افتتاحية قاسيون 1252: تبديل العملة: على محك العدالة الانتقالية
خلال الأسابيع الماضية، ظهرت تصريحات ومؤشرات جديدة حول طباعة العملة الجديدة وطرحها للتداول ابتداءً من أوائل العام المقبل. وهي المسألة التي يمكن اعتبارها قنبلة اقتصادية واجتماعية ذات أثر مباشر على حياة السوريين، وتتطلب تداركاً سريعاً قبل أن تتحول إلى كارثة اجتماعية لا يمكن لأحد أن يتوقع نهايتها.
لفهم التداعيات لا بد من وقفة عند الإحداثيات الحالية: خلال الخمسة عشر عاماً الماضية طُبع نحو 40 تريليون ليرة سورية، أما الكميات المطبوعة قبل عام 2011 فتفوق هذا الرقم بكثير، وهو رقم يصعب تحديده بدقة في ظل انعدام الشفافية التاريخية في البلاد. في الوقت ذاته، لا تتجاوز الكتلة النقدية المودعة لدى المصارف نحو 3 تريليون ليرة فقط، ما يعني وجود كتلة نقدية هائلة خارج النظام المصرفي.
بطبيعة الحال، فإن جزءاً من هذه الكتلة موجود لدى المواطنين العاديين، لكن ما لا ينبغي إغفاله أن الجزء الأكبر والمتراكم من هذه الأموال خارج المصارف موجود في خزائن أمراء الحرب الذين جنوا ثروات طائلة خلال سنوات الحرب عبر أنشطة إجرامية وغير مشروعة، واحتفظوا بهذه الثروات على شكل ليرات سورية لاعتبارات متعددة، أهمها استخدام هذه الكتلة النقدية كسلاح اقتصادي للضغط على العملة وسوق الصرف.
هنا نعود إلى السؤال المحوري: لماذا تلجأ الدول إلى تبديل العملة؟ بالضبط بسبب هذه الكتلة النقدية الكبيرة غير الشرعية والخارجة عن تصرف الدولة. وفي التجارب الجادة كلها، كان الهدف من تبديل العملة هو حماية مدخرات المواطنين المشروعة، وتقليص القيمة الحقيقية للثروات المنهوبة المتكدسة لدى النخب الفاسدة، بما يمثل نوعاً من إعادة توزيع للثروة لمصلحة المجتمع.
إن كلمة السر لنجاح أي عملية استبدال هي الإعلان المفاجئ عن التبديل، بحيث لا تترك مهلة لأمراء الحرب والمافيات للتخلص من الأموال المنهوبة عبر إدراجها في السوق وتحويلها إلى أصول أو عملات أخرى. وهذه المعادلة الأمنية الاقتصادية بالذات هي ما جعل الدول تنجح في استعادة جزء من سيطرتها على النقد. لكن ما يجرى في سورية اليوم عكس ذلك تماماً، فقد أعلن المصرف المركزي عن عملية التبديل قبل أشهر من موعد الطرح، فضاع عامل المفاجأة.
الشرط الآخر الذي ميز عمليات الاستبدال الناجحة هو وجود جدول تبديل تصاعدي لتبديل العملة يأخذ بعين الاعتبار ضرورة الإفصاح عن مصدر الأموال وحجمها على قاعدة «من أين لك هذا؟». والتطبيق العملي لذلك كان بسيطاً وواضحاً: الأموال المصرّح عنها والمودعة في المصارف تُستبدل بنسبة (1 إلى 1) أي أن أصحابها يحصلون على قيمتها كاملة بالعملة الجديدة، بينما تخضع النقود الكاش خارج النظام المصرفي لجداول صارمة، فمثلاً: أول مئة مليون تُستبدل (1 إلى 1)، المليار يُستبدل بنسبة (10 إلى 1)، والتريليون بنسبة (100 إلى 1). بهذه الآلية تحافظ الدولة على القيمة الحقيقية لمدخرات المواطنين العاديين، وفي المقابل تتآكل ثروات النخب الفاسدة المتراكمة.
في الظرف السوري الراهن، فإنه للحفاظ على استقرار العملة الوطنية، وبعد أن خسرنا عامل المفاجأة، على السلطات أن تتبنى فوراً خريطة واضحة بحيث تتضمن تحديد فترة زمنية معلنة للاستبدال، واعتماد جدول تبديل تصاعدي يربط مقدار الاستبدال بحجم الأموال ومصدرها، وآليات إلزامية للإفصاح عن مصادر الأموال، بما يجنب البلاد الكارثة الاقتصادية المتوقعة، ويمنع تحول عملية التبديل إلى ميدان للفساد بين الناهبين الكبار القدماء والجدد الذين قد يتفقون على تسويات من شأنها أن تعيد هيكلة الثروات المنهوبة فيما بينهم من خلال تحويل عملية تبديل العملة إلى أكبر عملية تبييض أموال في التاريخ السوري.
إن العدالة الانتقالية الحقيقية تعني في جوهرها حرمان أولئك الناهبين الكبار الذين اعتاشوا على عذابات الشعب السوري من جني ثمار نهبهم، والتأسيس لعذابات جديدة، والطريقة التي سلكها تبديل العملة حتى الآن لا يصب إلا في مصلحة هؤلاء.
(English Version)
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1252