بعض من أنماط «اللّعب» الإعلامي المتعلق بالتسوية السورية-التركية

بعض من أنماط «اللّعب» الإعلامي المتعلق بالتسوية السورية-التركية

ما يجري هذه الأيام من دفعٍ باتجاه تسوية سورية تركية، وبجهود روسية إيرانية ضمن مسار أستانا بالدرجة الأولى، ليس أول موجةٍ بهذا الاتجاه؛ فقد سبق ذلك موجة استمرت منذ إعلان وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان مطلع تموز 2022 عن رغبة إيران في حل «سوء الفهم» بين سورية وتركيا، وصولاً إلى جملة اللقاءات الثلاثية والرباعية على مستوى الدفاع والخارجية، التي جرت في موسكو حتى أواسط 2023.

ورغم أنّ هذه الموجة هي الموجة الثانية، وبعد انقطاع دام عاماً كاملاً تقريباً، إلا أنها ليست تكراراً للأولى، بل بناءً تراكمياً عليها؛ يتضح ذلك، ليس فقط من نوعية التصريحات الرسمية وشبه الرسمية المصاحبة لهذه الموجة، والتي تتسم بقدرٍ من الليونة والدبلوماسية أعلى من سابقتها، ولكن أيضاً من الأساليب التي يجري استخدامها في أوساط إعلامية متعددة، وعلى لسان قوى وشخصيات سياسية متعددة.

أول ما يمكن لحظه، هو النشاط العالي في عمليات تصنيع وترويج أخبارٍ زائفة بالكامل، أو جزئياً. أقرب مثال على ذلك: هو الأخبار التي انتشرت حول لقاء قمة ثلاثي «سرّي!» جرى في موسكو قبل أيام، وضمّ كلاً من رؤساء سورية وتركيا وروسيا، وقبله كلامٌ عن لقاءٍ يجري التحضير له في أستانا، وقبل هذا وذاك حديث عن لقاءٍ في بغداد ولقاءات في حميميم وإلخ...

ورغم أنه ليس لهذه الأخبار جميعها الوظيفة السياسية نفسها، إلا أنّ بين الوظائف المشتركة الواضحة تهيئة «الرأي العام» - وخاصة عند من روّجوا طويلاً ضد التسوية- أنّ التسوية باتت قريبة، وستتحول من كلامٍ إلى واقع...

يشبه هذا الأسلوب، إلى حدٍ بعيد، الأسلوب المستخدم لتمرير رفع أسعار سلعة معينة؛ حيث كان يبدأ الأمر غالباً بالطريقة نفسها، عبر بث إشاعات حول رفع السعر، ومن ثم ترويج تلك الإشاعات، ومن ثم نفيها... مرةً واثنتين وأكثر، بحيث يتم تفريغ الشحنات السلبية تجاه السعر الجديد بشكلٍ تدريجي، وبحيث يمر رفع السعر بأكبر سلاسة ممكنة عند تحويله من إشاعة إلى حقيقة.

بالتوازي مع هذه المحاولات، هنالك محاولات لتغيير الإحداثيات التي تجري ضمنها التسوية، بحيث لا تجري في إطار أستانا و2254، وإنما في إطارٍ آخر بغطاء «عربي» ورعاية غربية من وراء الكواليس، لعلّ وعسى يتم الحفاظ على توازن حرجٍ بين الشرق والغرب، وظيفته تأريض هذه التسوية ومفاعيلها، بحيث يستمر الاستعصاء عبر استمرار الوزن الغربي- والأمريكي خاصة- في سورية...

إلى جانب هذه المحاولات، تبرز «تحليلات» وآراء سياسية تتفق فيها قوى وشخصيات محسوبة على تيارات متناقضة على الساحة السورية، تصب جميعها في القول: لا للتسوية، وفي استخدام شتى أنواع الحجج؛ ابتداءً من متشددي المعارضة الذين يقدمون التسوية بوصفها دفناً للحل السياسي، ووصولاً لمتشددين ضمن النظام يصورون التسوية بأنها تنازلٌ وطني عن أراضٍ سورية في الشمال السوري.

واحدٌ من أمثلة عديدة على من يهاجمون التسوية ويصورونها كنقيض للحل السياسي، السيد زياد وطفة، العضو القيادي في (هيئة التنسيق الوطنية-حركة التغيير)، والذي عمم بين السياسيين والناشطين في الشأن السوري مؤخراً مقالةً كتبها حول الموضوع بعنوان «من معوقات التطبيع بين أنقرة ودمشق».

في مقالته يعدد وطفة ثلاثة عوامل يعتبرها معيقات للتسوية، وهي: (1- مشكلة اللاجئين. 2- الإدارة الذاتية. 3- مصير القاطنين في مناطق السيطرة التركية ضمن سورية.).

ورغم أنه يبدأ مقالته بتعداد هذه العناصر، إلا أنه يناقش اثنين منها فقط، ويترك الثالث دون أي كلمة (موضوع الإدارة الذاتية). وفي نقاشه للنقطتين الأولى والثالثة المتعلقتين باللاجئين السوريين في تركيا، والسوريين المقيمين في الشمال الغربي السوري، يعرض أوضاعهم المتدهورة، ويخرج باستنتاج معاكس تماماً لما يقوله هو نفسه؛ فحجم المشكلة الكبير الخاص باللاجئين السوريين وبالسوريين في مناطق الشمال الغربي، من شأنه أن يكون دافعاً إضافياً لعملية التسوية لا العكس...

وإذا أعدنا تجميع العناصر الثلاثة مرة أخرى، فإنّ هنالك إجماعاً بين من يدلون بآرائهم في المسألة، إيجاباً وسلباً، وبغض النظر عن الاتفاق معهم أو عدمه، إنها دوافع وحوافز باتجاه التسوية بين البلدين، وخاصة موضوع «الإدارة الذاتية»، وليست معيقات لهذه التسوية كما يصوّرها وطفة.

وإذا كان صحيحاً تماماً الحديث عن عدم وجود رغبة لدى القسم الأكبر من اللاجئين السوريين في العودة، لأسباب متعددة، بينها: الأسباب الاقتصادية، فإنّ ذلك من شأنه أن يعزز من ضرورة التسوية مع تركيا، لأنها الطريق الوحيد فعلياً لكسر العقوبات والحصار الغربي، ليس فقط عبر الاستفادة من حدودٍ طولها أكثر من 900 كم، بل وخاصة لأن تلك الحدود هي بوابتنا كسوريين نحو روسيا وإيران والصين ونحو مشروع الحزام والطريق والمشروع الأوراسي.

من جانب آخر، فإنّ محاولة تصوير التسوية بين سورية وتركيا بوصفها استنساخاً للسياق نفسه لعمليات التقارب بين الأنظمة العربية وسورية خلال السنتين الماضيتين، هي محاولة لا تتأسس على حقائق؛ على الأقل يمكن وضع التقارب من جهة الإمارات والأردن في ضفةٍ أخرى معاكسة تماماً، هي ضفة الغرب وعمله على «خطوة مقابل خطوة» وعلى ما يسمى «تغيير سلوك النظام»، وبكلمة: ضمن العمل على نسف 2254 وإطالة الأزمة وعدم حلّها، وصولاً إلى تقسيم سورية إنْ أمكن.

بالمقابل، فإنّ الاقتراب السعودي من سورية يندرج في إطارٍ مختلفٍ، دافعه الأساسي هو محاولة تطويق نيران الفوضى الشاملة الهدامة التي لا تهدد سورية وحدها، بل المنطقة بأكملها، وخاصة السعودية ومصر.

التسوية السورية التركية، هي الأخرى تندرج ضمن عمليات تطويق النار الأمريكية، وتطويق النفوذ الأمريكي في مجمل منطقتنا، والذي دون تطويقه بالقدر الكافي لن يكون ممكناً إعادة توحيد سورية أو تحقيق أي تغيير سياسي حقيقي فيها.

يخلص السيد وطفة في مقاله إلى التالي: «إن ملف اللاجئين كغيره من الملفات الأخرى، مترابطة فيما بينها، وتتحكم بها قوى إقليمية ودولية، لا تتطابق رؤيتها ومصالحها مع ما يمكن أن يتوافق عليه أردوغان والسلطة السورية، ما يدفع للاعتقاد بعدم جدوى أي مسار لا يتوجه مباشرة لحل سياسي تفاوضي، ينتجه السوريون فيما بينهم، برعاية دولية بعيداً عن الإملاءات والضغوط الخارجية».

إذا حاولنا تحديد تلك «القوى الإقليمية والدولية» التي لا تتوافق مصالحها مع تسوية سورية تركية، فإننا سنجد على رأس القائمة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، إضافة إلى بعض الدول العربية، وخاصة دول التطبيع الأبراهيمي؛ فهل تتطابق مصالحنا نحن كسوريين مع مصالح هذه القوى؟ وهل هنالك من لا يزال يحلم بأنّ الأمريكي وأتباعه يريدون فعلاً الوصول إلى حل في سورية، ويريدون تطبيق القرار 2254؟

هنالك أحد احتمالين، إما أن ننتظر توافقاً دولياً وإقليمياً (بما أنّ الرعاية الدولية مطلوبة من وجهة نظر وطفة)، توافقاً لن يأتي لسنوات وسنوات قادمة، أو أن نصطف كسوريين إلى جانب مصالحنا الحقيقية عبر البحث عن تقاطعاتنا مع القوى والدول المهددة مثلنا بالفوضى الأمريكية، وهذه هي دول أستانا والصين وبعض الدول العربية الأساسية، وعلى رأسها السعودية ومصر... الحل السياسي في سورية عبر 2254 لن يتم إلا كمواجهة وكسرٍ للإرادة الأمريكية، وعلى القوى السورية المختلفة، وخاصة تلك التي ما تزال تُعوّل على الأمريكي أن تبتعد عنه بأسرع وقتٍ ممكن، لتوفير مزيدٍ من العذابات على سورية والسوريين...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1182
آخر تعديل على الإثنين, 08 تموز/يوليو 2024 19:26