ثمة طرق عدة لتخفيض الأجور في سورية... أهمها «زيادة» الأجور!
صدر في الخامس من شباط 2024 المرسومان التشريعيان رقم (7) و(8)، اللذان ينصان على «زيادة» بنسبة 50% على الرواتب والأجور الثابتة للموظفين المدنيين والعسكريين، بما في ذلك المتقاعدون، ليصبح الحد الأدنى العام الجديد للأجور 278,910 ليرات سورية شهرياً. وأتى هذا القرار متزامناً مع مجموعة من القرارات التي رُفعت بموجبها أسعار السلع الأساسية مثل الخبز، والمازوت المستخدم في الأفران، والبنزين العادي، والبنزين أوكتان 95.
على نحو معتاد، بمجرد انتشار أنباء «الزيادة» الخلبية، سرعان ما أصبحت موضوعاً للسخرية بين السوريين الذين بدأوا بإجراء مقارنات لتسليط الضوء على ضآلة قيمة 278,910 ليرات سورية أمام التصاعد الكبير في أسعار السلع داخل البلاد. وهنا لا بد من الحساب فعلياً، ما الذي يغطيه الحد الأدنى الجديد للأجور اليوم؟ وما هي المشكلة الأساسية التي تكمن وراء فكرة «الزيادة» ذاتها؟
أكثر من 97% من ضرورات العيش غير مغطاة
حسب إحصائيات مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة، وصل متوسط تكاليف المعيشة لأسرة سورية مؤلفة من خمسة أشخاص إلى 12,055,622 ليرة سورية في مطلع عام 2024. ومع الافتراض بأن الأسعار ظلت ثابتة في السوق خلال الشهر الماضي (وهو غير صحيح)، فإن الحد الأدنى الجديد للأجور لا يغطي سوى 2.3% من متوسط تكلفة المعيشة، علماً أن الارتفاعات طالت أسعار معظم السلع في السوق.
وإذا افترضنا وجود فردين عاملين في الأسرة، فإن الزيادة المضافة إلى الحد الأدنى للأجور ستغطي في النهاية ما يقارب 6.3% من متوسط تكاليف معيشة الأسرة. هذا في حين أن نسبة الإعالة الفعلية، في ظل الأوضاع الحالية بالبلاد هي بالتأكيد أعلى من ذلك، وتبلغ - وفقاً لتقديرات المنظمات التابعة للأمم المتحدة - فرداً معيلاً واحداً مقابل سبعة أفراد.
%6.1 من الحد الأدنى لتكاليف غذاء الأسرة
بالمثل، شهد الحد الأدنى للتكاليف الشهرية لغذاء الأسرة السورية (محتسباً على أساس السعرات الحرارية اللازمة للحفاظ على الحياة وتجديد قوة العمل) ارتفاعاً ليصل إلى 4,520,858 ليرة سورية في بداية عام 2024.
وإذا تم الافتراض بأن أسعار الغذاء ظلت دون تغيير خلال الشهر المنصرم، فإن الراتب بعد «الزيادة» لن يكفي إلا لتغطية 6.1% من الحد الأدنى لتكاليف غذاء الأسرة على أساس شهري.
وفي حال افترضنا أن العامل السوري لا يعيل سوى نفسه، ويعمل لتوفير غذائه فقط، فإن قيمة الأجر بعد «الزيادة» ستغطي 30.8% من الحد الأدنى لتكاليف غذائه الشخصي فقط (904,170 ليرة سورية)!
الأسعار المنفلتة تبدد أي «زيادة»
كل ما طرحناه سابقاً كان بهدف المقارنة فقط، ولا يمثل بدقة الوضع الفعلي. إذ في الواقع، لا تقدم «الزيادة» أي دعم يذكر للأجور، وسرعان ما ستذوب قيمتها وسط موجات الزيادات المستمرة التي تعصف بالسوق يومياً، وسنتبين ذلك عند أول حساب جديد لتكاليف المعيشة في البلاد.
بل إن الأمر يتجاوز ذلك؛ فـ«الزيادة» قد تسهم بشكل إضافي في خفض القيمة الحقيقية لأجور العمال السوريين، حيث إن الكمية النقدية من الليرات السورية التي ستُصرف على شكل «زيادة أجور» ستؤدي - كما فعلت دائماً- إلى انخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار، ما يعطي دفعة جديدة للارتفاع المتواصل للأسعار في الأسواق، ويترتب عليه تدهور في القوة الشرائية الحقيقية للأجر السوري.
الضرورة تقتضي رفع الأجور الحقيقية...
لا يوجد خلاف على أن كل ليرة سورية تضاف إلى دخل العاملين المنتجين في سورية هي بمثابة خطوة إيجابية، شريطة أن تحتفظ هذه الليرة بقيمتها بدلاً من أن تساهم في تقليل القيمة الحقيقية للقدر القليل من الليرات «المتاحة» بالفعل في جيوبهم.
وهذا هو السبب الجوهري الذي يجعل «الزيادة» الأخيرة عاملاً مساعداً على تفاقم تردي الأوضاع المعيشية للسوريين، فهي ليست في حقيقة الأمر زيادة أجور موجهة للشعب، بل هي بمثابة منحة للسوق، خاصة للمحتكرين في قطاع الغذاء. ولذلك، فإن الحاجة في الوضع السوري الراهن تدعو إلى زيادة الأجور الفعلية لا الاسمية.
ولا يمكن القول بزيادة الأجور الحقيقية للسوريين بشكلٍ جدي دون الأخذ بعين الاعتبار ثلاثة عوامل أساسية:
أولاً: كي تكون الزيادة في الأجور ذات معنى، يجب ألا يُنظر إلى الرقم الإجمالي بمعزل عن قدرته الشرائية في السوق. الأهم هو القوة الشرائية للأجر، ولذا، ينبغي ربط الحد الأدنى للأجور بتكاليف المعيشة بشكل يضمن تغطية هذه التكاليف.
ثانياً: حتى إذا تم ربط الحد الأدنى للأجور بتكاليف المعيشة، فإن هذا وحده لا يكفي إذا ما تبعته ارتفاعات جديدة للأسعار في السوق، مما سيؤدي إلى انخفاض تدريجي في القيمة الفعلية للأجور. لهذا، من الضروري أن يكون هذا الربط متجدداً بشكلٍ دوري (شهري، ربع سنوي، سنوي، إلخ)، وهذا يجب أن يُعتبر حقاً للعمال وليس «مكرمة» من أحد.
ثالثاً: من الضروري ألا يأتي تمويل زيادة الأجور من جيوب المواطنين أنفسهم، عبر «الوفورات» المتأتية من عمليات رفع الدعم تحت ذريعة «ترشيده» و«توجيهه لمستحقيه»، بل يجب أن يأتي من مكافحة الفساد واستهداف كبار الناهبين الذين يسيطرون على ثروات البلاد، بينما لا يحصل 90% من السكان إلا على 10% من هذه الثروة في أحسن الأحوال.
يُبرز هذا مجدداً الحقيقة القائلة بأنه، زيادات الحد الأدنى للأجور، وبغض النظر عن مداها، لا تحمل أي معنى حقيقي ما لم تتواكب مع تحسين القدرة الشرائية والقيمة الواقعية لهذه الأجور. إذ يمكن للحد الأدنى للأجور أن يزداد أضعافاً مضاعفة من الناحية النظرية، ولكنه في الواقع ينخفض، مما يترك الملايين من السوريين في مواجهة الفقر والجوع والأمن الغذائي المفقود.
هل هذا يعني أن زيادة الرواتب مضرة دائماً؟
لا تعد الزيادة في الأجور ضارة بشكل دائم؛ بل تصبح كذلك عندما تُنفذ بالطريقة التي تُنفذ بها في سورية حالياً، أي زيادة تؤدي إلى التضخم وتفتقر إلى مصدر تمويل دائم.
تتطلب الزيادة حقيقية في الأجور مصدراً حقيقياً لتمويلها. وثمة طريقتان رئيسيتان لتحقيق ذلك: إما من خلال نمو اقتصادي يسمح بتخصيص جزء من هذا النمو لزيادة الأجور، وهو ما لا ينطبق على الوضع الاقتصادي الحالي في سورية. أو من خلال إعادة توزيع الثروة الوطنية، التي تتكون بشكل أساسي من أجور وأرباح، بطريقة تضمن زيادة الأجور على حساب الأرباح. ويعتبر توزيع الثروة في سورية إجرامياً للغاية، حيث كان التوزيع السابق لانفجار الأزمة يمنح 20% من الثروة لـ80% من السوريين، و80% من الثروة لـ20% منهم، ومع تدهور الأوضاع، وصل إلى نقطة يحصل فيها 90% من السوريين على أقل من 10% من الثروة.
تصبح زيادة الأجور (بمعدلات جدية) ممكنة عندما يُمكن للشعب السوري الوصول إلى ثروات الفئة الصغيرة من كبار الفاسدين الذين استأثروا بالثروة الوطنية، والذين يتجنب جهاز الدولة بكل تصرفاته المساس براحتهم وأرباحهم.
هل يكفي ضبط الأسعار أو تخفيضها لحل المشكلة؟
ثمة من يردد في سورية اليوم أن الأجور يمكن أن تزداد بشكل غير مباشر من خلال تخفيض الأسعار مع تحسن الناتج المحلي الإجمالي وزيادة السلع المتاحة في السوق السورية، وهي فكرة صحيحة جزئياً، لكنها مرهونة بعوامل أخرى.
إن سيناريو ضبط الأسعار أو تخفيضها مشروط بألا تلجأ الحكومة إلى طباعة المزيد من النقود دون داعٍ، وألّا تزيد من تمويل القطاعات الخدمية غير الإنتاجية والقابلة للمضاربة، مثلها مثل العقارات، وألّا تتم زيادة النشاط الإقراضي بشكل يسبب تسريعاً كبيراً في دوران النقد، وبالتالي التسبب بالمزيد من التضخم. فالطريق الوحيد الذي لا مهرب لأحد منه، هو إيجاد سلع ومنتجات وخدمات جديدة حقيقية داخل سورية، وليس توجيه الأموال نحو العقارات والبنوك والخدمات فحسب.
فالطريق الوحيد الذي لا بد مهرب لأحد منه هو إيجاد سلع ومنتجات وخدمات جديدة حقيقية داخل سورية، وليس توجيه الأموال نحو العقارات والبنوك والخدمات فحسب.
كما أن تخفيض الأسعار ليس بالأمر السهل الذي يمكن تحقيقه بالاعتماد على متغيرات السوق وحدها، نظراً لأن ارتفاع الأسعار يعود بالفائدة على أصحاب الأرباح الذين يدافعون عن مصالحهم بقوة. وحتى عند تغير الظروف التي أدت إلى ارتفاع الأسعار، من الصعب جداً أن تعود الأسعار إلى مستوياتها السابقة دون مقاومة. وعادةً، إذا اضطرت قوى السوق إلى تخفيض الأسعار مع ارتفاع قيمة العملة، قد يتم أيضاً تخفيض أجور العمل باعتبارها جزءاً من سلع السوق التي يتغير سعرها مع تغير الأسعار.
وحتى إذا افترضنا أن الأسعار انخفضت في السوق دون تخفيض الأجور، فهذا وحده لا يكفي لحل المشكلة في الحالة السورية، بسبب الفجوة الهائلة بين وسطي الأجور وتكاليف المعيشة الفعلية.
فالأجور اليوم بحاجة إلى أن ترتفع بما يزيد عن 4222% لتغطي الاحتياجات الأساسية للعامل وأسرته!
ما يعني في المحصلة أن «ضبط السوق» أو الرغبة في زيادة القدرة الشرائية للمواطن السوري ليست مسألة إدارية، بل هي قرار سياسي أولاً وأخيراً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1161