وقفة مع الذات!
رغم الحركة الدبلوماسية النشطة التي تقوم بها السلطة السورية، وعلى خطوط متعددة متوازية، تشمل الولايات المتحدة وروسيا والدول العربية إضافة إلى تركيا بطبيعة الحال، وبعض الدول الأوروبية، إلا أن حالة الاستعصاء الداخلي لا تزال قائمة؛ على المستوى السياسي والأمني والاقتصادي على حد سواء. يتعزز الأمر مع استمرار العقوبات وعدم رفعها، ومع استمرار حالة الابتزاز الخارجي متعدد الأوجه، وخاصة عبر الاعتداءات والتدخلات «الإسرائيلية» التي لا تتوقف، والتي تأخذ أشكالاً متعددة، عسكرية وأمنية وسياسية، خاصة عبر المتاجرة العلنية بموضوع «الأقليات» والدفع العلني نحو تقسيم سورية.
بعد مرور قرابة 11 شهراً على فرار بشار الأسد وسقوط سلطته، وبعد جهود دبلوماسية كبيرة على جبهات متعددة، وعدم كسر حالة الاستعصاء القائمة، بل واستمرار ارتفاع حجم المخاطر على الصعد المختلفة، بات من الضروري ضرورة وجودية، الوقوف مع الذات لحظة لتأمل ما جرى ويجري، والتوقف عن الاستناد إلى وعود الخارج، أياً يكن هذا الخارج، غربياً أو شرقياً.
أحد أسوأ مثالب المنظومة التي ركّبها حافظ الأسد وابنه من بعده، هي النظر إلى الخارج باعتباره نقطة الاستناد في الوصول إلى الاستقرار في الداخل، وبالتوازي إهمال الداخل والاستعلاء والاستكبار عليه، وقمعه حين يعلو صوته رفضاً للسياسات المتبعة، سواء منها الاقتصادية الناهبة، أو الأمنية القامعة.
الدرس التاريخي لما يزيد عن خمسين عاماً، ومعها الأشهر الأحد عشر الأخيرة، هي أن نقطة التوازن الحقيقية التي ينبغي الاستناد إليها، هي الشعب السوري نفسه، هو وحده ما يمكن التعويل عليه قولاً وفعلاً، ليس في حفظ الاستقرار العام للبلاد فحسب، بل وفي مواجهة كل أنواع التدخلات والتخريب أيضاً والذي يمكن أن يلعبه الخارج باختلاف مصالحه.
الاستناد إلى الداخل السوري يتطلب أولاً وقبل كل شيء توحيده؛ والتوحيد هنا يعني تحييد الانقسامات الوهمية الثانوية، وعلى رأسها الانقسامات الطائفية والدينية والقومية، ويعني أيضاً العمل من أجل القاسم المشترك الأعلى بين السوريين كمواطنين يبحثون عن حياة كريمة وحرة، ولا يرون في بعضهم البعض أعداء وعملاء للدول الخارجية.
توحيد السوريين بهذا المعنى، ليس مسألة ترفية قابلة للتأجيل، لأن كل انقسام بين السوريين، هو منفذ وثغرة كبرى للتدخل الخارجي، ولإضعاف المجتمع السوري والدولة السورية والسلطة السورية أياً تكن تلك السلطة. وأما كيف يتم توحيد السوريين، فإن المدخل معروف وواضح، هو إشراكهم إشراكاً حقيقياً في تقرير مصيرهم بأنفسهم، كشعب واحد متحد مكتمل الهوية والأهلية، وليس كعشائر وقبائل وطوائف كما يريد توماس براك وغيره من الغربيين وصف شعبنا.
المدخل العملي الملموس، هو المؤتمر الوطني العام، وهو تطبيق جوهر القرار 2254، أي خارطة طريقه التي لا تزال صالحة، عبر جسم حكم انتقالي شامل وكامل الصلاحيات، وعبر وضع كل الأمور العالقة على طاولة التفاوض والحوار الداخلي وبشكل علني وليس في الغرف المغلقة، كتفاوض بين سلطات متعددة يسيطر كل منها على جزء من البلاد.
جعل الحوار والتفاوض علنياً عبر مؤتمر وطني عام، هو علاج ممتاز لمشكلات الانقسام الوهمي بين السوريين؛ فحين يكون المنبر مفتوحاً للسوريين ليقولوا ما يريدونه حقاً لبلادهم، فإن التقاطعات ستكون كبيرة وكبيرة جداً؛ بالضبط لأن مصالح 90% من السوريين هي مصالح واحدة مشتركة، ونقصد السوريين المفقرين المضطهدين المنهوبين، الذين دفعوا ولا يزالون تكاليف السنوات الماضية دماءً وتهجيراً وفقراً ومرضاً، والذين لهم المصلحة الأولى في معالجة الجراح وفي البناء والانطلاق بالبلاد مجدداً من تحت الرماد، عبر رقابة حقيقية واشتراك حقيقي في إدارة أمورهم بأنفسهم، بحيث يكون جهاز الدولة موظفاً عندهم، يخدم مصالحهم ويخضع لرقابتهم ومحاسبتهم، ولا يكون جهاز الدولة أو السلطة شيئاً منزّلاً فوقياً يعلو فوق جراح الناس وآلامها ويقدم نفسه وصياً عليها كما كان يفعل نظام بشار الأسد وقبله نظام أبيه...
من الصحيح أن الانتقال بشكل جذري من منظومة كان الناس فيها صفراً على الشمال، إلى منظومة يكون فيها الناس في متن الحدث وصياغته والرقابة عليه، ليس انتقالاً سهلاً وسلساً وسريعاً، ولكنه مع ذلك انتقال لا بد منه، ولا غنى عنه، ولا حل لسورية دونه. وقد دفع الشعب السوري من تضحيات وفواتير ما يجعل هذا الانتقال مستحقّاً وأكثر.
وعليه، فإن وقفة حقيقية وصادقة مع الذات، تفترض إعادة نظر جدية بكل العقلية التي تجري إدارة الدولة ضمنها، باتجاه عقلية أخرى مختلفة نقطة الانطلاق فيها هي السير نحو تحقيق سلطة الشعب في المركز وفي المناطق على حد سواء، والبحث عن الصيغ القانونية والسياسية والإدارية التي تسمح بتحقيق هذا الانتقال، وتسمح تالياً بالحفاظ على وحدة سورية أرضاً وشعباً، وتجنبها مزيداً من الويلات التي لا تزال احتمالاتها قائمة، وترتفع مع كل يوم تأخير إضافي في تحقيق الانتقال المطلوب...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1250