كيف يفكّر «المجتمع الإسرائيلي»؟ وكيف نفسّر الهستيريا الجماعية؟

كيف يفكّر «المجتمع الإسرائيلي»؟ وكيف نفسّر الهستيريا الجماعية؟

ينبغي أن تنطلق أي محاولة جادة لفهم اتجاهات التفكير السياسي السائدة في «المجتمع الإسرائيلي»، وقبل أي شيء آخر، من التخلص من أعباء التقسيمات النمطية بين «يمين» و«يسار»، وبين «متطرفين» و«معتدلين» وإلى ما هنالك؛ فهذا النوع من التقسيمات، وإضافة إلى كونه لم يعد- منذ عقود- أداةً مفيدةً في تحليل السياسات، ليس في «إسرائيل» فحسب، بل وفي العالم بأسره، فإنّه في الحالة «الإسرائيلية» بالذات، يبدو أداةً مباشرةً في التضليل والتعمية على الحقيقة؛ فالسلوك العملي لمختلف الاتجاهات السياسية السائدة في الكيان، بما في ذلك المتعارضة فيما بينها، يكشف عن سيادة وعمومية التطرف والتعصب والنزعة الإبادية العنصرية التي ترقى إلى حالة هستيريا جماعية وعُصابٍ مزمنٍ لمجتمع بأسره.

مؤتمر «عودة الاستيطان لقطاع غزة»... مثالاً

المتابع لسلوك وتصريحات قيادات الكيان، على اختلاف تصنيفاتهم، ولنتائج الاستبيانات التي تكشف عن الآراء السائدة ضمن «المجتمع الإسرائيلي»، لا تعوزه الأمثلة والأدلة لتشخيص حالة التطرف الجماعي التي نتحدث عنها.
مع ذلك، ربما من المفيد استحضار مثال المؤتمر الذي تم عقده في القدس المحتلة يوم 28 كانون الثاني تحت عنوان «العودة للاستيطان في قطاع غزة والتهجير الطوعي للفلسطينيين»، بالذات لأنّه عُقد بعد صدور القرار الأولي لمحكمة العدل الدولية، ولأنّه جاء بعد تعهدات من نتنياهو بأنّ المؤتمر لن يشتمل على حضورٍ رسمي «إسرائيلي».
رغم تعهدات نتنياهو، إلا أنّ 11 وزيراً من حكومته شاركوا في هذا المؤتمر، وعلى رأسهم بن غفير وسموتريتش، ووزراء وأعضاء من «الكنيست» من حزب «الليكود»، وهو حزب نتنياهو.
وما الذي دعا له هذا المؤتمر؟ كما يبدو من عنوانه، فقد دعا لتهجير أهل غزة، سواء باتجاه مصر أو باتجاه مختلف أنحاء العالم. ليس ذلك فحسب، بل وأيضاً دعا إلى إعادة استيطان غزة، وأطلق أسماءً افتراضية على المستوطنات المفترضة، وخصص لكلٍ منها طاولة داخل المؤتمر، يمكن للمستوطنين المفترضين أن يسجلوا أنفسهم بشكل مسبقٍ من خلالها في تلك المستوطنات.
رئيسة إحدى أكبر منظمات الاستيطان، وعند سؤالها خلال المؤتمر حول مصير أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة، قالت: «العرب سوف يتحركون. كما أن إسرائيل لا تقدم لهم الطعام من أجل الضغط على حماس لإطلاق سراح الرهائن، كذلك يجب على إسرائيل ألّا تقدم لهم أي شيء، لذلك سيتعين عليهم التحرك. العالم سيتقبل هذا». وأضافت: «غزة، البوابة الجنوبية لإسرائيل، ستكون مفتوحة على مصراعيها. سيغادر سكان غزة إلى جميع أنحاء العالم، وسيجعل الشعب اليهودي أرض أجدادنا تزدهر. إن كل قطعة أرض من أرض إسرائيل يملكها جنودنا في متناول أيديهم تمنحنا القوة اللازمة لمحاربة عدو قاسٍ وأبدي. إننا لا نعود إلى أرض أجنبية، بل إلى الرمال الذهبية لغزتنا. لا يوجد «يوم تالي» – اليوم التالي هو اليوم، وهو كل يوم ينتصر فيه الشعب اليهودي ويعود ليستقر في غزة».
النسخة الأخرى من طروحات هذا المؤتمر، يمكن العثور عليها في التصريحات الأخيرة لأفيغدور ليبرمان (2 شباط)، والتي قال فيها إنّه: «من غير المنطقي القيام بذات الشيء لسنوات وتوقع نتائج مختلفة، ومن هذا المنطلق فإن حل الدولتين لم يعد موجوداً»، وعلى هذا الأساس طرح أنْ يتم إعطاء غزة لمصر من خلال قرار انتداب من قبل الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، وأن يتم تقسيم الضفة الغربية بحيث تأخذ الأردن المنطقة (أ) وجزءاً من المنطقة (ب) ويأخذ الكيان كل ما تبقى من الضفة الغربية.
مثال إضافي هو: احتجاجات نفذها «إسرائيليون» قبل أيام، طالبوا خلالها بوقف كاملٍ لإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة، وبشكل صريح طالبوا باستخدام حرمان الغزيين من الطعام والماء كطريقة للضغط على المقاومة، ورافق هذا هتافات من نوع «العدو يجب أن يُقتل، لا أن يُطعم».

بين الطروحات والوقائع

يتكشف حجم حالة الإنكار الجماعي، والهستيريا الجماعية، بشكلٍ أفضل، حين نضع في مكانٍ واحدٍ الأهداف التي يعلنها «المجتمع الإسرائيلي» وقادته، والوقائع على الأرض.
في هذا الإطار، نعرض اقتباساً من افتتاحية العدد 1150 من قاسيون، المنشورة بتاريخ 26/11/2023 تحت عنوان «الهدنة: بداية الاعتراف بالانتصار الفلسطيني».
«فلنتذكر، أنّ الكيان بدأ حربه مع سقف أهدافٍ جنوني، تضمن تهجير أهل غزة إلى مصر، ومن ثم تهجيرهم جزئياً من شمال القطاع إلى جنوبه، القضاء على حماس، تدمير الأنفاق، منع إطلاق الصواريخ من غزة، تحرير أسراه دون إطلاق أيٍ من الأسرى الفلسطينيين، محاصرة دخول المساعدات، ومنع دخول الوقود نهائياً.
والآن، ما الذي تحقق من هذه الأهداف حتى يقبل الكيان بالهدنة؟ لا شيء إطلاقاً، بل على العكس، فإنّ قبول هذه الهدنة يعني اعترافاً ضمنياً بالطرف المقابل الذي يتم عقد الهدنة معه، أي المقاومة الفلسطينية، وفي القلب منها حماس. وهو اعتراف بأنّ جنوده يرتعدون رعباً في كل زاوية دخلوها من زوايا غزة، ويتلقون ضربات من كل صوب، من فوق الأرض ومن تحتها، وعبر الأنفاق التي يريدون تدميرها. ويعني اعترافاً بأنّه عاجز عن وقف إطلاق الصواريخ من غزة، والتي كانت آخر رشقاتها قبل ساعات فحسب من بدء سريان الهدنة. واعترافاً بأن أسراه لا يمكن أن يعودوا إلّا عبر مبادلة أسرى، أي كما قالت المقاومة منذ اللحظة الأولى. وأنّ حديث العدو عن الإجهاز على حماس محض هراءٍ لا أمل في تحقيقه. وأنّ المساعدات دخلت وستدخل رغماً عنه بما فيها الوقود، وسيزداد تدفقها مع الوقت شاء أم أبى. وبكلمة واحدة، فإنّ كل الأهداف التي أعلنها الصهيوني ومعه الأمريكي قد باءت بفشلٍ ذريع، ولم يتحقق أي منها، بل وتحقق ويتحقق عكسها مع كل يومٍ إضافي يواصل فيه حربه الإجرامية الخاسرة».

1160-23

الآن، وبعد مضي أكثر من شهرين على الكلام السابق، فما الذي يمكن إضافته في هذا السياق؟
ما يمكن إضافته، هو أنّ الأمر لم يقف عند عدم تحقيق الأهداف السابقة، بل إنّ الكيان مضى شوطاً أبعد في إعلان أهداف جديدة أكثر جنوناً، هي الأخرى مستحيلة التحقيق؛ الحديث مثلاً عن ضم غزة إلى مصر (والذي يمثل في الواقع، ورغم أنه يبدو أكثر جنونيةً من الأهداف السابقة، إقراراً ضمنياً بأنّ غزة هذه مشكلة غير قابلة للحل بأيدي الصهاينة، ولذا خذوها وخلصونا منها). أيضاً هنالك الحديث عن ضم جزء من الضفة للأردن واحتلال الباقي (الجزء الأكبر منها).
في إطار عرض الوقائع أيضاً، وتبيان فرق الكمون الهائل بينها وبين الأهداف المعلنة، لا يمكن إغفال جملة من المصائب الكبرى التي يعيشها الكيان، وعلى رأسها ما يزيد عن نصف مليون مستوطن، تم إخلاؤهم من الشمال الفلسطيني المحتل ومن غلاف غزة، وأكثر التقديرات «الإسرائيلية» تفاؤلاً، تتحدث عن خطة ستكلف مليارات الدولارات وخمس سنوات لكي يعودوا (بافتراض تحقيق الأهداف السياسية التي يعلنها الكيان).
ربما من المفيد في هذا الإطار، العودة لمادة مركز دراسات قاسيون المنشورة على جزأين في شهري كانون الثاني وشباط من العام الماضي، أي قبل 9 أشهر من 7 أكتوبر، تحت عنوان «الكيان الصهيوني... عشرة محاور لأزمةٍ شاملةٍ واحدة».
وفي السياق أيضاً، وكأداة أساسية في الفهم، فإنّ قياس حجم المصائب الواقعة على رأس الصهيوني، ينبغي أن يتم استناداً إلى جملة مقارنة مركزها هي الكيان نفسه، وليس أي مركز آخر.
بشكلٍ أكثر وضوحاً، يلجأ البعض في إطار المقارنات، وحسابات الأرباح والخسائر، إلى حسابات كميّة تضيع معها الحقائق والسياقات الفعلية للحدث وتأثيراته؛ فنجد مثلاً من يقيس الربح والخسارة بعدد الشهداء من جهة، والقتلى الصهاينة من جهة مقابلة، وكذا يقيس عدد النازحين من بيوتهم في غزة بعدد الذين تمّ إخلاؤهم ضمن الكيان، وإلخ.
هذه الطريقة في الحساب، ورغم أنّ بعض مستخدميها يدّعون «الإنسانية»، إلا أنها تتسم بقدرٍ هائلٍ من الجهل بالتاريخ وبالوقائع الراهنة على حدٍ سواء؛ فدائماً ما كانت قدرة قوى الاحتلال على احتمال الخسائر البشرية والمادية أضعف بما لا يقاس بقدرة الشعوب الواقعة تحت ذلك الاحتلال.
أكثر من ذلك، فإنّ فكرة «الوطن الموعود»، قد قامت على أساسين هما ما سمحا باستمرار الهجرة الصهيونية نحو فلسطين، وفي تثبيط الهجرة المعاكسة. الأساس الأول: هو الأمن المستند إلى قوة ردعٍ هائلة، وإلى تفوقٍ ساحقٍ للصهيوني على كل محيطه العربي، وعلى الفلسطيني ضمناً. والثاني: هو الرفاه، المستند إلى الضخ المستمر للمساعدات الغربية من جهة، وإلى التطور التكنولوجي والصناعي من جهة أخرى.
ما يعجز أصحاب المقارنات السطحية العددية عن قراءته، هو أنّ هذين الأساسين قد تمّ نسفهما معاً، وبضربة واحدة، في 7 أكتوبر. وإذا افترضنا أنّ كل مخططات الكيان ستنجح، وهو افتراض لا أساس له، فإنهما لن يعودا قبل عقدٍ من الزمن على الأقل.
بين المستوطنين، هنالك فئة واحدة فقط قادرة ومستعدة أن تعيش ظروف حربٍ وعدم استقرار طويلة الأمد، هي الفئة المسماة الحريديم. وهذه الفئة نفسها، هي أحد أكبر مشكلات الكيان، فهي فئة متخلفةٌ بكل المعاني، وعاطلة عن العمل، وتعتاش على حساب الموازنة الرسمية، وفوق ذلك فهي لا تخدم في الجيش «الإسرائيلي»، وترفض الانخراط في صفوف الاحتياط. أما الفئات التي تقود عجلة الصناعة والتطور التكنولوجي والإنتاج بكل فروعه، وعلى الخصوص منها فئة الإنتلجنسيا، فهذه لا يربطها بـ«إسرائيل» سوى الأمن والرفاه، وهي جاهزةٌ لحمل عفشها، أو حتى تركه، والعودة إلى بلدانها الأصلية، حيث يمكنها الحصول على فرص أفضل، وأهم من ذلك: الأمان.

تفسير الهستيريا

قد يبدو مشوّقاً وطريفاً إلى حد ما، أنْ نشبّه الحالة الهستيرية التي يعيشها الكيان بقياداته ومستوطنيه، بحالة المقامر الخاسر الذي- وفي إطار محاولة تعويض خسارته- لا يكف عن زيادة حجم الرهان، وصولاً إلى المراهنة بكلّ شيء.
هذا التشبيه، ربما يفسر جزءاً من الحالة التي يعيشها «مجتمع المستوطنين»، ولكنّ الاستناد إليه لفهم سلوك السياسيين «الإسرائيليين»، وقادة الرأي وصنّاع الإعلام، هو ضربٌ من الاستسهال غير المبرر.
ولنضف، أنّه لا ينفع في إطار التفسير أيضاً، أنْ نركن إلى التفسيرات العنصرية والإبادية وإلخ لدى قادة الكيان. لا نقصد بطبيعة الحال أنّ هذه النزعات ليست موجودة، بل هي بالتأكيد موجودة ومتأصلة، وأهم من ذلك أنها ليست مستجدة، بل هي متجذرة وقديمة في الفكر الصهيوني، وهي لم تمنعهم في مرحلة كامب ديفيد ومدريد وأوسلو ووادي عربة واتفاقات أبراهام، من تمثيل دور الساعي إلى السلام.
الفرضية التي نعتقد أنها قادرةٌ (على الأقل جزئياً) على تفسير هذه «الهستيريا» على مستوى قيادات وإعلام الكيان، هي التالية:

خلال الأشهر الأربعة الماضية، تصدّع بشكلٍ كبيرٍ أساسا وجود الكيان: الأمن والرفاه. وإذا أقر قادة الكيان بذلك علناً، فسيترتب على ذلك انهيارٌ كامل وسريعٌ للمجتمع الصنعي القائم ضمن الكيان. ولذا فإنّ الأكاذيب والمبالغات هي أداة ضرورية في إدارة المرحلة من وجهة نظر قادة الكيان.
أكثر من ذلك، فإنّ مجرد إلقاء الأكاذيب ليس كافياً بذاته، بل ينبغي أن تكون الأكاذيب ضخمة وكبيرة، لتخلق إلهاءً ضرورياً عن الإقرار بالواقع الجديد؛ فحين يسمع المستوطن الصهيوني بشكلٍ يومي أنّ قادته مصرّون ومقتنعون بقدرتهم على تهجير الفلسطينيين وتركيع العرب، وإنهاء حماس والمقاومة بأسرها، وإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط، وأنهم قادرون على توبيخ الأمم المتحدة وتوبيخ العالم بأسره، فإنّه حتى وإنْ لم يصدق كلّ ذلك، فإنه على الأقل سيشعر أنّ الهزيمة الشاملة ليست احتمالاً واقعياً، وأنّ الوضع المأزوم الحالي هو «وضعٌ مؤقت»، ستتم معاقبة العالم بأسره عليه، والفلسطينيين قبل أي أحد آخر.
هذا النوع من الوهم الجماعي، هو أداة أساسية في المعركة الراهنة بالنسبة للكيان، ودونها لا يمكنه أن يستمر ولو ليومٍ واحدٍ إضافي، لا على مستوى جنود الاحتياط، ولا على مستوى الجنود العاملين، ولا على مستوى المجتمع بأسره... بالضبط لأنّ هذا المجتمع هو مجتمع مستوطنين، وليس مجتمع أصحاب الأرض.
ولذا، ومع كلّ دعاية هستيرية جديدة نسمعها من قادة الكيان، علينا أنْ نأخذ في الاعتبار أنها إلهاءٌ عن الواقع. وعلينا أيضاً أن ننتبه إلى أنّه كلما كانت الدعاية أكثر ضخامة وهستيرية، فهي تشير بالضبط إلى ضخامة الأزمة الواقعية التي يعيشها الكيان.

ما رأي أمريكا؟

نعتقد أنّ أمريكا موافقةٌ بشكلٍ كامل على هذا النمط من الدعاية الهستيرية، وتبذل كل ما يلزم لتقويتها ونشرها. السبب وراء ذلك هو إصرارها على تمديد الحرب لأطول فترة ممكنة، في إطار تحضيراتها وعملها وآمالها بإشعال الفوضى الشاملة في كل الإقليم.
وكي تتمكن «إسرائيل» من مواصلة الحرب، فإنها بحاجة إلى أكبر قدرٍ ممكن من الأوهام والأكاذيب... والهستيريا الجماعية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1160
آخر تعديل على الأربعاء, 14 شباط/فبراير 2024 11:04