لأولئك الذين يهاجمون 2254 لأنه قرار أمم متحدة / مجلس أمن... (2)
نشرت قاسيون في العدد الماضي المادة الأولى من هذه السلسلة من المواد حول الهجوم الذي تشنّه بعض الشخصيات والقوى في سورية ضد القرار 2254 ومن خلال المحاججة القائلة بأن: «القرار صادر عن الأمم المتحدة والتي يسيطر عليها الغرب، ما يجعل كل ما يصدر عن هذه المؤسسة يصب في مصلحة الغرب، وفي الضد من مصلحة الشعوب، وما هذه القرارات إلا انعكاسات لاتفاقات لتوزيع «الكعكة» بين المراكز الإمبريالية».
مراجعة سريعة للمراحل التاريخية للأمم المتحدة
في المادة السابقة، تم عرض المراحل التي مرت بها الأمم المتحدة منذ تأسيسها في نهاية عام 1945 وحتى الآن، والتي يمكن تحديدها من خلال انعكاسات ميزان القوى الدولي القائم على الأمم المتحدة، والتي قد تكون أوضح تجلياتها هي القرارات التي تصدر عنها، وبالأخص قرارات مجلس الأمن التابع لها.
في هذا السياق، قلنا: إنه يمكن تقسيم عمر الأمم المتحدة منذ نشأتها وحتى الآن إلى ثلاث مراحل أساسية، وهي المرحلة الأولى: والتي امتدت منذ تأسيسها وحتى أواسط سبعينيات القرن الماضي تقريباً. والمرحلة الثانية: والتي تمتد منذ أواسط السبعينيات وحتى بدايات العقد الثاني من القرن الحالي. والمرحلة الثالثة: وهي المرحلة الحالية، ويمكن القول: إن أول «فيتو» روسي- صيني في مجلس الأمن بخصوص سورية في نهايات عام 2011 هو علامة بدايتها.
الأمم المتحدة من خلال العدسة السوريّة
الأمم المتحدة كمؤسسة هي بالتأكيد ليست خالية من الفساد، بل وربما تكون إحدى أفسد المؤسسات في العالم– الأمر الذي يحتاج إلى مادة مخصصة له– والكثير من الانتقادات حول الأمم المتحدة أيضاً محقّة، بما فيها أن توجهاتها من خلال القرارات التي صدرت عنها عكست إلى درجة كبيرة المراحل الثلاث، وبذلك كانت انعكاساً للقوى المهيمنة دولياً في كل مرحلة.
في السياق السوري، يمكن النظر إلى القرارات ذات الصلة في كل مرحلة وربطها بواقع التوازن الدولي في الوقت الذي صدرت فيه، وكما أسلفنا فإن القرارات المتعلقة بسورية منذ 2011 تشكّل مؤشراً مهما لبدء المرحلة الحالية والقرار 2254 بالتحديد يشكّل مؤشراً مهماً ضمن هذه المرحلة، حيث جرى في قسمها الأول: الانتقال من الغلبة الغربية-ا لأمريكية إلى ما يمكن تسميته بالتوازن الصفري المؤقت، الذي يتحرك بسرعة نحو غلبة جديدة ليس لروسيا والصين فحسب، بل وللجنوب العالمي بأسره؛ لعل أهم مؤشرات ذلك هو أنّ مرحلة ما بعد 2254 بما يخص الأمم المتحدة، هي مرحلة الضغط المتصاعد لإعادة هيكلة الأمم المتحدة، وإعادة هيكلة مجلس الأمن، باتجاه رفع وزن الجنوب العالمي فيه، بما يتماشى مع حجمه السكاني والاقتصادي والسياسي.
سنحصر النقاش في هذه المادة في القرارات المتعلقة بسورية منذ 2011، ولكن قبل ذلك من المهم التذكير بأن أول فيتو في مجلس الأمن أتى من الاتحاد السوفييتي، وكان ذلك في شباط 1946 حيث عقد مجلس الأمن اجتماعات على مدى ثلاثة أيام من 14 إلى 16 شباط لمناقشة «المسألة السورية واللبنانية»، واستخدم الاتحاد السوفييتي آنذاك حق النقض «الفيتو» في دعم القضية التي قدمتها سورية ولبنان بشأن انسحاب القوات البريطانية والفرنسية المتبقية على أراضيهما، الأمر الذي كان له دور أساسي في استقلال البلدين. ويمكن مراجعة مادة سابقة نشرتها قاسيون في نيسان 2021 حول الموضوع، بعنوان «استقلال سورية وقصة أول فيتو في مجلس الأمن الدولي».
منذ 2011 صدر عن مجلس الأمن عدد من القرارات ذات الصلة بالأزمة السوريّة، كان أولها: القرار 2042 (2012)، والذي ركز على مبادرة كوفي عنان، وطلب «الإذن بإيفاد فريق متقدم مؤلف من عدد في حدود ٣٠ مراقباً عسكرياً غير مسلح للتواصل مع الأطراف، والبدء في الإبلاغ عن تنفيذ وقف كامل للعنف المسلح... من جانب جميع الأطراف»، وكان مقترح النقاط الست للمبعوث الخاص المشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية مرفقاً بالقرار، وتبعته عدة قرارات ذات صلة من خلال إنشاء بعثة أممية لمراقبة تنفيذ المقترح، وتجديد ولايته عدة مرات.
كما صدرت عدة قرارات حول إيصال المساعدات الإنسانية الأممية إلى السوريين في كافة أنحاء سورية، بدءاً بالقرار 2139 (2014)، وتبعه عدد من القرارات ذات الصلة، ويمكن الاطلاع في مادة سابقة نشرتها قاسيون على هذه القرارات، وسبب فشل التمديد في تموز الماضي بعد نهاية المدة وفق القرار الأخير.
وكان هناك عدد من القرارات المتعلقة بموضوع السلاح الكيماوي، ولكن ربما أهمها كان: القرار 2118 (2013) والذي كان متعلقاً بموضوع نزع السلاح الكيماوي، ولكن تأتي أهمية هذا القرار أنه في مقدمته شدد على أنّ «الحل الوحيد للأزمة الراهنة في الجمهورية العربية السورية سيكون من خلال عملية سياسية شاملة بقيادة سورية على أساس بيان جنيف». ومن الجدير بالذكر أن جلسة مجلس الأمن التي صدر عنها هذا القرار كان الحضور فيها على مستوى وزراء الخارجية لمعظم الدول الأعضاء، وبدأ وزير الخارجية الروسي لافروف كلامه بالقول: بأن القرار «الذي اتخذ للتو، يتماشى تماماً مع الاتفاقات الروسية الأمريكية التي تم التوصل إليها في جنيف في 14 أيلول». ومن المهم التذكير هنا، أن ذلك اللقاء كان بعد أقل من شهر من تهديدات غربية بقيادة أمريكية لشن هجوم عسكري على سورية.
وأضاف لافروف لاحقاً حول القرار: «ما يشكّل أهمية خاصة هنا هو حقيقة أن القرار يحدد إطاراً للتسوية السياسية والدبلوماسية للأزمة السورية. ويعتمد، دون أي تحفظات، بيان جنيف المؤرخ 30 حزيران 2012... كقاعدة للتسوية. كما أنه يؤيد الإسراع في عقد مؤتمر دولي على هذا الأساس».
وتكلم وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، جون كيري، قائلاً: «أود أن أشكر وزير الخارجية لافروف على جهوده الشخصية وتعاونه الذي بدأ قبل جنيف، واستمر حتى هذا الأسبوع، حتى نتمكن من إيجاد أرضية مشتركة... كان هدفنا الأصلي هو إضعاف وردع قدرة الأسلحة الكيميائية السورية. وكان من الممكن أن يحقق ذلك خيار القوة العسكرية الذي أبقاه الرئيس أوباما على الطاولة، لكن قرار الليلة يحقق في الواقع ما هو أكثر من ذلك».
واعتبر الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، بان كي مون، القرار تاريخياً و«أول خبر يبعث على الأمل بشأن سورية منذ فترة طويلة».
القرار الذي تفوق في كونه «تاريخياً» كان القرار 2254 (2015)، والذي وضع خارطة طريق للحل السياسي في سورية، بما في ذلك العملية السياسية والبنود الأخرى المتعلقة بالوضع الإنساني، بما فيها ملفات المعتقلين واللاجئين والنازحين. وفي الجلسة التي تم خلالها تبني القرار بالإجماع حضرها وزيرا الخارجية لافروف وكيري، وأتى القرار تتويجاً لنتائج عمل المجموعة الدولية لدعم سورية (ISSG) والتي جمعت كافة الأطراف الدولية ذات الصلة بالملف السوري على طاولة واحدة.
في الجلسة، قال وزير الخارجية الروسي، لافروف: «يؤكد القرار المبادئ الأساسية للتسويات السياسية، وهي أن سورية يجب أن تظل دولة موحدة وعلمانية ومتعددة الطوائف والأعراق، ومكان ترحيب وأمان لكل قطاع من السكان، وأن الشعب السوري وحده له الحق في تقرير مستقبله. وهذا رد واضح على المحاولات الخارجية لفرض حلول على السوريين».
وأتى لاحقاً القرار 2268 (2016)، والذي أيد بياناً مشتركاً صدر عن الولايات المتحدة وروسيا في شباط 2016 بشأن وقف الأعمال العدائية، ومطالبة جميع الأطراف التي ينطبق عليها وقف الأعمال العدائية بالالتزام بواجباتها، كما طالب بالتنفيذ الكامل والفوري للقرار 2254. ومن الجدير بالذكر، أن هذا القرار أتى أيضاً نتيجة جهود المجموعة الدولية لدعم سورية. وفي الجلسة التي تم خلالها تبنّي القرار بالإجماع، قال المندوب الروسي في نهاية مداخلته: «تدعم روسيا باستمرار الحل السياسي للصراع في سورية. ومن خلال جهودنا المشتركة، أطلقنا عملية فيينا وأنشأنا المجموعة الدولية لدعم سورية. لقد أيدنا بعض أهم القرارات التأسيسية التي اتخذها مجلس الأمن بشأن هذا الصراع. ونعتقد أن الأساس الذي تم وضعه اليوم للتعاون البناء سيكون ضرورياً للنجاح على الطريق نحو الحل السلمي. وفي سياق أوسع، ينبغي لنا أن نناقش إمكانية وضع استراتيجية شاملة لتحقيق الاستقرار السياسي، وإعادة البناء الاجتماعي والاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. إن حل التحديات التي تواجهها المنطقة يجب أن يكون جماعياً. ولا تزال مقترحات الاتحاد الروسي لبدء تعاون واسع النطاق في هذا المجال صالحة كما كانت دائماً».
وربما من المهم هنا أيضاً ذكر القرار 2336 (2016)، وأهم ما ورد في هذا القرار هو تطلعه «إلى الاجتماع المقرر عقده في أستانا، كازاخستان، بين حكومة الجمهورية العربية السورية وممثلي المعارضة باعتباره جزءاً مهماً من العملية السياسية التي تقودها سورية، وخطوة هامة يتم القيام بها قبل استئناف المفاوضات برعاية الأمم المتحدة في جنيف».
«الفيتو» الروسي والصيني
منذ إنشاء مجلس الأمن ودخول الصين كعضو دائم فيه، كان هناك 14 «فيتو» روسياً- صينياً مزدوجاً، كان أولها: في عام 2007، وكان الثالث في تشرين الأول 2011، والذي كان أول «فيتو» مزدوج في الملف السوري، ومعظم الاستخدامات اللاحقة للـ «فيتو» المزدوج كانت في الملف السوري أيضاً.
قدمت عدد من الدول، بينها فرنسا وألمانيا وبريطانيا، في 4 تشرين الأول 2011 مشروع قرار حول الوضع في سورية، والقرار الذي لم يتم تبنيه نتيجة الـ «فيتو» الروسي- الصيني المزدوج، كانت فيه إدانة للانتهاكات في سورية، وتحذير للحكومة السورية من خيارات يمكن اتخاذها في حال تطلب الوضع ذلك، بما في ذلك التدابير المنصوص عليها في القسم الذي يسمح بفرض العقوبات من ميثاق الأمم المتحدة.
مندوب روسيا تكلم في الجلسة حول الأسباب التي دفعت إلى التصويت ضد مشروع القرار، قائلاً: «من الواضح أن نتيجة تصويت اليوم لا تعكس مسألة قبول الصياغة بقدر ما تعكس صراعاً في النهج السياسي»، وقال في هذا السياق: إن المنطق في المقاربة الروسية والصينية في جوهرها يقوم على «احترام السيادة الوطنية وسلامة أراضي سورية وكذلك مبدأ عدم التدخل، بما في ذلك التدخل العسكري في شؤونها؛ مبدأ وحدة الشعب السوري؛ الامتناع عن المواجهة؛ ودعوة الجميع إلى حوار عادل وشامل يهدف إلى تحقيق السلم الأهلي والوفاق الوطني من خلال إصلاح الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلاد»، وبالمقارنة فإن مشروع القرار الذي تم تقديمه «كان مبنياً على فلسفة مختلفة تماماً– فلسفة المواجهة».
كما تكلم حول النموذج الليبي وفشله، قائلاً: «لا يمكن النظر إلى الوضع في سورية في المجلس بمعزل عن التجربة الليبية. ويشعر المجتمع الدولي بالقلق إزاء التصريحات التي تفيد بأن الامتثال لقرارات مجلس الأمن بشأن ليبيا في تفسير الناتو، يعد نموذجاً للإجراءات المستقبلية التي سيتخذها الناتو في تنفيذ المسؤولية عن الحماية. ومن السهل أن نرى أن نموذج «الحامي الموحد» اليوم قد يحدث في سورية» وأضاف «من المهم للغاية أن نعرف كيف تم تنفيذ القرار وكيف تحوّل قرار مجلس الأمن إلى نقيضه».
ثم أضاف: «فيما يتعلق بسورية، نحن لسنا من المدافعين عن نظام الأسد. نحن نعتقد أن العنف غير مقبول، وندين قمع احتجاجات المتظاهرين السلميين.... يجب أن نأخذ في الاعتبار حقيقة أن عدداً كبيراً من السوريين لا يوافقون على مطلب التغيير السريع للنظام، ويفضلون رؤية تغييرات تدريجية، ويعتقدون أنه يجب تنفيذها مع الحفاظ على السلم الأهلي والوئام في البلاد. مثل هذه التغييرات، حتى لو تأخرت، ما زالت في بداية تنفيذها، ويجب ألا نغفل ذلك. إن أفضل طريقة لإنهاء الأزمة تتلخص في رفض إثارة المواجهة، وجمع كافة الأعضاء المسؤولين في المجتمع الدولي من أجل حث الأطراف على إطلاق عملية سياسية شاملة بين الأطراف السورية... نحن على استعداد لتطوير موقف جماعي- وبناء- حقيقي للمجتمع الدولي، وعدم التورط في إضفاء الشرعية على العقوبات الأحادية التي تم اعتمادها سابقاً، أو محاولات تغيير النظام بالعنف. إن الشعب السوري يستحق التغيير السلمي، بدعم من المجتمع الدولي».
بينما أضاف مندوب الصين حول الأسباب التي تكمن وراء التصويت ضد تبني مشروع القرار: «ترى الصين أن العقوبات أو التهديد بفرضها، في ظل الظروف الحالية، لا يساعد على حل المسألة السورية، بل قد يزيد الوضع تعقيداً. ومن المؤسف والمخيب للآمال أن هذا الشاغل الرئيس والمشروع لم يحظ بالاهتمام الواجب من جانب مقدمي مشروع القرار. وفي الوضع الحالي فإن مشروع القرار يركز فقط على ممارسة الضغوط على سورية، بل وحتى التهديد بفرض عقوبات. ولا يساعد على تسهيل تخفيف الوضع في سورية».
وبالمجمل، فإنّ المنهج الذي حاول الغرب اتباعه ضمن الأمم المتحدة منذ 2011، كان تكراراً لطريقة التعامل مع العراق وليبيا فيما سبق، وخاصة في مسألة العقوبات؛ حيث كان هنالك مسعىً مستمر باتجاهين، الأول: هو فرض عقوبات عبر الأمم المتحدة، ليس لأنّ الغرب عاجز عن فرض عقوباته من طرف واحد، فهو قادر على ذلك كما تبين بشكل واضح خلال كل السنوات التي تلت 2011، بل لأنه كان يسعى لتحميل الأثر الإنساني والسياسي المعروف والمتوقع مسبقاً للجميع، ولا يريد أن يتحملها منفرداً. ناهيك عن أنّ استخدام العقوبات كأداة ابتزاز ليس للحكومات، ولكن للشعوب، ليس بالأمر الجديد على السياسات الغربية.
الاتجاه الثاني: هو محاولة الحصول على شرعنة للتدخل العسكري الخارجي تحت البند السابع، أو بأي طريقة أخرى يمكن أن تؤدي إلى ذلك البند؛ أي ببساطة تكرار النموذج الليبي حرفياً....
يتبع...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1142