الهوية الوطنية السورية بين السعة الثقافية والضيق الجغرافي
دراسة موضوع الهوية الوطنية السورية، كيفية تشكلها والتغيرات التي خضعت لها عبر المئة عام الماضية، هي واحدة من أعقد وأصعب الدراسات التي يمكن للمرء أن يعمل عليها، وهي بالتأكيد أعقد من دراسة الهوية الوطنية في بلدان، مثل: العراق، أو مصر أو فرنسا، أو الولايات المتحدة الأمريكية، أو روسيا...
ففي عدد مهم من الدول حول العالم، وحيث نشأ مفهوم الدولة الوطنية الحديثة (في فرنسا بادئ الأمر)، يمكن الحديث عن الدولة كوحدة جغرافية واقتصادية وبشرية، ذات أساس واضح هو خليط بين المسائل القومية والتاريخية والثقافية والاقتصادية، وأيضاً السياسية.
في العراق أو مصر، ورغم أن الحدود السياسية للدولتين الحديثتين ليست هي ذاتها الحدود السياسية التاريخية التي تحركت بشكل مستمر توسعاً وتقلصاً، إلا أن كلا منهما كانت دائماً دولة قائمة، وفيها درجة من المركزية الواضحة، عبر جيش موحد وجهاز بيروقراطي كبير، إضافة إلى الثقافة العميقة والمتجذرة والمتمايزة عن الآخرين.
في فرنسا، ورغم تعدد القوميات والعرقيات، إلا أن أساس الوحدة كان اقتصادياً/سياسياً، مع وجود بعد تاريخي غير قليل الأثر.
في روسيا، يوجد الأمران معاً، الجانب الثقافي المشترك العميق، ومعه الجانب السياسي والاقتصادي الثابت نسبياً عبر مئات الأعوام.
في سورية، هنالك إرث ثقافي عميق، له خصوصيته بطبيعة الحال، ولكنه غير متطابق مع الحدود السياسية لسورية، وهو دائماً أوسع منها؛ فحدود سورية الحديثة (السياسية)، فرضت من الخارج، باتفاقات سايكس بيكو، وبيد الاستعمار الأوروبي.
تناقض لم يتم حله
التناقض الذي تتضمنه الهوية السورية الحديثة، منذ اللحظة الأولى لإعلان المملكة عام 1920، ما يزال قائماً حتى اللحظة، ويمكن القول: إنه ازداد عمقاً.
ما نقصده بهذا التناقض هو الأمران التاليان:
أولاً: الحدود السياسية لسورية هي أضيق من الامتداد الثقافي والتاريخي لها، باعتبار أنها كانت دائماً جزءاً حيوياً، وأحياناً مركزياً، من إمبراطوريات أكبر وأوسع. ولذا نجد تعبيرات هذا «الضيق الجغرافي»، بالبحث عن انتماء أوسع، سواء عبر الفكرة القومية العربية، أو القومية السورية، أو الإسلامية أو حتى اليسارية الماركسية... بالنسبة لكل التيارات الاجتماعية/السياسية السورية، لم يكن من الممكن التعامل مع سورية بحدودها الحالية بوصفها «وطناً نهائياً مكتملاً»، حتى بالمعنى البرجوازي التقليدي.
ثانياً: البحث عن الانتماء الأوسع، جرى تحفيزه بشكل مستمر بخطر التفتيت الإضافي؛ لأن الحدود السياسية التي أنتجتها سايكس بيكو، جرى العمل على إعادة رسمها باتجاه تفتيت أكبر منذ اللحظات الأولى لتطبيقها؛ ولعل محاولات الاستعمار الفرنسي تقسيم سورية لعدة بلدان على أسس طائفية، كان المثال الأول على هذه المحاولات، وتلته محاولات مستمرة حتى اليوم، ويعبر عنها بشكل واضح اليوم، «الإسرائيلي» عبر أفعاله وتصريحاته العلنية، ما دفع ويدفع الوطنيين للتمسك بالحدود «الضيقة جغرافياً» ومحاولة البحث عن جذور عميقة لها بشكلها القائم، والدفاع عنها بوصفها حدوداً نهائية مغايرة لكل ما سواها، بل وحتى عديمة الارتباط بما سواها ضمن منطق «سورية أولاً»!
الاتجاهان كلاهما يصبان في الطاحون نفسه في نهاية المطاف، ولا يقدمان حلاً واقعياً وعملياً ومبدئياً للمشكلة؛ فسورية هي جزء من كل، ولا يمكنها إلا أن تكون كذلك، وسورية هي في الوقت نفسه حدود نهائية ضمن منطق الدولة الوطنية الحديثة، يجب الحفاظ على حدودها ووحدتها السياسية والاقتصادية والسكانية، ولا يجوز التفريط بها بأي شكل من الأشكال.
حل هذا التناقض يتطلب العمل باتجاهين:
أولاً: علينا تحديد الكل الذي سورية جزء منه... هذا الكل يتضمن الثقافة العربية الإسلامية بكل تأكيد، بوصف هذه الثقافة، الحاضن الحضاري لثقافات المنطقة وتطوراتها خلال ما يقرب من ألف وخمسمائة عام. هذا الكل يتضمن أيضاً الكل الإنساني العام الذي تنتمي سورية والسوريون إليه، ويتضمن ثقافات المنطقة باختلاف قومياتها ولغاتها. يتضمن أيضاً كلاً اقتصادياً منشوداً يسمح لسورية وللسوريين ولشعوب المنطقة بالخروج من التبعية الاقتصادية التي كرسها الغرب الاستعماري طوال 400 عام... هذا الكل الاقتصادي يبدأ من الإقليم الاقتصادي الذي يضم ما يمكن تسميته بدول الشرق العظيم (سورية، لبنان، فلسطين، الأردن، العراق، تركيا، إيران... وغيرها)... هذه المساحة المتصلة كانت مسرحاً متصلاً لكل إمبراطورية كبيرة عاشت وازدهرت في منطقتنا، بالضبط لأنها إقليم اقتصادي طبيعي يمكنه الاكتفاء بذاته والازدهار.
ثانياً: علينا الدفاع عن حدودنا السياسية، ليس عبر القفز في الهواء نحو انتماءات أوسع، بل عبر العمل على الانتماءات الأوسع، ولكن بالتوازي مع تكريس الوحدة الداخلية للشعب السوري؛ وباب هذه الوحدة هو التوافق، وهو المواطنة المتساوية، ودولة القانون، ودولة العدالة الاجتماعية، التي لا تميز بين سوري وآخر.
بالملموس، فإن بين البنود الأساسية على جدول عمل المؤتمر الوطني العام المنشود، والذي ينبغي أن يتم في أقرب وقت ممكن، بند الهوية الوطنية السورية، بوصفها كلاً منسجماً، وبوصفها جزءاً من كل أوسع في الآن نفسه...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1228