إعادة الإعمار والفراشات الملونة!
يوم 16 كانون الأول 2019، أعلن بشار الأسد أن «عملية إعادة الإعمار انطلقت»، أي قبل 5 سنوات من سقوطه. وقبل ذلك بسنتين أطلق النظام معارض إعادة الإعمار تحت مسمى «عمّر سوريا» بمشاركة مئات الشركات حول العالم. وبعد الإعلان عام 2019، جرى الترويج إعلامياً من جانب النظام، لتوقيع عدد كبير من العقود الاستثمارية مع عدة دول بينها الصين وروسيا والسعودية، تبين لاحقاً أنها لم تكن أكثر من مذكرات تفاهم، وتبين أن جزءاً منها كان وهمياً بشكل كامل. وهل جرت عملية «إعادة الإعمار»؟ وضوحاً لم تتم، بل واستمرت عملية معاكسة هي عملية التخريب والتدمير والتدهور الاقتصادي الشامل.
نعيش اليوم وضعاً مشابهاً، من حيث الشكل على الأقل، حيث يجري الترويج بشكل كثيف لعقود استثمارية ضخمة، ويجري إطلاق وعود كبرى يميناً وشمالاً، ولكن مرة أخرى: هل بدأت فعلاً عملية إعادة الإعمار؟ ولنسأل بطريقة أخرى: ما هي الشروط الموضوعية اللازمة لانطلاق إعادة الإعمار، وفي حال عدم توفرها، فإن أي كلام أو ترويج إعلامي عن انطلاقها، لن يكون أكثر من استثمار سياسي ضيق.
شروط إعادة الإعمار
أولاً: الاستقرار الأمني، فدون استقرار أمني لن يقدم أي رأس مال داخلي أو خارجي، سوري أو غير سوري، على استثمار أي قرش في سورية، وفي أي مجال من المجالات. وهو أمر طبيعي ومفهوم؛ فمن المجنون المحض من وجهة نظر رأس المال، أن يتم الاستثمار في بيئة خطرة وغير مستقرة.
ثانياً: الاستقرار السياسي، ينسحب موضوع الاستقرار الأمني نفسه، على الاستقرار السياسي أيضاً؛ فلا يمكن لعاقل أن يستثمر في بلد مضطرب وغير قابل للتوقع... فأي رأس مال يريد الاستثمار يحتاج إلى دراسة جدوى لأي مشروع سيقوم به، وضمن دراسة الجدوى هنالك بند أساسي يتعلق بالاستمرارية وبزمن استعادة رأس المال. وفي ظل الاضطراب السياسي، فإن موضوع استعادة رأس المال يصبح غير مضمون، وبالتالي يصبح الاستثمار بأكمله غير مجدٍ، بل وشكلاً من أشكال المقامرة.
ثالثاً: السوق الواحدة والبنية التحتية ومستوى الاستهلاك؛ بين محددات أي عملية استثمارية أن يكون من الواضح مسبقاً ما هي المنتجات التي سيتم صنعها، ومن هم المستهلكون وما هي مقدراتهم؟ في الحالة السورية الراهنة، البنية التحتية مدمرة بشكل هائل، ما يرفع من تكاليف الإنتاج إلى مستوى أعلى من كل دول الجوار، يضاف إلى ذلك أن قدرة المستهلك السوري معدومة تقريباً بسبب توزيع الثروة الجائر والمتوحش الذي يضع أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر، وفوق ذلك كله فإن غياب الوحدة السياسية الاقتصادية كواقع عملي، أي غياب السوق الوطنية الواحدة، نتيجة عدم الوصول إلى تفاهمات سياسية كافية، يرفع التكاليف أكثر على كل المستويات، ويجعل الاستثمار ضرباً من الجنون.
رابعاً: الاستقرار القانوني والإداري والتشريعي. بين الشروط الواضحة ليس لعملية ضخمة كعملية إعادة إعمار بلد مدمر بالكامل تقريباً، بل وحتى القيام بأي مشروع اقتصادي جدي، أن يكون هنالك استقرار ووضوح وشفافية في الإطار القانوني والإداري والتشريعي... وهذا أمر بعيد جداً عن الواقع الحالي؛ فحتى على مستوى تسجيل الواقعات ما يزال الوضع غير مستقر، وما تزال مؤسسات الدولة تعيش حالة اضطراب هائلة وشلل شبه كامل؛ فكيف الأمر مع أمور أكبر وأصعب؟!
خامساً: دور جهاز الدولة. دراسة التجارب المختلفة لإعمار بلدان بعد أزمات أو ثورات أو حروب طويلة الأمد، سواء في الغرب أو في الشرق، في الشمال أو في الجنوب، في البلدان الرأسمالية أو الاشتراكية أو الـ«بين بين»، تتقاطع كلها في مسألة أساسية، هي أن لجهاز الدولة دوراً محورياً وقائداً في العملية، وخاصة في القطاعات الأكثر حيوية، أي في البنى التحتية الضخمة والطاقة والاتصالات والتعليم والصحة وإدارة النقد وغيرها من الأمور الأساسية. والتضحية بدور جهاز الدولة في هذه القطاعات، يعني التضحية بهذه القطاعات نفسها، والتضحية باستقلال البلاد، ودون إعمارها بشكل حقيقي، وإنما فتحها للنهب الداخلي والخارجي... فقط انظروا إلى مثالي لبنان والعراق، فهما كافيان.
أبعد من ذلك كله...
الشروط اللازمة لإعادة إعمار حقيقية هي شروط عديدة ومتنوعة، مدخلها سياسي قبل كل شيء آخر. ولكن إذا أردنا رؤية المسألة بطريقة أكثر عمقاً، علينا أن نسأل سؤالاً مختلفاً: متى توقفت عملية الإعمار في سورية؟
يعتقد البعض أن عملية الإعمار توقفت في سورية عام 2011، وفي الحقيقة فإنها توقفت قبل ذلك بعدة عقود؛ فعملية تدمير القطاع العام وتدمير الاقتصاد المنتج ككل، بدأت بشكل تدريجي منذ أواخر السبعينيات، وتسارعت قليلاً مطلع التسعينيات مع قانون الاستثمار رقم 10، وتسارعت أكثر ابتداء من 2005 وما سمي «اقتصاد السوق الاجتماعي»، وتسارعت أضعافاً وأضعاف ابتداء من 2011 مع الانتقال من حالة الحراك الشعبي إلى حالة حرب داخلية مع تدخلات إقليمية ودولية مدمرة.
الجوهر في المسألة أن توقف الإعمار وبداية التراجع والتخريب، كان تعبيراً عن طبيعة السلطة وتحولاتها بالمعنى الطبقي والاقتصادي؛ فالسلطة التي قدمت نفسها في البداية نصيراً للعمال والفلاحين، تحولت بشكل تدريجي إلى نصير للفاسدين الكبار ولرجال الأعمال وللّصوص الداخليين والخارجيين.
توقف عملية الإعمار في سورية هو ما أدى إلى 2011، لأنه أدى تراكمياً إلى إفقار السوريين وزيادة نسب البطالة والتهميش وتردي الخدمات وتردي التعليم والصحة وزيادة النقمة الاجتماعية العامة وصولاً إلى الانفجار.
كي تبدأ عملية إعادة الإعمار، ينبغي علينا معالجة الأسباب التي أدت إلى توقف الإعمار في سورية سابقاً، وإلا فلن تكون هنالك إعادة إعمار، أياً تكن الحملات الإعلامية التي يجري ترويجها.
معالجة الأسباب العميقة لتوقف الإعمار، تعني بالعمق تغييراً جذرياً لنظام توزيع الثروة في البلاد، وللنظام السياسي الموافق له؛ أي باتجاه تسييد أبناء الـ90% على بلادهم، عبر حل سياسي شامل ومؤتمر وطني عام كمدخل، وعبر نموذج اقتصادي مختلف جذرياً، قائم على الإنتاج الحقيقي وعلى توزيع عادل للثروة وعلى دور اجتماعي قوي للدولة، وعبر رقابة شعبية حقيقية من خلال توزيع صلاحيات يسمح للناس بالرقابة المباشرة على جهاز الدولة في المركز والأطراف... دون القيام بذلك، فإننا سنبقى ندور في فلك «الفراشات الملونة» وما شاكلها من استعراضات بائسة لا تغني ولا تسمن من جوع...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 0000