افتتاحية قاسيون 1132: ساروجة، ومحاولة اغتيال روح السوريين!

هنالك من يختصر المسألة لحدود «الفساد الإداري» و«الإهمال»، أو «الكارثة الطبيعية»، أو يذهب أبعد قليلاً فيتحدث عن مصالح تجارية لأثرياء الحرب الذين تتناسب أرباحهم و«ثقافتهم»، مع دمشق أخرى وسورية أخرى، بلا تاريخ وبلا هوية وبلا ملامح.

البعض الآخر، ينسج الحكايا متعمداً أو منساقاً مع الدعاية، حول «تدخل إيراني» و«تشييعٍ» وإلى ما هنالك، وهذا بعيد كل البعد عن الواقع، على الأقل في المثال الملموس الخاص بساروجة. وهذا الكلام هو بالجوهر دخان كثيف المطلوب منه التغطية على أصحاب المصلحة الحقيقيين في الحريق، والذين تتصل جذورهم «الاقتصادية-الاجتماعية» من أولئك الذين جروا عربة غورو مروراً بإيكوشار الفرنسي، وعبوراً على تجار الحرب وأثريائها، ووصولاً إلى الدأب الصهيوني المستمر، سابقاً والآن، على إنهاء سورية مرة وإلى الأبد.

فلننظر للمسألة من الزاوية الأوسع... إنّ ما جرى ويجري في سورية ينطبق في مراحله على الطريقة النيوليبرالية في اغتيال الدول والشعوب. هذه الطريقة تمر بثلاث مراحل أساسية.

أولاً: يجري القضاء بالتدريج على جهاز الدولة المدني عبر القضاء على وظائفه الاقتصادية الاجتماعية، وهذه تتم وشارفت على نهاياتها عبر اللبرلة والخصخصة ورفع الدعم، بحيث يفقد جهاز الدولة دوره الاجتماعي المتعلق بمصالح غالبية الناس، ويبقى دوره «الاجتماعي- القمعي» الذي يصب في مصالح القلة المتبطرة الفاسدة الناهبة، والمرتبطة عضوياً بالغرب، وبغض النظر عما تقوله من شعارات.

ثانياً: يجري القضاء بالتدريج على الوظيفة العسكرية لجهاز الدولة، عبر إنهاء «حصرية السلاح»، وتكريس عدد من «الحصريات» محلها، وهو ما نراه قد أنجز بشكل ملموس إلى حد غير قليل.

ثالثاً: وبعد هذا وذاك يكون قد تم من حيث المبدأ اغتيال جهاز الدولة، وبقي أمام اغتيال الدولة نفسها عائق واحد، هو روح وثقافة الشعب، وبتعبير آخر النواة الثقافية للمجتمع. ولحل هذه القضية يظن أصحاب مشروع اغتيال سورية أنّ بوابة «إعادة الإعمار» هي البوابة الأساسية لهذا العمل.

ليس هذا بغريب؛ فالنظر في التجربتين اللبنانية والعراقية، وغيرهما، يسمح برؤية التطبيق العملي لهذا التمرحل؛ مثال سوليدير اللبناني كافٍ وحده لاستيعاب الصورة الكاملة للمسألة.

منع اغتيال سورية وشعبها، بات يمر حكماً بحل سياسي حقيقي على أساس القرار 2254 يؤمّن الإرادة السياسية اللازمة لحماية سورية وأهلها؛ لأنّ أصحاب هذه الإرادة هم الـ 90% من السوريين، الذين يدعي كل من النظام والمعارضة تمثيلهم، في حين أنهم لم يُسألوا عن رأيهم بشكل ديمقراطي حقيقي منذ عقود، والحل السياسي بما يعنيه من حق السوريين في تقرير مصيرهم بأنفسهم هو البوابة الأساسية ليس لإيقاف التدمير فقط، بل ولإطلاق العنان لأصوات السوريين المحبوسة في صدورهم.

رغم حجم الفاجعة، وما تُلحِقه بروح سورية والسوريين من ألم، إلّا أنّ النظر بتمعن في تاريخ دمشق الطويل، وفي تاريخ سورية ككل، يكشف مدى ضحالة وغرور أولئك (ممن في الخارج وعلى رأسهم الصهاينة، وممن في الداخل وعلى رأسهم الفاسدون الكبار والمتشددون)، الذين يظنون أن حريقاً هنا وحريقاً هناك، ومشروعاً هنا ومشروعاً هناك، يمكنه أن يغتال روح الشام وروح أهلها... والحق أنهم لو تمكنوا من إحراق دمشق بأسرها، لا حياً واحداً من أحيائها، لخرجت عليهم المدينة حيةً من جديد، وحولتهم إلى هامش على سطر من سطور تاريخها، وهذا ما جرى فعلاً مع كثرٍ آخرين، مروا وابتلعتهم الأزمنة...

(English version)