استقلال سورية وقصة أول فيتو في مجلس الأمن الدولي
انطلقت الأمم المتحدة رسمياً في 24 تشرين الأول 1945 عندما صادق على انطلاقها الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن- الصين وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي- بالإضافة إلى غالبية الأعضاء الـ 46 الآخرين الموقعين على ميثاق الأمم المتحدة. اجتمع مجلس الأمن لأول مرة في 17 كانون الثاني 1946 في لندن. وبعد أقل من شهر، عقد مجلس الأمن اجتماعات امتدت إلى ثلاثة أيام من 14 إلى 16 شباط/ فبراير 1946، كان خلالها الموضوع المطروح على الطاولة هو «المسألة السورية واللبنانية». في ذلك الوقت، استخدم الاتحاد السوفييتي حق النقض (الفيتو) لأول مرة في دعم القضية التي قدمتها سورية ولبنان بشأن انسحاب القوات البريطانية والفرنسية المتبقية على أراضيهما.
في 14 شباط 1946، بدأ مجلس الأمن اجتماعه التاسع عشر في الساعة 11:30 صباحاً في لندن، إنجلترا. حضر الاجتماع ممثلون عن: أستراليا، البرازيل، الصين، مصر، فرنسا، المكسيك، هولندا، بولندا، اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية. كان على جدول الأعمال رسالة مؤرخة في 4 شباط 1946 من رئيسي الوفدين اللبناني والسوري إلى الأمين العام. ودعي ممثلا لبنان وسورية لحضور الاجتماع.
ولخص ممثل الاتحاد السوفييتي، فيشينسكي، النقاط الرئيسية الثلاث للرسالة على النحو التالي: «ينص هذا الاتصال، في المقام الأول: على أن وجود القوات البريطانية والفرنسية في لبنان وسورية يعد انتهاكاً لسيادة هاتين الدولتين، وثانياً: أن الماضي أظهر أن وجود هذه القوات كان تهديداً للسلام والأمن. الاستنتاج الذي تم التوصل إليه هو طلب إجلاء القوات المعنية».
ثم أتيحت الفرصة لممثلي لبنان وسورية لتقديم حججهما. بدأ المندوب اللبناني وشدد على أنهما دولتان ذاتا سيادة، تريان أن وجود القوات الفرنسية والبريطانية على أراضيهما غير شرعي لأنه لا تقتضيه حالة الحرب، وليس مبرراً بوجود أية اتفاقيات أو معاهدات أو تفاهمات. وأشار إلى أن وجود القوات «يشكل تهديداً دائماً وإمكانية التدخل في الشؤون الداخلية للبنان وسورية». وحث مجلس الأمن على «اتخاذ قرار يدعو إلى الانسحاب الفوري والكامل والمتزامن للقوات الأجنبية المتمركزة حالياً على أراضينا».
ثم أضاف ممثل سورية، فارس الخوري، بعض الملاحظات، أشار فيها إلى أنّ اتفاق 13 كانون الأول 1945 بين فرنسا والمملكة المتحدة بشأن الاحتفاظ بقوات في سورية ولبنان لـ «ضمان الأمن» هناك تم دون مشاركة لبنان وسورية، وأنه لم يحدّد موعداً أو شروطاً للانسحاب. ثم أضاف: «أمنُ من الذي تنوي الأطراف ضمانه؟ لا ينبغي أن يكون هناك شك في أن الأمن الداخلي هو مسؤولية الحكومتين السورية واللبنانية فقط. لا شك في أن الأمن الخارجي هو أيضاً مسؤولية الحكومتين السورية واللبنانية... انتهت الحرب وطردت القوات النازية والفاشية، وسورية ولبنان محاطتان بدول أعضاء في الأمم المتحدة. ما الذي يمكن أن يخوّل أية حكومة أخرى تولي دور الضامن للأمن في تلك المنطقة؟» ثم كرر دعوة المندوب اللبناني إلى المجلس لاتخاذ قرار بالانسحاب.
وأضاف ممثلو فرنسا والمملكة المتحدة ملاحظاتهم، وأبرزوا خلال المناقشات كل «الأشياء الرائعة» التي قاموا بها للمساعدة في الحفاظ على الأمن في العالم، وخاصة في الشرق الأوسط، و«كرمهم» في دعم استقلال سورية ولبنان، بما في ذلك قبولهم بالاستقلال... وضمن الأمم المتحدة، لم يكن ممكناً لفرنسا وبريطانيا أن تجادلا بأنهما لا ينبغي أن تسحبا قواتهما من سورية ولبنان، لكنهما استمرتا في تقديم الحجج التي توحي بشكل غير مباشر بأن الأمر لم يكن مستعجلاً، أو حتى نزاعاً يتطلب قراراً من المجلس.
وناقش أعضاء مجلس الأمن الموضوع، وأفضل مسار للعمل بما في ذلك دور المجلس في الموضوع. ومع ذلك، لم يكن ممكناً لأي من أعضاء المجلس أن يختلف حقاً مع المفهوم العام القائل بأنه من غير المقبول وجود القوات الأجنبية في أراضي دولة ذات سيادة دون موافقة تلك الدولة. وهكذا، اعترف جميع الأعضاء بوجوب الانسحاب.
وفي الحالات التي تباينت فيها وجهات النظر فيما يتعلق بما ينبغي أن يكون عليه قرار المجلس، ركزت المقترحات الرئيسية بشكل أكثر تحديداً على البلدان الأربعة المعنية بإجراء مفاوضات من أجل تحقيق الانسحاب وإبلاغ المجلس بالنتيجة. كانت هذه «المفاوضات» موضوع غالبية المناقشات، حيث وقفت غالبية الدول وراء اقتراح أمريكي لم يكن من الواضح فيه ما هي المفاوضات، بينما أصرت مجموعة أصغر على أن هذه المفاوضات يجب أن تقتصر على الجوانب الفنية وإجراءات إخلاء القوات.
ملكيٌ أكثر من الملك!
كان اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية هو الأبرز والأكثر صرامة في المجموعة الثانية، وبدعم من كل من مصر والمكسيك، حيث قدم ممثلوهم مقترحات محددة للغاية بشأن هذه القضية. صرح ممثل الاتحاد السوفييتي، فيشينسكي، بوضوح شديد منذ البداية: «المخرج بسيط للغاية: لا مزيد من المفاوضات من أي نوع»، وأشار إلى أن المجلس يجب أن يتبنى قراراً يدعو إلى الإخلاء الفوري.
بأسلوبهم المعتاد الذي لم يتغير حقاً منذ عام 1946، حاول ممثلو الأعضاء (معظمهم من الدول الغربية) الأقرب إلى الموقف الأمريكي، التلاعب باللغة وإبقاءها غامضة، وجادلوا بأن اللغة تشير إلى هذا وذاك. بل وصل الأمر إلى النقطة التي بدا فيها ممثلو سورية ولبنان مستعدين لقبول لغة غامضة إلى حد ما، بالاعتماد على ما قيل شفهياً.
هنا، اعترض فيشينسكي وأصر على أن أي قرار يجب أن «يوصي بالانسحاب الفوري والمتزامن للقوات وأن الدول الأربع المعنية يجب أن تشرع في التفاوض في التفاصيل الفنية للإجلاء والتاريخ الذي يجب أن يتم به». وأصر على أن اللغة يجب أن تكون واضحة حتى لا تترك مجالاً لتفسيرها على أنها مفاوضات حول ما إذا كان الإخلاء يجب أن يحدث أم لا.
دفع هذا المندوب الفرنسي ليقول: «السيد فيشينسكي أصبح أكثر ملكية من الملك!»
يتضح من المناقشات التي جرت أن المجلس انقسم إلى مجموعتين، الأولى: هي القوى الإمبريالية التي كانت تشعر بالمرارة لفقدان الامتيازات التي كانت لديها وتحاول في إطار النظام العالمي الجديد وباستخدام الأدوات الجديدة أن تحافظ على الامتيازات نفسها التي كانت لديها من قبل. المجموعة الثانية: كانت المعسكر الاشتراكي الناشئ الجديد، بقيادة الاتحاد السوفييتي وبدعم من ضحايا الإمبريالية إلى حد ما، الذين وجدوا في الاتحاد السوفييتي حليفاً في هذا النظام العالمي الجديد.
في النهاية، كانت هناك ثلاثة مقترحات رئيسية من المكسيك ومصر- كان هذان الاقتراحان متسقين مع موقف الاتحاد السوفييتي- وواحد من الولايات المتحدة، مما أبقى موضوع المفاوضات غامضاً. الاقتراحان الأولان لم يحصلا على أصوات كافية. في محاولة أخيرة للتوصل إلى قرار مقبول، اقترح فيشينسكي بعض التعديلات على الاقتراح الأمريكي، ولم تحصل جميعها على أصوات كافية.
ثم طُرح الاقتراح الأمريكي للتصويت، وحصل على سبعة أصوات، مما دفع رئيس الاجتماع- ممثل أستراليا- للإعلان عن تنفيذ القرار. هنا، تدخل فيسشنسكي وأشار إلى أن القرار يتطلب «تصويتاً إيجابياً من سبعة أعضاء بما في ذلك الأصوات المتوافقة للأعضاء الدائمين»، وهو ما لم يتم الوفاء به هنا، حيث صوت الاتحاد السوفييتي ضد الاقتراح.
كان هذا أول فيتو في تاريخ مجلس الأمن!
في حين أن مجلس الأمن لم يتخذ قراراً بشأن إجلاء القوات البريطانية والفرنسية من سورية ولبنان، لم يستطع أي من أعضاء المجلس بما في ذلك المملكة المتحدة وفرنسا أن ينكر أن الانسحاب يجب أن يتم. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن لأي من الأعضاء أن يختلف مع الفكرة القائلة بأن وجود القوات الأجنبية في دولة ذات سيادة أمر غير مقبول في غياب اتفاق أو طلب من الدولة. ونعتقد أن هذا لعب دوراً مهماً في إجلاء آخر قوات الاحتلال من سورية ولبنان بعد شهرين فقط.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1014