ما الهدف من وراء رفع درجة حرارة الجنوب السوري؟

ما الهدف من وراء رفع درجة حرارة الجنوب السوري؟

خلال الأسبوعين الماضيين، وعلى المستوى الإعلامي بالدرجة الأولى، جرت عملية رفعٍ لحرارة الجنوب السوري، وخاصة في السويداء وحولها.

ضمن التفاصيل، جرى الاستناد إلى وجود حالة التظاهر/الاعتصام المستمرة منذ أشهر في مدينة السويداء، إضافة إلى المبالغات المقصودة في الحديث عن تعزيزات عسكرية باتجاه الجنوب، وانتهاءً بإعادة توليد واستنساخ الخطابات السابقة عن «الحسم العسكري» من جهة، وعن استعدادات عسكرية للرد من جهة ثانية، وذلك على الرغم من الرفض الشعبي الواسع لأي عسكرة ولأي اقتتال، وعلى الرغم من عدم وجود حوامل اجتماعية جدية لدفع البلاد والمنطقة مجدداً نحو دوامة من العنف والاقتتال.
بالتوازي، وخلال الأشهر الماضية، ازدادت الإعلانات السياسية، وبعض التحركات العسكرية المحدودة من الجانب الأردني، ومعها ازداد منسوب الحديث الإعلامي عن تدخلات تديرها التنف. ودخل الصهاينة على الخط بشكلٍ مباشر ووقح كالعادة في تحمية الأمور، والدفع نحو انفجارات جديدة، وخاصة عبر التدخل الإعلامي لشخصيات بعينها من الكيان، بمن فيهم الوزير الصهيوني أيوب قرا، الذي كان عضواً في حزب الليكود، والمعروف بموافقه المتطرفة في معاداة الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية.

محاولة للفهم

لمحاولة فهم هذه المستجدات، ورغم أنها ما تزال محدودة حتى وإنْ رافقها ضجيج إعلامي كبير، ينبغي وضع المسألة ليس ضمن حدود الجنوب السوري، بل ضمن سياقها الأوسع الخاص بسورية ككل، وبالمنطقة وبالصراع الدائر ضمنها.
«الفيل في الغرفة» والذي يجري التعتيم عليه، هو المحاولات الغربية ومحاولات الفاسدين الكبار وتجار الحرب في الداخل السوري، الوصول إلى اتفاقٍ من تحت الطاولة، مؤداه النهائي هو إزاحة سورية بشكلٍ نهائيٍ عن تموضعها السياسي التاريخي على المستوى الإقليمي والدولي، وعبر هذه الإزاحة، محاولة تأمين مخارج- ولو جزئية- لكل من واشنطن ومعها تل أبيب من أزمتهما المستعصية في مجمل منطقتنا، خاصة بعد التعثر الصهيوني على كل المستويات في الوصول إلى أيّ من الأهداف المعلنة من العدوان المستمر على غزة منذ أكثر من سبعة أشهر، والذي حطم كل الأرقام السياسية التاريخية لمعركة مستمرة يخوضها الكيان منذ نشأته.
يجري التعبير عن هذا «الفيل»، بأشكالٍ وأدوات متعددة؛ ابتداءً من إتمام عملية لبرلة الاقتصاد السوري حتى النهاية، بما في ذلك القضاء على ما تبقى من دعم وعلى ما تبقى من نشاطات إنتاجية لمصلحة النشاطات الريعية ونشاطات السوق السوداء، وكذلك تسريع عمليات إحلال القطاع الخاص محل ما تبقى من قطاع الدولة، سواء في الكهرباء أو النقل وغيرها من القطاعات، ومؤخراً التبغ.
ويجري التعبير عن هذا «الفيل» أيضاً، عبر سياسات المؤسسات الدولية المدفوعة غربياً، في ملفات مثل «التعافي المبكر» و«البيئة الآمنة والمحايدة»، ورفع الضغط على اللاجئين السوريين في دول الجوار السوري، ناهيك عن استمرار العقوبات وتشديدها بين الحين والآخر، والتفاوت في تطبيقها بين مناطق النفوذ السورية المختلفة بما يعزز قطع التواصل الاقتصادي بينها بشكل متصاعد، وبما يخدم خلق عدة أسواق منفصلة على المساحة الجغرافية لسورية، والذي من شأنه في حال استمراره أن يضع أسساً إضافية لعملية تفتيت شامل.
الطريف- إنْ كان ثمة ما هو فكاهي في أوضاع مأساوية كالتي نعيشها- هو التناغم الكامل بين المتشددين من الجهات السورية المختلفة، والتي تدّعي العداء السافر لبعضها البعض، في سيرها باتجاه الهدف نفسه وضمن المخطط العام نفسه... بكلامٍ آخر، يتقاطع اليوم تجار الحرب من كل الجهات في تقديم اللجوء «السياسي» إلى المعسكر الغربي/الصهيوني، عبر تنفيذ ما يريد، بوصفه الخلاص على المستوى المناطقي، أو على مستوى البلاد بأسرها. كذلك، وفي السياق نفسه، يتقاطع تجار الحرب والعسكرة في السعي المشترك نحو تحمية الأجواء ورفع درجة الحرارة لتخديم وتسويغ الخطوات اللاحقة...
عودةً إلى الجنوب السوري، فإنّ الدفع نحو تعزيز عزله عن بقية سورية، وإنْ جاء تحت «شعارات سياسية» متعددة، بينها الحديث عن «إدارة ذاتية»، فإنّه يخدم في نهاية المطاف مخططاً واحداً وشاملاً لسورية بأكملها، تتحول بموجبها إلى جزرٍ معزولة عن بعضها البعض.
لعل من المفيد في هذا السياق استذكار المشروعات المتعددة والمتلاحقة التي طرحها معهد «راند» الأمريكي، منذ أكثر من 7 سنوات، أي بالتوازي مع انتقال الغرب من شعار «إسقاط النظام» إلى شعار «تغيير سلوك النظام»...
في أوراق راند المتلاحقة التي حملت عنوان «سلام من أجل سورية»؛ جرى التركيز على حل الأزمة «من تحت إلى فوق»، و«من المناطق باتجاه المركز»، وذلك عوضاً عن حلٍ سياسي شامل، قيل في حينه، وما يزال يقال حتى الآن «إنه مُتعذر وبعيد»... أي ببساطة «حل» بعيداً عن 2254، وعلى طريقة جيمس جيفري «الركود هو الاستقرار».
ما نراه اليوم من صياغة نماذج متمايزة لكل منطقة من المناطق السورية، نماذج منفصلة عن بعضها البعض، وكل منها يجري الإيهام بدعمه بطريقة أو بأخرى من هذه القوة الغربية أو تلك، هو تطبيق عملي لمخططات راند، والتي من شأنها أن تأخذ الوضع السوري على المستوى العام وعلى مستوى المناطق وعلى مستوى المجموعات البشرية والأفراد إلى مزيد من التدهور، فقط لا غير...
ربما ينبغي في هذا السياق أيضاً، أي في سياق الجنوب السوري خاصة، إيلاء انتباه خاص لموقف الغالبية الساحقة من الأهالي؛ الذين يتبعون إلى الآن سياسة النأي بالنفس عن كلا المعسكرين؛ فلا المنتفضون تمكنوا من تقديم نموذج جديد جاذب لعامة الناس، وخاصة بسبب استنساخهم الحرفي للشعارات والأشكال السابقة، ولا النظام استطاع جذب الناس صوبه عبر التخويف من «الطرف الآخر»؛ إذ إنّ الحالة العامة يمكن توصيفها بأنها معارضة لكلا الطرفين، وفاقدة للثقة بهما معاً.
جانبٌ آخر يلعب دوراً مهماً في السياق المحلي في الجنوب السوري، هو البعد الوطني الذي رغم كل ما تعرض له من تشويه ومن تراكم تخريبي عبر السنوات الماضية، إلّا أنه ما يزال يتمتع بدرجة من اليقظة اتجاه الطروحات التي يظهر تقاطعها مع الصهيوني خاصة، بل وبات من الشائع في الفهم العام ربط مشروعات تجار الحرب والمتشددين من الجهات المختلفة ببعضها البعض، وعدم الوقوع في الاستقطاب الشكلي السابق...
بالمحصلة، ورغم الضجيج الإعلامي الكبير، بل والمبالغ به، فإنّ الاتجاه الوطني ضد كل المتشددين من كل الأطراف، ما يزال هو الأقوى والأرسخ، رغم أنّه يعبر عن نفسه حالياً بالانكفاء وعدم الدخول في الاستقطابات التي تجري محاولة فرضها على الناس... هذا الاتجاه سيجد الطرق المناسبة في نهاية المطاف للتعبير عن نفسه، وعن وزنه الفعلي الذي يعادل أضعافاً مضاعفة من الأوزان الظاهرة إعلامياً للأطراف المتصارعة شكلياً...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1174
آخر تعديل على الإثنين, 20 أيار 2024 13:40