لماذا تعلو الأصوات «الإسرائيلية» بضمّ الضفة الغربية الآن؟
تعالت الأصوات «الإسرائيلية» حول نيّة ضمّ الضفة الغربية لتصبح تحت السيطرة «الإسرائيلية» بشكل كامل خلال الفترة الأخيرة، وصدرت عدّة تصريحات من مسؤولين «إسرائيليين» في هذا الشأن، أبرزها ما صدر عن بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية «الإسرائيلي»، الذي أعلن في 11 تشرين الأول/نوفمبر الجاري أنّه أصدر تعليمات للتحضير لبسط السيادة «الإسرائيلية» على الضفة الغربية، آملاً أن يجري تنفيذ هذه الخطة خلال العام المقبل.
وسبقَت تصريحات سموتريتش تصريحات مشابهة لوزير الأمن القومي «الإسرائيلي»، إيتامار بن غفير، في السابع من الجاري، زعمَ فيها أن هذا العام هو «عام السيادة الإسرائيلية»، وتزامن ذلك مع تعيين بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء «الإسرائيلي» يحيئيل ليتر سفيراً لـ «إسرائيل» لدى الولايات المتحدة، وهو زعيم استيطاني سابق معروف بدعواته المتكررة والدائمة إلى ضمِّ أجزاءٍ كبيرة من الضفة الغربية.
بطبيعة الحال، فإنّ هذه التصريحات أثارت ردود فعل واسعة، وأدانتها دول ومنظمات عديدة من باب أنها انتهاكٌ للقوانين الدولية، لكن هل هذه الدعوات جديدة؟ وما الهدف منها؟ ولماذا تعلو في هذه اللحظات بالضبط؟ أسئلة سنحاول الإجابة عنها في هذا المقال...
الضفة تاريخيّاً
بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1948، واندلاع الحرب العربية-«الإسرائيلية» الأولى، سيطر الأردن على الضفة الغربية، وأعلن ضمها رسمياً في عام 1950. لاحقاً لذلك، وفي حرب يونيو/حزيران 1967، احتلت «إسرائيل» الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، ومنذ ذلك الحين، بدأت في بناء المستوطنات على الأراضي المحتلة، مخالفةً بذلك القانون الدولي الذي يعتبر الاستيطان في الأراضي المحتلة غير شرعي.
في وقت لاحق، وتحديداً في عام 1993، ما بعد توقيع اتفاق «أوسلو»، جرى تقسيم الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق: المنطقة (أ)، وهي تحت السيطرة الفلسطينية الكاملة، وتشكل نحو 18% من مساحة الضفة، والمنطقة (ب)، وهي تحت السيطرة المدنية الفلسطينية والسيطرة الأمنية «الإسرائيلية»، وتشكل نحو 22% من المساحة، وأخيراً المنطقة (ج)، وهي منطقة تحت السيطرة «الإسرائيلية» الكاملة، وتشكل نحو 60% من مساحة الضفة. ورغم الاتفاقية، استمرت «إسرائيل» في توسيع المستوطنات في المنطقة (ج).
تواصل ذلك حتى 2020، حين أعلن بنيامين نتنياهو عن خطط لضم أجزاء من الضفة الغربية، مستنداً إلى ما عرف بـ «صفقة القرن»، وحينها قوبلت هذه الخطط برفض دولي واسع، بما في ذلك من قبل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.
وفي يونيو/حزيران 2024، أي قبل عدّة أشهر، تحدثت تسريبات عن خطة «إسرائيلية» لفرض السيطرة الدائمة على الضفة الغربية دون إعلان رسمي عن الضمّ، من خلال نقل السلطات الإدارية من الجيش إلى الحكومة المدنية، وتوسيع المستوطنات، وصولاً إلى التصريحات الجديدة التي بدأنا المقال بالحديث عنها.
نهجٌ مستمر
مجمل العرض السريع السابق لوضع الضفة، وبما يتضمن من احتلال لها، ثم تقسيمها، ثم بدء عمليات الاستيطان واستمرارها وتوسيعها؛ يوضّح أن ما يطرح «إسرائيلياً» اليوم فيما يخص ضمّ الضفة الغربية، ليس وليداً لهذه اللحظات، بل استمرارٌ لنهجٍ مقرّرٍ منذ زمن، هدفه ومفاده ضرب إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة، والحيلولة دون تطبيق حلّ الدولتين الذي تنصّ عليه القوانين الدولية المرتبطة بالشأن الفلسطيني.
وبطبيعة الحال، فإنّ محاولات تدعيم النهج القديم وإبقائه حيّاً مع الضربات الكبرى التي يتلقاها الكيان، لها دوافعها المرتبطة بالمتغيرات الجارية في العالم والإقليم وعلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي لا تصبّ في الصالح «الإسرائيلي» كما تبيّن الوقائع. فالعالم بقواه الصاعدة، والإقليم، يتكاتفان شيئاً فشيئاً باتجاه ما أصبح ضرورة أكثر من أيّ وقت مضى، أي حلّ الصراع القائم باتجاه سلام مستدام يَقي هذه المنطقة من الانفجار الكبير، والفوضى الهجينة الشاملة المرسومة لها من قبل الغرب، والتي باتت تهدّد الجميع.
«التحالف الدولي لحل الدولتين»
وفي السياق السابق، من المفيد الإشارة إلى «التحالف الدولي لحل الدولتين» الذي أطلقته السعودية على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل نحو شهرين، والذي عُقدت أولى اجتماعاته في الرياض مؤخراً. ينسجم التحالف تماماً مع «مبادرة السلام العربية» التي أطلقتها السعودية في بيروت عام 2003، والتي تنصّ على إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية (في الضفة الغربية). وفي الحقيقة، ورغم أن حلّ الدولتين كان مطروحاً على طول الخط في إطار حلّ القضيّة الفلسطينية، إلّا أنّه يعود للواجهة بقوة الآن، مع تكاتف حوالي 150 دولة حول العالم بإطار التحالف المذكور.
ومن اللافت أن تصدر تصريحات سعودية رسمية هي الأولى من نوعها، وتقول بأنّ تطبيق حلّ الدولتين لا يتطلب موافقة الكيان، وذلك في إطار تصعيد اللهجة والضغط على أمريكا وربيبتها «إسرائيل»، وبمعنى آخر، فإنّ المقصود هو أن الحلّ سيتقدّم إنْ رضيَ الكيان أم لم يرضَ.
قبول إجباري بالحلّ
ومع هذا الواقع، يبدو أن حلّ الدولتين أصبحَ يلوح في الأفق، وهذا بالضبط ما تتعامل معه «إسرائيل» من خلال إعلان نوايا ضمّ الضفة بكثافة الآن، فهي من جانب تحاول إحراج الحلفاء (أمريكا والمطبعين في المنطقة) بإطار عملية التفاوض حول هذا الحلّ بالضبط، فهي عملية جارية منذ «طوفان الأقصى» بشكل خاص، حتى وإن لم يظهر هذا على السطح، وهنا نشير مثلاً إلى الاتفاقات الأمنية السعودية الأمريكية، والتي أعلن الجانبان أن 90% منها أصبح منجزاً، فيما تشترط السعودية، لاستكمال الاتفاق، ضماناً أمريكيّاً وتحرّكاً ملموساً عبر «مسار لا رجعة عنه» لحلّ الدولتين.
أمامَ هذا الواقع، والذي يقول إنّ التسوية السياسيّة قادمة مهما طالت الحرب، وإنّ حلّ الدولتين على جدول أعمالها؛ فإنّ الكيان «الإسرائيلي» الخاسر في هذه الحرب، والذي ظهرت خسارته منذ اللحظات الأولى للطوفان، سيكون مضطراً لتقديم التنازلات، ولأنه يعرف ذلك مسبقاً، فهو عَبر طرحه ضمّ الضفة، والذي يعني فيما يعنيه عدم الاعتراف بالقضية الفلسطينية وبحلّ الدولتين، يرفع السقف لهذا الحدّ، لا لشيء، سوى لإنزاله لاحقاً، أي القبول بالحلّ رغماً عنه، لأنه سيكون مضطراً إلى فعل ذلك.
إلى جانب ذلك، فإنّ الطرح «الإسرائيلي» المتطرّف والمتشدّد هذا له وظيفة أخرى تصبّ المصبّ نفسه، فهو يستدعي بصورة طبيعية ومباشرة الطرح الفلسطيني المقابل، والذي يطالب بالأرض من النهر إلى البحر، وهذا الطرح الآن، وفي هذه اللحظات بالضبط، ورغم أحقّيته، لا يصبّ في صالح الشعب الفلسطيني وقضيّته التاريخيّة، بل يصبّ في صالح الكيان، لأنه يمنع الذهاب بخطوة عملية نحو حلّ الدولتين ويمنع قيام دولة فلسطينية من الأساس.