القوى القارية والقوى المحيطية وحرب الـ 12 يوماً... (1/2)
هدأت نيران الحرب الإقليمية ذات الأبعاد الدولية، التي استمرت 12 يوماً متواصلاً. حربٌ حملت في كل لحظة منها، احتمالات الانزلاق نحو حرب أوسع وأشمل. ورغم أنها هدأت، مؤقتاً، فهذا لا يعني بحال من الأحوال أنها انتهت؛ فالصراع العميق الذي ولّدها ما يزال قائماً، بل ويشتد يوماً وراء الآخر.
وهذه الحرب، ككل شأن إقليمي في عصرنا الراهن، هي مسألة يمكن قراءتها على عدة مستويات: محلية وإقليمية ودولية، سياسية وإيديولوجية وثقافية واقتصادية. ومحاولة اختصارها في الملف النووي الإيراني، أو في حدود التنافس الإقليمي، هي حكمٌ مسبق بعدم فهم السياق الحقيقي لها، وبالتالي عدم فهم غاياتها، وحتى عدم القدرة على تقييم نتائجها بشكل صحيح.
في هذه المادة، نحاول بشكل مكثف إلقاء الضوء على السياق الدولي الذي جرت ضمنه حرب الـ 12 يوماً، وبشكل خاص على الجانب الجيوسياسي من الصراع الدولي، بين قوى قارية صاعدة، وقوى محيطية متراجعة، وذلك ضمن المحاور التالية:
أولاً: تأصيل مفهومي القوى القارية والقوى المحيطية.
ثانياً: الأوزان الاقتصادية-السياسية لنوعي القوى خلال 2000 عام مضت.
ثالثاً: الاستعمار الأوروبي وهيمنة القوى المحيطية.
رابعاً: الاستعمار الاقتصادي، التبادل اللامتكافئ والهيمنة المحدثة.
خامساً: انتقال مركز الثقل.
سادساً: «الحزام والطريق» و«المشروع الأوراسي» والصعود القاري الجديد.
سابعاً: الشرق الأوسط، مشروعان متناقضان.
ثامناً: نتائج وخلاصات.
* * *
أولاً: تأصيل مفهومي القوى القارية والقوى المحيطية
لنبدأ بتعريف مبسط لكل من المفهومين.
القوى القارية: هي الدول أو التكتلات التي تستند إلى عمق جغرافي بري واسع، وتُركّز على السيطرة البرية، الاتصال الداخلي، والطرقات البرية. أمثلة: روسيا، الصين، إيران، دول وسط آسيا.
القوى المحيطية (أو البحرية): هي الدول التي ترتكز قوتها على السيطرة على البحار والمحيطات والممرات البحرية الدولية، وتعتمد على الأساطيل البحرية والتجارة العابرة، وتميل إلى تدخلات خارجية عبر السواحل. أمثلة: بريطانيا، الولايات المتحدة، اليابان، القوى الأطلسية.
بالنسبة لتحديد الأصل التاريخي للمفهومين، كمفهومين ضمن الجغرافيا السياسية، فإنهما قديمان قدم الجغرافية السياسية نفسها؛ حيث من الممكن إعادة أصولهما إلى تنظيرات ثوسيديس Thucydides في القرن الخامس قبل الميلاد للحرب بين أثينا بوصفها (قوة بحرية)، وإسبارطة بوصفها (قوة برية). ولكن بطبيعة الحال، فإن التعامل مع القوى المحيطية والقارية ضمن فهم عام للسيطرة العالمية، لم يبدأ بشكل واضح حتى بدايات الاستعمار الأوروبي، ومنظريه الأساسيين في القرن السابع عشر والثامن عشر، من أمثال: آدم سميث الذي أظهر اهتماماً واسعاً بموضوع طرق التجارة البحرية والأساطيل البحرية كوسيلة للهيمنة العالمية في كتابه الأشهر «ثروة الأمم»، وأيضاً جيمس ميل، الذي عمل في شركة الهند الشرقية البريطانية ونظر لسيطرة القوى البحرية على الفضاءات البرية الواسعة في آسيا، ومن بعده ابنه جون ستيوارت ميل الذي أضاف بعداً إيديولوجياً للاستعمار الأوروبي معتبراً إياه وسيلة لـ«دفع الشعوب البربرية باتجاه الحضارة»، والشعوب «البربرية» في تنظيراته هي بالضبط «الأطراف القارية المتخلفة» مقارنة بـ«المركز الغربي المتحضر».
مع بدايات القرن العشرين، بدأ مفهوما القوى المحيطية والقارية، بالتبلور كمفهومين شاملين ضمن ما يسمى المدرسة الكلاسيكية الجيوسياسية، التي كان من روادها هالفورد ماكندر (1861-1947)، نيكولاس سبيكمان (1893-1943)، كارل هاوسهوفر (1869-1946) وألفريد ماهان (1840-1914).
أما بين المفكرين المعاصرين الذين يعتمدون مفهومي القوى المحيطية والقوى القارية أداة أساسية في التحليل، يمكن أن نذكر: إيمانويل تود (فرنسا)، جون ميرشهايمر وبيتر زيهان (الولايات المتحدة)، يان شويتونغ وهو أنغانغ (الصين)، ألكسندر دوغين (روسيا)، برونو ماكايس (البرتغال)، وآخرين.
ثانياً: الأوزان الاقتصادية-السياسية لنوعي القوى خلال 2000 عام مضت
تُلقي دراسة شهيرة أنجزها عام 2001 العالم البريطاني أنغس ماديسون Angus Maddison أضواءً مهمة على الأوزان الاقتصادية- السياسية لأهم ثلاث قوى قارية خلال ألفي عام مضت. عنوان الدراسة-الكتاب هو The World Economy: A Millennial Perspective، وأنجز بتكليف من منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة.
القوى القارية الثلاث التي نتحدث عنها هي: الصين، الهند، والعالم الإسلامي.
بالنسبة للصين، فإن إسهامها في الناتج العالمي ابتداء من السنة الأولى للميلاد وحتى عام 1600، أي حتى بداية الاستعمار الأوروبي، تراوح بين 25-33%، ثم انحدر بعد ذلك وصولاً إلى 4.5% عام 1949 لحظة انهيار الإمبراطورية ونشوء جمهورية الصين الشعبية التي بدأت صعوداً متواصلاً حتى يومنا هذا، وصولاً إلى حوالي 19.7% اليوم بمعادل القوة الشرائية، مع توقعات باستمرار صعود هذه النسبة خلال السنوات القادمة.
بالنسبة للهند، فإسهامها في الناتج العالمي بين (1-1000م) كان بحدود 30-33%، عام 1500 بلغ 24-25%، وبقي بهذه الحدود حتى عام 1700 مع بداية احتلالها حيث انخفض تدريجياً وصولاً إلى 7.5% عام 1913، وتابع الانحدار إلى 3.8% عام 1950، ولم يبدأ بالصعود الفعلي من جديد حتى عام 1990 تقريباً، كي يصل اليوم إلى حدود 7.3% بمعادل القوة الشرائية.
بالنسبة للعالم الإسلامي، بمراحله المتعاقبة (التي تشمل اليوم بلاد الشام وتركيا وإيران والعراق ومصر وأجزاء من الخليج العربي وآسيا الوسطى)، فإنه أسهم بين أعوام (750-1300م) بما يتراوح بين 15-20% من الناتج العالمي.
بكلام مختصر، يمكن القول: إن القوى القارية الثلاث الأساسية في العالم القديم، قد أسهمت في معظم الفترة بين (1-1600م) بما يتراوح بين (65-86)% من الناتج الإجمالي العالمي، وأن بقية العالم بأسره، بما فيه القوى المحيطية المختلفة وضمناً قوى العالم الغربي، قد أسهمت ضمن نفس الفترة بـ(14-35)% من إجمالي الناتج العالمي؛ أي أن مركز الإنتاج العالمي كان متمركزاً في الشرق، وخاصة في الصين، والهند، والعالم الإسلامي، ثم انزاح مع الاستعمار الأوروبي باتجاه الغرب، وبالضبط باتجاه القوى المحيطية-البحرية، مع سيطرتها على طرق التجارة العالمية، واستخدامها الاستعمار العسكري المباشر ثم الاقتصادي غير المباشر.
ثالثاً: الاستعمار الأوروبي وهيمنة القوى المحيطية
ظاهرة الاستعمار الأوروبي، هي ظاهرة بحرية في المقام الأول؛ فابتداءً من الأرمادا الإسبانية، ووصولاً إلى الأساطيل البحرية البريطانية، كانت أوروبا الغربية تسعى للالتفاف على طرق التجارة الرئيسية في ذلك العصر، والتي كانت تمر بمعظمها عبر الدولة العثمانية بعد الاستيلاء على القسطنطينية عام 1453؛ ما دفع الممالك الأوروبية في حينه إلى محاولة اكتشاف طرق بديلة للوصول إلى الهند والصين، حيث الجزء الأكبر من الإنتاج العالمي هرباً من الرسوم التي كانت تفرضها الدولة العثمانية على البضائع التي تمر عبرها. وبهذه الطريقة، دفعت الضرورة نحو اكتشاف «العالم الجديد» عام 1492، واكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح عام 1498، ليكون هذان «الاكتشافان»، الخطوة الأولى في تحول تاريخي عاصف بدأ معه انتقال مركز القوة والإنتاج على المستوى العالمي من الشرق نحو الغرب.
مع التطور الصناعي التدريجي في أوروبا، بدأت الرحلات الاستكشافية تأخذ طابعاً منتظماً، وبوظائف أكثر تنوعاً من الوظائف التجارية الأولى؛ حيث بدأت المدافع الحربية والمدافع البضاعية بالعمل التدريجي، وبات البحث عن أسواق للتصريف وعن مصادر للمواد الخام هدفين أساسيين.
بدأ الاستعمار الأوروبي بالانتشار السريع في العالمين القديم والجديد انطلاقاً من الشواطئ بالذات، ونادراً ما توغل في البر الرئيسي للبلدان التي سيطر على موانئها عسكرياً.
وبدأ بإعادة صياغة العلاقات الدولية والتجارة الدولية وطرقها انطلاقاً من سيطرة البحر على البر، من سيطرة الساحل على الداخل، والموانئ على الطرق البرية، وخاض في هذه السبيل حروباً عديدة وارتكب مجازر كبرى، من المجازر في الأمريكيتين إلى أفريقيا إلى الهند والصين وحروب الأفيون، وصولاً إلى الحربين العالميتين والحروب المعاصرة.
ويمكن القول: إن هنالك نقطتي علّام إضافيتين (إلى جانب رأس الرجاء الصالح والعالم الجديد) تشيران إلى لحظة بدء صعود الاستعمار الغربي، وهما.
أولاً: صلح وستفاليا 1648 الذي أنهى حرب الثلاثين عاماً، وحول الصراع والتنافس بين القوى الأوروبية الصاعدة في حينه، من الاحتراب على أراضيها إلى السباق الخارجي على المستعمرات.
ثانياً: تأسيس شركات الهند الشرقية بنسخها المختلفة (البريطانية عام 1600، الهولندية 1602، الدنماركية 1616، الفرنسية 1664، والسويدية 1731).
إذا افترضنا أن حقبة الاستعمار الأوروبي التقليدي، أي القائم على الجانب العسكري المباشر، تنقسم إلى قسمين أساسيين، ابتداء من 1600 حتى 1800، ومن ثم من 1800 حتى 1950 تقريباً، حيث بدأ بالانحسار السريع بعد الحرب العالمية الثانية؛ فإنه من الممكن القول: إن توزع الإنتاج العالمي خلال القسم الأول (1600-1800) لم يتغير بشكل عاصف، حيث بقيت كل من الصين والهند وجزء من العالم الإسلامي، تسهم بالجزء الأعظم من الناتج الإجمالي العالمي، ولكن ما اختلف خلال هذا القسم هو أن ثمار هذا الإنتاج باتت موضوعاً مباشراً للنهب والتراكم الغربي، وسمحت تالياً بصعود غربي سريع في مختلف المجالات.
في القسم الثاني من الاستعمار الأوروبي (1800-1950)، ونتيجة لعوامل عديدة، بينها: استنزاف ثروات البلدان المستعمرة بشكل هائل، والثورة الصناعية وغيرها، تم تدمير القدرات الإنتاجية في المستعمرات بشكل كبير، وارتفعت القدرات الإنتاجية في المركز الغربي نفسه، بحيث بات يسهم في الجزء الأكبر من الإنتاج العالمي، خلافاً لما كان عليه الوضع طوال 2000 عام تقريباً.
في الجدول التالي، نستند إلى دراسة أنغس ماديسون حتى عام 1950 وإلى أرقام صندوق النقد والبنك الدوليين عامي 2000 و2023. الأرقام حتى 1950 هي الإسهام بالناتج الإجمالي العالمي الاسمي GDP، وفي عامي 2000 و2023 الإسهام بالناتج العالمي بمعادل القوة الشرائية GDP (PPP) وهو مقياس أكثر تعبيراً عن الواقع، لكن لم يتم الاستناد إليه في دراسة ماديسون.
تطور التجارة الدولية، وخاصة عبر البحر، يسمح بفهم نقاط أساسية من برنامج عمل الاستعمار القديم، والتي ما تزال تأثيراتها متواصلة حتى اليوم. بين أهم هذه النقاط، ما يلي:
أولاً: انتقل مركز ثقل التجارة العالمية خلال مرحلة الاستعمار الأوروبي المباشر، من الطرق البرية القديمة (خاصة طريق الحرير)، إلى الطرق البحرية.
ثانياً: تم بشكل مقصود تنمية السواحل ضمن المستعمرات على حساب الداخل؛ والطرق الداخلية التي تمت تنميتها هي فقط تلك التي تصل بين منابع الخامات في الداخل وبين السواحل، بما في ذلك سكك الحديد التي تم إنشاؤها. في حين لم يتم تطوير الطرق البرية الواصلة بين (الداخل) و(الداخل) ضمن المستعمرات نفسها وبين الدول الخاضعة للاستعمار.
ثالثاً: خلال المئة عام الأخيرة من الاستعمار العسكري المباشر (1850-1950)، وبعد دراسات استشراقية طويلة، جرى استخدام كل أنواع التناقضات الثانوية (القومية والدينية والطائفية والعشائرية وإلخ) من أجل تثبيت حالات نزاع على الحدود بين مختلف الدول، القديمة منها، والحديثة، التي تم رسم حدودها من جانب الاستعمار نفسه على أنقاض الإمبراطوريات التي تم تدميرها في الصين وإيران وتركيا والعالم العربي والإسلامي... بحيث تبقى هذه النزاعات مشتعلة دائماً، لتمنع أي وصل بري بين القوى القارية، وتبقي السيطرة مستمرة لطرق التجارة البحرية، وعبرها للدول المحيطية... وطبعاً لعبت «إسرائيل» وما تزال، دوراً وظيفياً مهماً في تخديم عملية القطع البري هذه لمصلحة القوى المحيطية.
يمكن للمؤشرات الرقمية، أن توضح الحجم الهائل الذي احتلته التجارة البحرية خلال 500 عاماً الماضية من إجمالي الناتج العالمي. المسألة لا تتعلق فقط بارتفاع حصة التجارة عبر البحر من التجارة العالمية (رغم أن هذه أيضاً جرى فيها ارتفاع ملحوظ من حوالي 40-50% عام 1450 إلى حوالي 85-90% عام 2000)، ولكن المهم أيضاً هو حصة التجارة ككل من الناتج العالمي، وتالياً حصة التجارة البحرية التي ارتفعت من حوالي 1.2-1.5% عام 1450، إلى حوالي 40-48% عام 2025.
الجدول التالي، والأرقام المذكورة في الفقرة السابقة، تستند إلى المراجع التالية:
أنغس ماديسون (Angus Maddison)
The World Economy: A Millennial Perspective (2001)
تقديرات نسبة التجارة إلى الناتج العالمي حتى 2000.
Kevin O’Rourke & Jeffrey Williamson
Globalization and History: The Evolution of a Nineteenth-Century Atlantic Economy (1999)
تحليلات عن نسب الانفتاح التجاري من 1500 إلى 1900.
Cambridge Economic History of Modern Europe
أجزاء عن التجارة الإمبراطورية والطرق البرية–البحرية (Vol. 1, 1700–1870).
Martin Stopford
Maritime Economics (3rd ed.)
لتحليل تطور حصة التجارة البحرية خاصة من القرن 19 حتى اليوم.
UNCTAD Reports
Review of Maritime Transport
بيانات 1950–2025: تؤكد أن 80–90% من التجارة السلعية لا تزال تمر عبر البحر.
رابعاً: الاستعمار الاقتصادي، التبادل اللامتكافئ والهيمنة المحدثة
مع صعود الاتحاد السوفييتي، وبنتيجة الحرب العالمية الثانية، وصعود حركات التحرر الوطني في بلدان «العالم الثالث»، انحسرت الظاهرة الاستعمارية بشكلها القديم إلى حدٍّ بعيد. ومنذ أواسط الخمسينيات بدأت قواعد الاستعمار الحديث الاقتصادي بالتشكل والرسوخ التدريجي.
وبدلاً عن السيطرة العسكرية المباشرة على المستعمرات، تكونت منظومة هيمنة غربية تقوم على جملة من الأعمدة الأساسية:
المنظومة المالية العالمية لبريتين وودز، حيث الدولار عملة عالمية تخدمه مؤسسات صندوق النقد والبنك الدولي وبنك المقاصات الدولية ومنظمة التجارة العالمية.
قواعد عسكرية منتشرة حول العالم (أكثر من 800 قاعدة) لتأمين استمرار السيطرة على طرق التجارة والتحكم بالسياسات دون استعمار عسكري معلن.
آليات التبعية الاقتصادية- التبادل اللامتكافئ الأربع الأساسية (التبعية التكنولوجية، مقص الأسعار، الديون، هجرة العقول).
خامساً: انتقال مركز الثقل
ابتداء من السبعينيات بشكل خاص، بدأت عملية تاريخية لانتقال مركز الثقل العالمي، نرى اليوم نتائجها بشكل ملموس عبر الصعود الشرقي الهائل، وخاصة الصين والهند.
الأساس الموضوعي لهذه العملية هو التفاعل بين عدة قوانين موضوعية بين أهمها قانونان اكتشفهما ماركس في مؤلفه الأشهر (رأس المال). القانون الأول هو (السعي نحو الربح الأعلى)، والثاني هو (ميل معدل الربح نحو الانخفاض مع تعقد التركيب العضوي لرأس المال).
وكي لا نغرق في الإطار التخصصي، نبسط المسألة بالشكل التالي: رغم التطور الهائل الذي جرى ضمن الدول الغربية المحيطية-البحرية، وبالضبط بسبب هذا التطور المحمول بأحد جوانبه الهامة على النهب الاستعماري، تثبّت مَيل تاريخي بالاتجاهات التالية:
أولاً: النشاطات الاقتصادية ذات الطابع المالي-الخدمي-الربوي حققت معدلات ربح أعلى من النشاط الإنتاجي الحقيقي، وخاصة في الصناعة والزراعة (والظاهرة الاستعمارية نفسها هي بالذات من أسهمت بشكل حاسم في هذا التفوق في معدلات الربح للنشاطات المالية، لأن مصدر القيم كلها هو النشاط الإنتاجي الحقيقي، سواء داخل تلك الدول أو في المستعمرات). نتيجة لذلك، بدأت عملية «هجرة داخلية» لرؤوس الأموال باتجاه النشاطات المالية على حساب الإنتاج الحقيقي، عملاً بقانون السعي نحو الربح الأعلى.
ثانياً: في الوقت نفسه، ونتيجة تعقد التركيب العضوي لرأس المال في دول المركز، (أي الارتفاع الهائل في نسبة رأس المال الثابت إلى المتغير)، انخفض معدل الربح في تلك الدول، وبدأت هجرة من نوع آخر لرأس المال، هي الهجرة نحو الخارج، وخاصة نحو دول شرق آسيا.
ثالثاً: شيئاً فشيئاً، انتقل القسم الأعظم من الإنتاج الحقيقي نحو الدول القارية، خاصة الصين والهند، وبدأت آليات الاستعمار الحديث بالتفكك التدريجي؛ (فالتبعية التكنولوجية بدأت بالتراجع، لأن الدول التي انتقل الإنتاج نحوها، دخلت في طور تطور تكنولوجي سريع، وصل إلى حد كسر التبعية، بل وحتى التفوق التكنولوجي في مجالات متعددة، وموضوع هجرة العقول بدأ بالتراجع وبدأت معه هجرة عكسية، وربما أهم مثال هو ما يجري من عودة هائلة للكفاءات الصينية إلى الصين، إضافة إلى استقدام كفاءات غير صينية نحو الصين، وحتى آليات الدين ومقص الأسعار، ورغم أنها ما تزال فاعلة إلا أن تأثيرها بدأ بالتراجع مع ارتفاع التبادلات بالعملات المحلية وتشكيل مؤسسات بديلة لمؤسسات بريتين وودز بما في ذلك بنك التنمية وغيره).
بالنظر إلى المعطيات التي أوردناها في الجدول 1 والجدول 2، يتبين أنه في عام 2023، وبمقياس معادل القوة الشرائية، فإن الدول القارية السبع الأساسية (بريكس+ تركيا وإيران)، قد أسهمت بـ34.7% من الناتج العالمي، في حين أسهمت الدول المحيطية السبع الأساسية (مجموعة السبع) بـ 26.6%؛ أي أن الدول القارية السبع الأساسية أنتجت أكثر من المحيطية بنسبة 130%، وذلك ضمن مَيلٍ عامٍ تاريخي متسارع، كما توضح الأشكال البيانية التي أوردناها مع الجدولين.
عملية انتقال مركز الثقل العالمي، لا تقتصر على موضوع الإنتاجية الاقتصادية، ولكن تتعداه إلى الأبعاد التكنولوجية والسياسية والعسكرية والثقافية وإلخ.
على سبيل المثال لا الحصر: من المفيد الإشارة هنا إلى دراسة نشرها مركز دراسات قاسيون في حزيران 2025 بعنوان «من العصر الحجري إلى عصر العناصر النادرة... كعب آخيل الغربي/الأمريكي».
ونكتفي هنا باقتباس ما يلي فقرة من خلاصة تلك المادة: «باختصار، يمكن القول: إن امتلاك الصين لـ(34% من احتياطي العناصر الأرضية النادرة، و69% من تعدينها، و87% من تكريرها النهائي، وأكثر من 99% من تكرير العناصر الأرضية النادرة الثقيلة) هو بمثابة امتلاك حصري للسلاح النووي بنسخته المعاصرة، مع فارق أن شيفرة امتلاك هذا السلاح اليوم ليست سرية كما كان الأمر مع النووي التقليدي، هي شيفرة مفتوحة ومعروفة، ولكن تطبيقها هو الموضوع الصعب، لأنها تحتاج استثمارات هائلة وسنوات وبالأحرى عقود من العمل المتواصل...».
سيُنشر الجزء الثاني من هذه المادة في العدد القادم من قاسيون...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1232