الثورة و«الوجبات السريعة»!
ليس هنالك تعريفٌ واضحٌ لما يُسمى «ثقافة الوجبات السريعة»، ومع ذلك فإنّ المتفق عليه على نطاقٍ واسع هو أنّ هذه «الثقافة» تعني في جوهرها التعامل مع مختلف أنواع القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية والطبية والعلمية وإلخ، بطرائق شديدة التبسيط، وبالأحرى بطرائق شديدة السطحية، وشديدة الاختزال في الوقت نفسه.
ربما أفضل الأمثلة على ذلك، والذي يعرفه الناس جميعاً، هو طريقة تناول مختلف القضايا على شبكات التواصل الاجتماعي؛ حيث يمكن لأيٍ كان، سواء كان عالماً أم جاهلاً، أن يبدي رأيه في أية قضية، مهما بلغت درجة تعقيدها، عبر منشور من 50 كلمة مثلاً. ويكتسب هذا الرأي «وزنه» و«مصداقيته» ليس من كونه حقيقياً أو واقعياً، بل من مقدار التفاعل معه، الإيجابي والسلبي على حدٍ سواء.
لمست الناس بشكل واضحٍ خطر هذه «الثقافة»، خلال مرحلة كورونا، حيث بات من الممكن لأي شخصٍ لا يملك أي معارف طبية، أن يفتي برأيه في أصل المرض وطرق علاجه، ناهيك عن الأبعاد السياسية والاجتماعية والثقافية له. الأمر نفسه ينطبق على المسائل الاجتماعية والسياسية، وربما هو أشد خطورة في هذه المجالات، وخاصة حين يجري تحويل عمليات تاريخية كبرى إلى «سندويشة همبرغر»، وصفتها بسيطة، ويمكن تناولها في دقائق، وينتهي الأمر...
الثورة بوصفها «وجبة سريعة»
ضمن هذا المنطق نفسه، وابتداءً من نهايات 2010، أي مع الحدث التونسي، ومن ثم المصري، جرى تعميم وصفة بسيطة وسريعة للثورة: (تنزل الناس إلى الشوارع بأعدادٍ كبيرة، تهتف بإسقاط النظام، يسقط النظام، تنجح الثورة).
بعد حوالي 13 عاماً- وحتى قبل ذلك بكثير- أصبح من الممكن اختبار مدى نجاح هذه الوصفة. فلننظر إلى تونس. هل سقط النظام فعلاً؟ من المؤكد أن رأس السلطة في تونس قد سقط، ولكن هل سقطت السلطة؟ هل سقط النظام؟
إذا نظرنا إلى ثلاثة محددات أساسية هي: 1- طريقة توزيع الثروة. 2- الحريات السياسية. 3- طبيعة العلاقات الدولية للدولة المعنية. سنجد أنه لم يتغير شيء تقريباً في كل هذه الاتجاهات؛ فلا الوضع الاقتصادي الاجتماعي للناس قد تحسن (بقيت السياسيات الليبرالية سائدة وبقي توزيع الثروة مائلاً بشكل فظيع لمصلحة أصحاب الثروات وضد مصالح عموم الناس)، ولا الحريات السياسية تحسنت (فحتى الفئات والأحزاب والنقابات التي لعبت دوراً مهماً في 2010-2011، تم تقييدها إلى حدٍ بعيد بما في ذلك دستورياً)، ولا العلاقات الدولية تغيرت بشكل جدي (حيث ما تزال كفة العلاقات مع الغرب، والعلاقات ذات الطابع التبعي اقتصادياً، هي الراجحة في تونس كما كانت في السابق). بل وإنّ حجم التغيرات التي جرت ربما لا يتجاوز حجم التغيرات التي كان من الممكن أن يقوم بها النظام «السابق» نفسه في إطار التكيّف الطبيعي مع المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية.
وإذا كان المثال التونسي يشتمل على بعض التغيرات الجزئية التي قد توحي بأنّ هنالك تغييراً ما قد جرى، فإنّ المثال المصري أكثر وضوحاً، وربما فجاجةً؛ فهنالك لم تقف الأمور عند حدود بقاء النظام نفسه في الجوهر (أي وفقاً للمحددات الثلاثة التي أشرنا إليها)، بل يمكن القول: إنّ السلطة العميقة الموجودة داخل جهاز الدولة بالدرجة الأولى، قد بقيت هي نفسها دون أدنى تغيير تقريباً، والتغيير الذي جرى بالشخوص لا يتعدى كونه تغييراً سطحياً خارجياً لا يمس الجوهر بأي شكلٍ من الأشكال.
إذا تركنا المثال السوري جانباً، وهو مثال كغيره، شديد التعقيد، تبقى لدينا الأمثلة الليبية واليمنية والسودانية. في هذه الأمثلة، تم تحطيم النظام والسلطة والدولة ككل على حد سواء. وبعد هذا كلّه، فإنّ الحرب ما تزال مستمرة، وأوضاع الناس من سيئٍ إلى أسوأ في كل المجالات، الاقتصادية الاجتماعية، والسياسية الديمقراطية، والوطنية العامة، وكذلك الثقافية والصحية والتعليمية وإلخ.
هذا المشهد يسمح للبعض بالقفز فوراً إلى الاستنتاج القائل بأنّ «ظاهرة الربيع العربي بأسرها هي ظاهرة كارثية، وهي مؤامرة عدوانية على الأوطان...إلخ». هذا الاستنتاج ينتمي هو الآخر إلى فئة «الوجبات السريعة»، ووصفة الهمبرغر التي يقدمها تتمثل بالتالي: «أعداء الوطن يتآمرون عليه، يحرضون الناس ضد الأنظمة، يدعمونهم إعلامياً ومالياً وسياسياً، تحدث الحرب، تتدمر الأوطان».
الحقيقة تكمن في مكان آخر بطبيعة الحال؛ فحركة الناس، وخاصة حين تكون بعشرات ومئات الآلاف، وبالملايين، لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن تحدث نتيجة فعلٍ «تآمري» بالمعنى البسيط للكلمة؛ بل تحدث نتيجة تراكم المشكلات وتراكم الظلم والقهر والفقر وفقدان الثقة وفقدان الأمل. بعد ذلك من الطبيعي والمتوقع أن تتدخل القوى الخارجية والداخلية لمحاولة ركوب ظهر الناس لتحقيق أهدافها هي وليس أهداف الناس، يساعدها في ذلك ضعف الخبرة السياسية لمجتمعات تم تحريم العمل السياسي فيها عملياً طوال عقودٍ متتالية.
عودٌ على بدء
هذه الأيام، ومع بدايات موجة جديدة من الحركة الشعبية في سورية، يسعى أعداء هذا الحركة إلى حشرها مرة جديدة ضمن وصفة الهمبرغر ذاتها؛ (تنزل الناس إلى الشوارع، تهتف بسقوط النظام، يسقط النظام، تنتصر الثورة).
البهارات الضرورية لهذه الوصفة نفسها، سابقاً والآن، تتمثل بالتالي: (ضرورة الحصول على دعم دولي، يمكن أن يكون عسكرياً بشكل مباشر أو غير مباشر). وهذا المكون الأخير بالذات، أي الدعم العسكري بات أكثر تمويهاً وتقنّعاً، لأنّ الناس بتجربتها المرة تصر على السلمية حتى النهاية، وتنظر بعين الريبة إلى أي طرح يتحدث عن العسكرة بأي شكل كان، من قريب أو من بعيد (على سبيل المثال: يحاول البعض من جديد تمرير فكرة منطقة حظر جوي يفرضها الأمريكي، وتلقى رفضاً واسعاً بين الناس لأنهم يعلمون أنّ المسألة مجرد خديعة من جهة، ولأنها تعني بالضرورة تجديد الحرب، وفتح باب العنف والدمار الإضافيين).
هذا المثال ليس الوحيد ضمن الوصفة السريعة للثورة، بل ومعه تأتي أيضاً الأحاديث عن «هيئة سياسية» تمثل الحراك، شرط أن يجري فرضها عليه من فوق... إلى غير ذلك من المكونات الضرورية.
المراقب اليقظ لما يجري، وخاصة من موقع الحرص على الناس وعلى تطور وتوسع حركتها باتجاه تحقيق التغيير المطلوب، لا يمكن أن يفوته أنّ توسع صفوف الحركة ما يزال بطيئاً، وربما بطيئاً جداً، سواء في منطقة بعينها، أو على مستوى البلاد. وهذا الأمر يحتاج إلى تفسيرات جادة وليس إلى أفكارٍ سطحية من نمط تصنيف الناس بين شجعان وجبناء، وبين أحراء وعبيد؛ فقسمٌ كبير من الذين لم يشاركوا بعد، هو أيضاً راغب بالتغيير، ولكنّ لديه ملاحظاته على «وصفة الهمبرغر» التي يجري تقديمها وتسويقها، ولديه ملاحظاته على أفكارٍ بعينها تجري محاولة الترويج لها. ولذا ينبغي الحوار مع غير المشتركين دون تعالٍ ودون تكبر، ومن موقع الأخوة والمصلحة المشتركة لأبناء الـ90% من السوريين، وصولاً إلى القواسم الأساسية المشتركة، التي يمكن أن تشكل أساساً لانطلاق كامل للموجة الجديدة من الحركة الشعبية التي لم تبدأ بشكل كامل بعد، وكل ما نراه حتى اللحظة هو إرهاصاتها الأولى فحسب.
بالمختصر، ينبغي العمل استناداً إلى نفسٍ طويل، وإصرار وتعقل، وعدم التسليم للحلول السحرية التي يروجها البعض من هنا أو من هناك، على طريقة «قربت» و«خلصت» المعروفة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1142