لأولئك الذين يهاجمون 2254 لأنه قرار أمم متحدة/ مجلس أمن... (1)

لأولئك الذين يهاجمون 2254 لأنه قرار أمم متحدة/ مجلس أمن... (1)

تقف ضد تنفيذ القرار 2254 جهات متعددة، داخل سورية وخارجها. بينها من يعلن عداءه للقرار وبينها من يكتمه. على رأس القوى التي تعادي تنفيذ القرار، القوى الغربية ومعها الكيان الصهيوني، والذين يسلكون النهج نفسه الذي سلكوه ضد اتفاقات مينسك التي صادق عليها مجلس الأمن الدولي، حيث استمروا لسنوات طويلة بالادعاء أنهم موافقون عليه ويدفعون باتجاه تنفيذه، ولكن أظهرت الوقائع، وباعترافاتهم هم أنفسهم- كما جاء في اعترافات ميركل على سبيل المثال لا الحصر- أنهم كانوا طوال الوقت معادين لتنفيذ هذه الاتفاقات.

في هذه السلسلة من المواد، نناقش بشيء من التفصيل الهجوم العلني الذي تشنّه شخصيات وقوى في الداخل السوري ضد 2254، مستخدمةً المحاججة التالية: «القرار 2254 صادر عن الأمم المتحدة، وهي مؤسسة مُسيطرٌ عليها غربياً، وبالتالي، فكل قراراتها هي ضد مصلحة الشعوب»، بل ويذهب بعض هذا البعض أبعد من ذلك، فيقول: «هذه القرارات هي قرارات تقاسم إمبريالي بين المراكز الإمبريالية»! هذه المحاججة الأخيرة على وجه الخصوص هي الأكثر بؤساً، لأنها إذ تتلطى باللغة الماركسية (من خلال الحديث عن الإمبريالية والتقاسم الإمبريالي)، فإنها في واقع الأمر تستخدمها بالضبط بالطريقة نفسها التي يستخدمها بها اليسار الصهيوني التروتسكي، وضمناً أمثال برنار هنري ليفي. هذا النمط من «اليسار» يوصّف كلاً من روسيا والصين بأنهما إمبرياليتان، وبأنّ الصراع الجاري في العالم اليوم هو بين «مراكز إمبريالية»، ويستخدم هذا «التبرير النظري» كي يغطي تحالفه الفعلي مع الصهاينة ومع الحكومات الغربية في سياساتها وسلوكها على المستوى العالمي... ربما من النافع في هذا السياق التذكير بأنّ أصحاب هذه المقولات نفسها هم من أشد الداعمين للأجندات السياسية لـ «LGBT» (المثلية والتحول الجنسي إلخ)، والتي باتت إحدى أدوات تفتيت المجتمعات البشرية، وإحدى أدوات تنفيذ مشاريع النخبة العالمية، ابتداءً من نادي روما ووصولاً إلى منتدى دافوس...

عصبة الأمم والأمم المتحدة

نقطة البداية في فهم دور الأمم المتحدة، هي التمييز بينها وبين عصبة الأمم؛ ذلك أنّ البعض يمسخ التاريخ عبر اعتبار الأمم المتحدة مجرد صيغة محدّثة لعصبة الأمم، أو مجرد خلفٍ لتلك العصبة.
عصبة الأمم التي تأسست رسمياً عام 1920 كانت عبارةً عن نادٍ لقوى الاستعمار، تحاول ضمنه إدارة صراعاتها بما يخدم مصالحها وبالضد تماماً من مصالح الشعوب في كل العالم، في دولها وفي الدول الأخرى على حدٍ سواء.
وأهم الأدلة التاريخية على فشل هذه العصبة/ العصابة، هو اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ حيث أنّ التوحش الإمبريالي لم يجد مخرجاً من أزمة الكساد العظيم 1929 إلا بمقتلة عالمية راح ضحيتها ما يصل إلى 60 مليون إنسان.
الأمم المتحدة بدورها، والتي تشكلت رسمياً نهاية عام 1945، كانت تعبيراً عن توازنٍ دولي جديد، نتج عن انتصار الاتحاد السوفييتي على النازية المدعومة غربياً، وكذلك عن النشاط المتصاعد لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث. بهذا المعنى فإنّ الأمم المتحدة، وطوال تاريخها، كانت تضم جنباً إلى جنب، كلاً من القوى المدافعة عن مصالح الاستعمار (بشكليه القديم والحديث)، والقوى المعارضة لمصالح الاستعمار. وأما الأدوار التي لعبتها عبر تاريخها، فقد كانت تعبيراً عن محصلة ميزان القوى بين هذين النقيضين في كل فترة زمنية من فترات وجودها.

المراحل التاريخية للأمم المتحدة

لذا، فإنّه يمكن تقسيم المراحل التي مرت بها الأمم المتحدة منذ تأسيسها وحتى الآن ضمن ثلاث حقبٍ أساسية، الأولى: هي منذ تأسيسها وحتى أواسط السبعينيات تقريباً. والثانية: منذ أواسط السبعينيات وحتى بدايات العقد الثاني من القرن الحالي. والثالثة: هي التي نعيشها حالياً، ويمكن القول: إنّ أول فيتو روسي صيني بخصوص سورية نهايات 2011 هو علامة بدايتها.

أما المرحلة الأولى: فقد غلبت فيها القرارات التي صبت في مصالح الشعوب، وخاصة في إطار التحرر من الاستعمار. ينبغي التذكر دائماً أنّ أول فيتو في مجلس الأمن الدولي على الإطلاق كان الفيتو السوفييتي ضد مشروع قرار غربي يسمح لفرنسا بتمديد وجود قواتها في سورية، ثم بالاحتفاظ بامتيازات مقابل جلائها. منع الفيتو السوفييتي ذلك، وتم طرد الفرنسي دون امتيازات بقوة النضال السوري من أجل التحرر، وبقوة التوازن الدولي الجديد، ودور الاتحاد السوفييتي فيه. وضمن هذه المرحلة نفسها توجد عشرات القرارات والفيتوهات المشابهة التي دعمت التخلص من الاستعمار. وضمنها أيضاً صدرت القرارات 242 و338 وقرارات أخرى مشابهة ضد الاحتلال الصهيوني.

المرحلة الثانية: هي المرحلة الأسوأ التي كان تراجع المعسكر الاشتراكي فيها قد بدأ بالتبلور والتوضح. وهذه نفسها قسمان، الأول: كانت فيه الأمم المتحدة مؤسسة مشلولة تماماً تكاد لا تحل ولا تربط في أي شأن من الشؤون... وهذا من طبيعة الأمور، فالانتقال من حالة كانت الغلبة فيها ضمن الأمم المتحدة هي للمعسكر الاشتراكي ولدول عدم الانحياز باتجاه غلبةٍ غربية استعمارية، لا بد أن يمر مؤقتاً في حالة شبه صفرية. القسم الثاني: هو ذاك الذي تلا انهيار الاتحاد السوفييتي وصولاً إلى القرار الخاص بليبيا عام 2011، والذي يمكن اعتباره آخر قرارات هذه المرحلة. هذه المرحلة كانت ترجمة لسيادة القطب الواحد الأمريكي، والتي تحولت خلالها الأمم المتحدة إلى غطاءٍ للإرادة الأمريكية بالدرجة الأولى، والغربية بالدرجة الثانية.

المرحلة الثالثة: هي التي بدأت مع الفيتو الروسي الصيني المزدوج بخصوص سورية نهاية 2011، ويمكن القول أيضاً: إنها قسمان، قسمها الأول: ينتهي مع القرار 2254 أيضاً بخصوص سورية، وهو القسم الصفري الذي كان يجري ضمنه الانتقال من الغلبة الأمريكية، باتجاه الغلبة الروسية الصينية، ومعهما عدد كبير من دول الجنوب العالمي الذين باتوا ممثلين جزئياً في بريكس وفي غيرها من المنتديات الجديدة. وقسمها الثاني: هو الذي بدأ مع 2254 وما يزال مستمراً باتجاه إعادة هيكلة الأمم المتحدة ومجلس الأمن لرفع تمثيل دول الجنوب العالمي ضمنه، وخاصة أمريكا اللاتينية وإفريقيا، اللتان بقيتا مستبعدتين من التمثيل في مجلس الأمن طوال عمرها السابق.

الانتقائية والانتهازية!

الأمم المتحدة ربما تكون واحدةً من أفسد المؤسسات في العالم، وفيها من المشكلات والمصائب ما يتطلب تغييرات جذرية ضمنها. ولكنّ هذا لا يعني بحالٍ من الأحوال التعامل معها بطريقة جامدة، دون النظر إلى الحركة الواقعية الجارية؛ فعملية إعادة هيكلة الأمم المتحدة هي عملية جارية على قدم وساق، رغم كل الممانعة والعناد الغربيين، وهذا الأمر نتيجة طبيعية من نتائج تحولات ميزان القوى على المستوى الدولي.
ولذا، فإنّ النظر بطريقة جامدة للأمم المتحدة وما يصدر عنها، ودون أخذ التغيرات التاريخية بعين الاعتبار، هو نظر انتقائي وانتهازي، يضع النتيجة التي يريدها بشكل مسبق ويبدأ بعد ذلك بتدبيج الذرائع والأسباب التي تبرر تلك النتيجة.
في الحالة الملموسة الخاصة بـ2254، فإنّ أولئك الذين يعادون الانتقال السياسي في سورية، ويعادون التغيير، ويعادون حق الشعب السوري في تقرير مصيره بنفسه، ويصرون على استمرار السياسات الليبرالية الناهبة (حتى لو بحت أصواتهم في الحديث ضدها نفاقاً وزوراً، فهم يؤيدونها عملياً بإصرارهم على استمرار المسؤولين عن فرضها).. هؤلاء جميعاً يلجؤون إلى شتى أنواع الذرائع لتبرير عدائهم لهذا القرار، وبينها الحديث غير التاريخي وغير العلمي في توصيف الأمم المتحدة ودورها.

لقراءة الجزء الثاني من المادة : لأولئك الذين يهاجمون 2254 لأنه قرار أمم متحدة / مجلس أمن... (2)

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1141
آخر تعديل على السبت, 10 شباط/فبراير 2024 09:50