هل فعلاً ستولد داعش من جديد إنْ انسحب الأمريكي؟
وفقاً لمقالة في فورين بوليسي الأمريكية، فإنّ هنالك ما يزيد عن 10 آلاف مقاتل داعشي محجوزين ضمن حوالي 20 سجناً مؤقتاً في شمال شرق سورية. ووفقاً للصحيفة نفسها، فإنّ داعش نفذت خلال الأيام العشرة الأولى من هذا العام 35 هجوماً في سبع محافظات سورية، من أصل 100 هجوم نفذته حول العالم.
قاسيون- المحرر السياسي
ورغم أنّ كل رقمٍ من الأرقام التي أوردتها المقالة المشار إليها، هو موضع شك، ولكن حتى إذا افترضنا صحتها، فإنّ كاتب المقال لا يتأخر في إبراز التوظيف السياسي المطلوب لهذه الأرقام، حين يضعها في إطار نقاش «خطورة الانسحاب الأمريكي المحتمل على أمن واستقرار المنطقة»، ضمن افتراضٍ واضحٍ، أنّ انسحاب الأمريكان ستعقبه بالضرورة «ولادة جديدة» لداعش. بل وتسعى الأرقام المعروضة للقول: إنّ هذه الولادة يمكنها أن تعيد التنظيم الإرهابي إلى درجة من القوة والانتشار تشابه تلك التي كان عليها عام 2014.
هل يمكن أن تولد داعش من جديد؟
أول مسألة ينبغي تثبيتها للإجابة عن سؤال «الولادة الجديدة»، هي أنّ داعش قد تمّ القضاء عليها فعلاً، وبشكلٍ شبه نهائي، في كلّ المناطق التي لا يوجد فيها نفوذ أمريكي مباشر، سواء في سورية أو في العراق؛ الجيوب التي تخرج منها هجمات داعش حتى الآن، هي بالذات تلك التي تقع تحت السيطرة الأمريكية، سواء من جهة الشمال الشرقي السوري، أو من التنف ومحيطها، أو من مناطق الارتكاز الأخرى ضمن الجزء الغربي من العراق (والذي يشتمل على بادية واسعة وكثافة سكانية شبه معدومة، وسيطرة أمريكية في عدة مناطق منه).
ما يعني أنّ «الدّاية» التي ستشرف على أيّ احتمال «ولادة جديدة» لداعش، هي بالذات «الدّاية الأمريكية»، التي حمت وخبأت ما تبقى من داعش، بين من أبقته في سورية والعراق، وبين من صدّرته إلى مناطق مختلفة في أفغانستان وإفريقيا، ويمكنها أن تعيد تصديره بشكلٍ معاكس في حال استدعت الحاجة.
ولكن هل يعني هذا أنّ ظهور داعش مجدداً أمرٌ لا راد له؟ نعم، ولا...
نعم، لأنّه ليس من الصعب التنبؤ بأنّ الأمريكي، الذي كان وجوده المباشر في المنطقة منذ 2003، مصدراً أساسياً لعدم الاستقرار وللفوضى والدمار، لن يتخلى عن دوره هذا ببساطة، وسيسعى لإبقاء محركات الفوضى وراءه إنْ هو غادر المنطقة. ولذا لن يكون مستغرباً أنْ نشهد محاولة ولادة جديدة لداعش تترافق مع انسحاب الأمريكان.
ولا، لأنّ التاريخ لا يعيد نفسه إلا كمهزلة؛ فالقوى المعنية بمحاربة داعش، تعلمت الدرس جيداً خلال السنوات الماضية، وهي جاهزة تماماً لاحتواء ظهور جديد لداعش والقضاء عليه، خلال آجال زمنية قصيرة نسبياً. يضاف إلى عامل التجربة، عامل آخر شديد الأهمية، هو اختلاف الاصطفافات الإقليمية والدولية اليوم عمّا كانت عليه في 2014؛ إذ إنّ درجة التوافق والتنسيق ضمن ثلاثي أستانا هي اليوم عكس ما كانت عليه الأمور في 2014، على الأقل بما يخص التموضع التركي. كذلك فإنّ التنسيق بين أستانا نفسها وبين الدول العربية الأساسية، هو الآخر في مكانٍ مختلفٍ تماماً عمّا كان عليه عام 2014... ولذا فإنّ محاولات إعادة إحياء داعش محكومٌ عليها بالفشل ضمن آجالٍ غير بعيدة، بعد الانسحاب الأمريكي المحتمل.
ما هي خيارات الأمريكان؟
ربما يمكن تشبيه الضربات التي شنتها القوات الأمريكية خلال اليومين الماضيين في كل من سورية والعراق واليمن، والتي قيل إنها في إطار «الانتقام» لمقتل ثلاثة جنود أمريكيين الأسبوع الماضي، يمكن تشبيهها بضرب ترامب لمطار الشعيرات، والذي كان عمليةً شكليةً تمّ الإبلاغ عنها قبل القيام بها بوقتٍ كافٍ، وتلاها إعلان ترامب عن هزيمة داعش وعن قراره سحب القوات الأمريكية من سورية، والذي لم يتحقق في حينه نتيجة حسابات الدولة العميقة الأمريكية التي فرضت إرادتها على ترامب، كما كشف لاحقاً مبعوثه الخاص لسورية جيمس جيفري.
الاختلاف الآن، هو أنّ القوات الأمريكية تقع فعلياً تحت الضرب، وخسارتها لثلاثة جنود ليست سوى البداية، إنْ هي قررت البقاء؛ والكلام عن قدرة الردع الأمريكية هو كلامٌ يمكن أن يقنع فقط أولئك القابعين في الماضي، والذين يتوسدون الحلم الأمريكي ويربطون مصالحهم به. فالردع بالتعريف، هو أن تكون لديك القوة الكافية لمنع عدوك من التفكير حتى في مهاجمتك... أما أن يهاجمك ويدميك، ثم يهاجمك ويدميك، فإنّ الردع انتهى، وبقي أمامك إما أن تخوض حرباً واسعة النطاق مع ذلك العدو لتعيد الردع، أو أن تضبّ أغراضك وترحل.
والأمريكان يعلمون تماماً، أنّهم في سورية والعراق، وفي ظل ما يجري في غزة، ليسوا أمام سيناريو أفغانستان جديدة، بل هنالك احتمالٌ جدي أن يكونوا أمام سيناريو فيتنام جديدة... ولذا فحساباتهم شديدة التعقيد.
من جهة، هم يعلمون أنّ الاستمرار مكلف، ومكلفٌ جداً، وقد يكون كارثياً بكل المعاني. من جهة ثانية، هم يعلمون، وبالتجربة الملموسة مع الحوثيين وغير الحوثيين، أنّ محاولة استعادة الردع غير ممكنة دون حربٍ كبرى ليست لهم طاقة لخوضها. ومن جهة ثالثة، فإنهم يعلمون أيضاً أنّ انسحابهم لن يترك وراءه الثقب الأسود الذي يرغبون بتركه، لأنّ الكل يستعد منذ سنوات لهذا الانسحاب... والحل؟
يبدو أنّ الحل «المنطقي» الوحيد من وجهة النظر الأمريكية، هو إدارة عملية الانسحاب، ليس بالاعتماد على «عودة داعش» فحسب، بل وبالاعتماد بالدرجة الأولى على جملة اتفاقات ووعود كاذبة مع قوى محلية في سورية والعراق بالدرجة الأولى، ومع قوى إقليمية مجاورة، بحيث يعقب الانسحاب اضطراب واسع وتصادم واسع بين هذه القوى نفسها، يؤدي في المحصلة مهمة وجود الأمريكي؛ أي منع الاستقرار واستمرار الفوضى وتعميقها...
ما يعطي هذا الحل بعض الأسهم، ويجعله «منطقياً» إلى حدٍ ما، هو استعداد القوى المعادية للحل السياسي في سورية، والقوى المرتبطة مصلحياً بالأمريكي في العراق وفي المنطقة، وخاصة من المطبعين مع الكيان، استعدادهم لتأدية الأدوار الموكلة إليهم أمريكياً بشكلٍ كامل.
ورغم ذلك، فإنّ قوة هؤلاء مجتمعة، ومعهم داعش، ورغم قدرتها على فتح باب التخريب والدم مجدداً، إلا أنّها في نهاية المطاف قوة محدودة قابلة للتطويق، وربما الميزة الإيجابية التي ستنتج عن انخراطهم (الذي سيكون علنياً في حينه)، في الصف الأمريكي، هي أنّ هذا الانخراط سيكون آخر القرارات السياسية التي يأخذونها، لأنهم سيضعون أنفسهم في المعسكر الخاسر بشكل نهائي، ما سيسمح بتحولات أكثر جذرية وإيجابية في سورية نفسها وفي المنطقة، ولمصلحة شعوبها، وبالضد من مصلحة الكيان والمطبعين معه، والمتعلقين بحبال الأوهام في التطبيع معه...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1160