورات هنا أو هناك، هي أيضاً مناورات تاريخية محدودة، ستتطور على وقع تصاعد حدة التناقضات الاجتماعية الاقتصادية والبيئية. وخصوصاً في ظل وجود وزن صاعد يفتح آفاقاً يمكن الاستناد عليها لمن يتلمس طريق البقاء. فليس عادياً أن نسمع خبراً عن هطول المطر على قسم من البقعة الجليدية القطبية لأول مرة في التاريخ المكتوب حسب البحوث شرقية كانت أو غربية. إذاً نحن اليوم أمام توسع موضوعيّ لرقعة الرفض للنموذج الانتحاري والقاتل حد الإبادة للرأسمالية. إذاً، لا مناورات تاريخية أخرى ممكنة في جعبة الرأسمالية.

المستوى الأيديولوجي

إذا كانت الأزمة التي ضربت المستوى الاقتصادي انتقلت إلى المستوى السياسي بشكل بارز مؤخراً، في قلب المعكسر الغربي تحديداً، فإنها ولا شك ستظهر في المستوى الأيديولوجي، الذي هو التكثيف العلني لحركة الاقتصادي- السياسي، أي تبرير وجودهما في الوعي. وهي بدأت أساساً على المستوى الفردي عبر انهيار السردية الفردية الليبرالية بشكل مبكر ولو كان غير ظاهر في حركة واسعة مؤطّرة. وهذه الأزمة بالتحديد لا تطال فقط المركز الغربي، بل هي تطال المحور الصاعد، لأن العالم كله اليوم ما زال يشهد هيمنة ووزناً كبيرين لعلاقات الرأسمالية كاقتصاد بضاعي وتعبيرها ضمن السوق. فالصين وروسيا ليستا خارج هذا الوزن المهيمن لعلاقات السوق، على الرغم من وجود دور كبير لآلية ضبط الدولة، ولتوزيع للثروة مدار ضمن أهداف التقدم الجماعي للمجتمع. ولا يخفى أن هذه القاعدة المادية هي حامل للوجود الثقافي الأيديولوجي لليبرالية الفردية والمشروع الذي تحمله. والذي هو نفسه يشكل عبئاً على هذه الدول ضمن تطور الصراع والانتقال إلى أشكال إجتماعية مشتركة من الوحدة السياسية.

بين الانغلاق والانفتاح

إذا كانت أزمة النموذج الأيديولوجي الغربي تعبّر عن انغلاق أفق تاريخي، فإن هذه الأزمة ليست نفسها بالنسبة للنموذج الصاعد. فآليات عمل هذا النموذج كانت في صالح الغرب، بينما لم تكن كذلك نسبة للأطراف المنهوبة على اختلاف درجة استقلاليتها النسبية. ولهذا، فإنه ليس غريباً أن يعيد الغرب اجترار كامل منظومته الأيديولوجية العفنة، عودة إلى الطروحات الأيديولوجية في التشكيلات الاجتماعية التاريخية السابقة، ويستعيد منها عناصر ورموز كانت حينها تقدمية، ولكنها اليوم تظهر هزيلة أمام المهام التاريخية الراهنة والتناقضات المطروحة. فما أكثر من اقتباسات بعض المتصوفة في الغرب كما في دولنا. وما أكثر من مدارس التمرد الفردية والطروحات الوجودية الصراعية التي لا تخرج اليوم عن كونها لزوم ما لا يلزم أمام ما يقضيه الواقع. بل هي تتحول إلى عوامل رجعية بامتياز. فماذا يعني اتخاذ موقع فرداني يطرح إمكانية انتصار الفرد من موقعه الفردي حصراً، عبر حمله منطقاً بطولياً وتفجيراً لطاقاته الكامنة؟
لذلك كله، إن الأيديولوجيا المهيمنة وقريباً جداً ستأخذ طابع العدمية الشاملة، أمام الأزمة الموضوعية للوعي، والقضايا غير المحلولة مهما قفز فوقها في ألاعيب فردانية مجردة.هذه العدمية في الفكر لها مقابلها السياسي الذي هو التعطّل السياسي الغربي الظاهر. أمام هذه العدمية، هناك في القطب الصاعد خجل من طرح النموذج الحياتي البديل، المحمول على مشروع الاشتراكية الإنساني. المشروع الذي يعيد تنظيم علاقات الفرد بالمجتمع، وعلاقات الفرد بنفسه، وعلاقاته المجتمع بالطبيعة. وهذا المشروع يحتاج إلى بلورة أيديولوجية ملائمة للعصر الراهن، وما تحمله التناقضات المعنوية والروحية والنفسية من معانٍ وقيم. ربطاً بالحياة العائلية والعاطفية والمهنية والعلمية... وإلى جانب هذا الخجل، نرى طروحات “وطنية قومية” تعيد إحياء التراث في بعض دول القطب الصاعد، كالصين وروسيا، من أجل بناء قاعدة أيديولوجية مقابلة للقيم والمعاني الليبرالية. وإذا كانت في الصين تتلاقح مع هوية ماركسية وشيوعية علنية عبر لسان أعلى هرم السلطة والبرنامج الوطني الإستراتيجي في مجلس الدولة، وهذا بسبب طبيعة الحكم المباشر للحزب الشيوعي، فهي (نقصد ملامح القومية الخاصة) في روسيا تتلاقح مع عناصر مرحلة الحرب الوطنية العظمى، ورموزها، الذين هم ولا شك يحملون طابعاً ماركسياً واشتراكياً. ولكن هذا الدمج ما بين الخاص والماركسي الاشتراكي الضروري لم تكتمل ملامحه في بنية متماسكة وتعكس فعلاً طبيعة التناقضات المعنوية والروحية التي يحملها المجتمعان الروسي والصيني على وقع أزمة نمط الحياة الليبرالي.

من السياسي- الاقتصادي إلى الأيديولوجي إلى علاقات الإنتاج

إن الضغط الذي تعيشه دول القطب الصاعد هو ضغط صار واعياً في عقل جهاز الدولة والحكم فيها. إنه ضغط الصراع السياسي الاقتصادي الذي تعيشه هذه الدول. إذاً الضرورة الموضوعية تدفع الجميع إلى خيارات محددة لا بديل لها. فهذه الضرورة كشفت بأن الأيديولوجيا هي تعبير عن القاعدة المادية الاقتصادية والقيم السياسية والعلاقات الاجتماعية الحاملة لها على مستوى الأدوار والأهداف وغيرها. وإذا كانت هذه الدول قادرة أكثر على ضبط تفلت رأس المال المالي مثلاً، إلا أن الانتقال إلى علاقات إنتاج اشتراكية ليس هو المطروح أقله اليوم وعلنياً. ولهذا، سيبقى الحامل المادي لمشروع أيديولوجي آخر مرهوناً بتطور وتوسع هيمنة حامله المادي. أي توسع حضور علاقات إنتاج اشتراكية، لكي يصير ممكناً أن يتناسب معها وعي يحمل سردية يتلاقى فيها الفردي مع الاجتماعي، سردية قادرة على تجاوز التناقضات ضمن السردية الليبرالية الفردانية. ويمكن هناك الاستعانة بتجربة السوفيات التاريخية، التي حصل فيها تقدم مرحلي لهيمنة هذه العلاقات تلافياً لأي خضات اقتصادية وسياسية واجتماعية ربطاً بموازين القوى العالمية وتفاصيل الصراع في خصوصياته الحديثة الحالية. وهذا يمكن له أن يحصل اليوم عبر توسيع هيمنة علاقات الإنتاج الاشتراكية شيئاً فشيئاً، فالصين اليوم تملك قاعدة بروليتارية كبيرة وثروة حقيقية وأدوات إنتاج ذكية حديثة، لا تشبه مثلاً القاعدة المتخلفة الاقتصادية للاقتصاد السوفييتي الذي شكل عقبة أمام انتقال سريع لعلاقات اشتراكية في الزراعة، وبأدوات إنتاج متخلفة، فكان دخول المحراث مثلا خطوة ثورية في تحويل القطاع الزراعي إلى قطاع دولة وإدارة خاصة (الكولخوزات والسوفخوزات). وحتى روسيا لديها هذه الإمكانية اليوم. هذا التوسع الهيمني لعلاقات إنتاج اشتراكية يعني تقدماً جدياً لمشروع حياتي نقيض لليبرالية.
وعلى حد تعبير عالم النفس السوفياتي ليف فيغوتسكي في تعليقه على الأزمة المعرفية- الإبستيمولوجية: إن تراكم المواد العملية، في ظل أزمة ثنائية المثالية- المادية، صار يفرض سلوك طريق جديدٍ. ولا طريق ثالثاً. وهكذا عبر لينين نفسه أيضاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1033
آخر تعديل على الإثنين, 30 آب/أغسطس 2021 23:37