أفكار متقاطعة

أفكار متقاطعة

ينبغي ألا يتحوّل شعار «تحرير سورية» من السلطة الساقطة إلى ستارٍ لاحتلال جديد، معلنٍ أو مستترٍ، مباشرٍ أو غير مباشر، عبر صفقات واتفاقات دولية– إقليمية تُكبّل البلاد، وتمنع تطورها الحر، وتضيف أعباءً جديدة على السوريين، مُفرّطة بكل التضحيات التي قدّمها السوريون لعقود، ومنتزعة من سورية أهم ما تمتلكه من مزايا استراتيجية...

اللغز السوري

ما سرّ هذا الكباش الدولي غير المسبوق حول سورية؟ ومن الذي يقف خلف هذا التزاحم المجنون على أرضها؟
اليوم، تقف على الأرض السورية جيوش ست دول، أربع منها أعضاء دائمون في مجلس الأمن، وخمس منها قوى نووية (روسيا، الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، «إسرائيل»)، رغم أن الوجود الفرنسي والبريطاني هو وجود رمزي إلى حد بعيد، وكجزء من «التحالف الدولي لمحاربة داعش».
ورغم أن سورية تُعدّ، بالمقارنة مع دول الإقليم، دولة متوسطة من حيث الإمكانات الاقتصادية، والموارد الاستراتيجية، والكتلة السكانية (مقارنة بتركيا، العراق، مصر، والسعودية)، إلا أنها باتت في مركز صراع عالمي محتدم. فما الذي تخبئه هذه البلاد حتى تملأ الدنيا وتشغل الناس؟
إنها باختصار «نعمة/ لعنة» الجغرافيا السياسية؛ فالموقع الجغرافي/ السياسي منح سورية وزناً ودوراً يفوقان كثيراً وزنها الاقتصادي وديمغرافيتها، وهما عادةً من الأسس لأي نفوذ إقليمي.
استمدّت سورية دورها الإقليمي تاريخياً من موقعها الجيوسياسي، وهذا الدور ليس من إنجازات حافظ الأسد أو وريثه، بل سابق لهما؛ فمنذ أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، تشكّلت أحلاف ومشاريع دولية لاحتواء هذه الميزة الفريدة. ما فعله آل الأسد هو استثمار هذه الخاصية لتأبيد سلطتهم وتبرير القمع والفساد، حتى انتهى الأمر بإفراغ هذا الدور من مضمونه، بما يشبه قراراً غير معلن بإلغائه، عبر سياسات عمّقت الفجوة بين هذا الدور وبيئته الشعبية، وغيّبت حامله الحقيقي: الشعب السوري، حتى تحوّلت هذه الميزة إلى لعنة.

ملء الفراغ

التخبط ومن ثم الانكفاء الروسي– الإيراني المفاجئ عن الساحة السورية، وهروب السلطة السابقة، حوّلا البلاد إلى ساحة مفتوحة بالكامل، وإلى ميدان لصراع نفوذ بين دول الإقليم. وكما هي عادته، سارع العقل البراغماتي الأمريكي إلى الاستثمار في الوضع الناشئ، وإدارة عملية «ملء الفراغ» بما يتوافق مع استراتيجياته، مستغلاً علاقات واشنطن التاريخية مع دول الإقليم من جهة، وحاجة السلطة الجديدة إلى شرعنة وتطبيع وجودها من جهة أخرى. والنتيجة: سورية، وشعبها، أصبحوا «فرق عملة» في بازار الصراع الدولي والإقليمي.

السموات والقبوات

تتجدد الدعوات لتصفية ما تبقى من القطاع العام في سورية، تحت ذرائع واهية لا أساس لها، بعضها ينبع من دراية وحقدٍ دفينٍ، وبعضها الآخر من جهل صغار العقول وسُفهاء القوم، ممن يبدون استعداداً للرقص على إيقاع أي طبل، الذريعة واحدة دائماً: القطاع العام هو من تركة آل الأسد!
لكن الواقع أن العكس هو الصحيح؛ فقد نشأت النواة الأولى للقطاع العام بعد الاستقلال مباشرة عبر الاستيلاء على الممتلكات الفرنسية (الريجي- الترامواي- الكهرباء)، وتوسع بعد ذلك نتيجة تراكمات وتفاعلات الصراع الاجتماعي والسياسي في سورية، وقبل وصول حزب البعث إلى السلطة، وصعود شرائح اجتماعية عريضة شاركت في بناء الدولة الناشئة.
ما فعله الأسد الأب هو إجهاض هذه التجربة عبر سياسات أوقفت التقدم الاجتماعي، وفتحت الأبواب للفساد والنهب، بعد أن أُخرج هذا القطاع من الرقابة الشعبية في ظل هيمنة نموذج «الدولة الأمنية – اللصقراطية».
ربط القطاع العام باسم آل الأسد، كما يفعل البعض، هو تكرار مقلوب ومشوّه لشعار «سورية الأسد»، والذي يُستخدم لتبرير بيع ما تبقى من سورية تحت ذريعة «تحريرها» من إرث الأسد، وكأنها ملكية خاصة له.

عاهات الاشتراكية وجلطة النيوليبرالية

النظام الحاكم في سورية لم يكن اشتراكياً على الإطلاق، بل كان نموذجاً مشوّهاً لرأسمالية تابعة ممسوخة. وجود قطاع دولة دون عدالة في توزيع الثروة لا يعني أن النظام بات اشتراكياً.
في بلد مثل سورية، كان القطاع العام ضرورة موضوعية لبناء قاعدة مادية تنموية، في ظل عجز البرجوازية المحلية عن لعب هذا الدور. أما توزيع عوائد هذا القطاع، فقد ارتبط بتوازن القوى داخل الدولة والمجتمع.
ما حدث هو أن الشريحة البيروقراطية استحوذت على نصيب كبير من هذه العوائد، مستفيدة من احتكار القرار والثروة، ومتقاسمة النفوذ مع قوى السوق المحلية والعالمية، ما أدى إلى تحويل القطاع العام إلى قطاع مُخسَّر، وليس خاسر بطبيعته.
القطاع العام كان أحد أهم أعمدة الدور الاجتماعي للدولة؛ فبدونه، وفي ظل شكل ومضمون التقسيم الدولي للعمل بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن من الممكن الحفاظ على التوازن الاجتماعي في بلد مثل سورية.
وإذا أردنا التعمّق أكثر، يمكن القول: إن الكارثة السورية الراهنة تعود في جزء منها إلى تقويض هذا الدور الاجتماعي للدولة، وعدوى النيوليبرالية التي أصابت البنية السورية– اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً– بـ «جلطة» شلّتها، وأدخلتها غرفة العناية المركّزة.

قطاع الدولة بالملموس

القطاع العام هو جزء من منظومة لم يكتمل إنجازها، بسبب تغيّر موازين القوى داخل السلطة الساقطة وعلى المستوى الدولي. ومع ذلك، لعب هذا القطاع دوراً مهماً في تاريخ سورية. وإلغاؤه، عبر تلك الدعوات، هو شطب لعقود من كفاح السوريين وفقرائهم ومنتجيهم.
قطاع الدولة هو: التعليم المجاني من الألف إلى الياء، ومئات آلاف الكفاءات والكوادر الوطنية، هو القطاع الصحي المجاني، هو استثمار وطني للنفط منذ منتصف الستينيات، مصفاة بانياس، سد الفرات، سكك الحديد، شبكة الكهرباء التي وصلت لأقصى سورية منذ أكثر من أربعة عقود، ملايين الشقق السكنية بالتقسيط المريح، التي لم تكن إلا نتيجة نضالات السوريين والسوريات، ونتيجة صراع سياسي حاد وطويل.
تركة الأسد الفعلية التي ينبغي دفنها هي على سبيل المثال لا الحصر: النفط في أيدٍ أمينة، هي قطاع الاتصالات الخليوية في يد الأقارب، هي التدمير الممنهج للقطاع الزراعي- هي احتكار القرار السيادي، وقانون الطوارئ، والأحكام العرفية، هي إقصاء السياسة من المجتمع، وشل الحركة السياسية بالقمع أو الامتيازات، هي انتخابات الـ 99%، هي السجون والمعتقلات- هي سياسة الاحتفاظ بحق الرد، هي مقايضة دور سورية ببقاء السلطة عبر سياسة خطوة مقابل خطوة، هي تشويه النسيج الاجتماعي والهوية الوطنية عبر تكريس التفرقة على أساس البنى التقليدية الدينية والطائفية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1229