ساروجة: إنْ لم تكونوا أنتم من حفر الحفرة فلماذا تحملون المجرفة!

ساروجة: إنْ لم تكونوا أنتم من حفر الحفرة فلماذا تحملون المجرفة!

شارفت موجة التعاطف مع حي ساروجة العريق بعد الحريق المأساوي الذي التهم أجزاءً مهمة من بقاياه على الانتهاء، شأنها في ذلك شأن معظم القضايا الكبرى التي يرى البعض مصلحة في حصرها في أضيق إطار ممكن وتصويرها كحدث محزن طارئ وغير متوقع. لذلك يفتح باب العزاء للحي الدمشقي المغدور وبعد ثلاثة أيام تعود الحياة كما لو أن شيئاً لم يكن!

في عام 2014 نشرت جريدة قاسيون مقالاً بعنوان (قصر أمير الحج.. قبل أن يصبح ركاماً) وربما لن يصدق البعض الصور التي التقطت في حينه لقصر أمير الحج الذي بدا في بعض أجزائه خرابةً متداعيةً بأسقفٍ منهارةٍ، أو على وشك الانهيار.

القصة المأساوية التي رواها أحد قاطني البيت وأحد ورثته الكُثُر، عند زيارة البيت كانت قاسية، لكنها لم تكن تختلف كثيراً عن قصص تروى حول عدد كبير من معالم وآثار المدينة القديمة؛ فالقصر الذي كان يحافظ رغم وضعه على كثير من عناصره الجمالية، كان يتجه إلى حتفه، ولم يكن من الممكن توقع نهاية مختلفة لهذا المعلم التاريخي والمعماري، وخصوصاً في ظل الإهمال المتراكم للمدينة القديمة. لكن وما إن شبّت النيران في الحي المقسّم، ودمّرت مساحة كبيرة إلى جانب قصر اليوسف، صاح البعض مذعورين، تحديداً ﻷن الحريق أصبح مناسبة لتداول القصص عن تاريخ الحي وبيوته وأهله، وشعر الناس بالغبن وبحجم خسارتهم، وكان لابد في لحظة كهذه من طرح الأسئلة المشروعة: هل كان الحريق متعمداً؟ هل عمل البعض في الخفاء لتحويل هذا الحي إلى أسهم عقارية يجري طرحها للاكتتاب ليسيطر عليها وبشكل مفاجئ حيتان السوق؟ أم أن المسألة كانت حادثاً عرضياً في عاصمتنا، التي لم يعد جهاز الدولة فيها قادراً على احتواء حرائق في أحيائها، وذلك رغم تفاني رجال الإطفاء ضمن إمكانياتهم المحدودة؟

1132-6

هل المسألة مسألة تجار بناء حقاً؟

لابد لنا أن نبحث عن أجوبة عن هذه التساؤلات، لكن يجب قبل أن نبدأ في البحث «الجنائي» حول المتورطين أو حيتان العقارات والمنتفعين الذين ربما تسببوا أو تستروا على المسؤولين عن الحريق، يجب علينا أن نطرح السؤال من زاوية أوسع: هل إهمال مدينة دمشق القديمة هو نتيجة جشع التجار والسماسرة؟ أم هو أكثر من ذلك؟ إلقاء اللوم على «تجار بناء» أو أشباههم لا يمكن أن يكون سوى ربع الحقيقة في أحسن الأحوال، ولا مجال حين نقاش مسألة من هذا النوع، إلا أن نعود سريعاً إلى تلك الفترة التي استعمرت فرنسا فيها بلدنا، وكان لها مصلحة حقيقية حينها في إلحاق أكبر ضرر ممكن بهويتنا، شأنها في ذلك شأن أيّ مستعمر، لكن مراجعة تلك الحقبة تثير الكثير من الاستهجان، وتحديداً حين يبدو أن كثيراً من ملامح وسياسات المستعمرين السابقين لا تزال قائمة، ما يدفعنا لطرح السؤال على كل الحكومات السورية منذ الاستقلال وحتى اللحظة: إن لم تكونوا من حفر هذه الحفرة، فلماذا أنتم من تحملون المجرفة؟

يبدو نقاش هذه الفكرة متشعباً؛ فالحريق الأخير لم يكن سوى نتيجة لسياسات وضعت منذ عقود طويلة ورغم أن حوادث كهذه بدت في حينه حوادث متفرقة لا رابط مباشر بينها، فإنّ الصورة اليوم باتت أكثر وضوحاً... فمخطط تفتيت دمشق والذي يأخذ ملامحه التي نراها اليوم يعود في جذوره إلى الاحتلال الفرنسي، الذي استعان وقتها بالمهندس الشهير ميشيل إيكوشار (Michel Écochard) في إعادة تخطيط المدينة. وبرغم أن المهندس الفرنسي كان في العشرينيات من عمره وقتها، ولم يكن يملك الخبرة الكافية للتعامل مع مدينة بتاريخ عريق كدمشق، إلا أن الاستعمار أطلق يده في الكثير من المسائل، وأصبح مهندساً استشارياً للحكومة السورية المشكلة في تلك الفترة، ليصبح لاحقاً مدير مكتب تخطيط المدن في سورية.

ونعرف اليوم، أن إيكوشار الذي «صقل» نفسه مهنياً في عدد كبير من مستعمرات فرنسا، من سورية إلى المغرب وساحل العاج والكونغو والكاميرون… وغيرها الكثير، صاغ في خمسينيات وستينيات القرن الماضي فلسفة معمارية جديدة للمدن تقوم على فكرة كسر الجسر الرابط بين عمارة البلدان المستعمرة مع بيئتها وثقافتها، ومع ما أنتجته هذه الثقافة من موروث معماري وفني سابقاً، لتتحول المدينة بمعناها العميق إلى بقايا غير مترابطة وغير مفهومة.

1132-7

إيكوشار و«شارع الثورة»!

يرى البعض، أن مهمة إيكوشار كانت بسيطة، وهي أن يخلق داخل المستعمرات الفرنسية فضاء ملائماً للمستوطنين الأوروبيين، إلا أنّ المسألة أكبر بكثير من ذلك، ولا يمكن فصلها إطلاقاً عن سياسة استعمارية شاملة، وضعت مهمة طمس هوية شعوب هذه المستعمرات، ويمكن لنا أن نجد آلاف الأمثلة على ذلك، وفي الكثير من المجالات. لكن ما يثير الاستغراب حقاً وفي المثال السوري تحديداً، هو أن إيكوشار وبالرغم من كونه المختار من قبل محتلينا لأداء واحدة من أقذر المهام في التاريخ، كان خياراً مقبولاً حتى بعد أن نالت سورية استقلالها بسنوات، وجرى التعاقد معه شخصياً من قبل الحكومة السورية في عام ١٩٦٨ لوضع دراسة بشكل وطبيعة التطوير الذي تحتاجه دمشق، وعاد مهندس الاحتلال ليكمل ما بدأه قبل أكثر من عقدين، ووجه أكبر الضربات لحي ساروجة، تحديداً بعد أن وضع مخطط ما يعرف باسم شارع الثورة اليوم، وقسم الحي إلى قسمين وتوزعت أبنية حديثة على جانبي الطريق الحديث. هذا المشروع لم يضر حينها حي ساروجة، فحسب بل أضر بالكثير من ملامح المدينة الأخرى، فلحق غوطة دمشق ضرر كبير، وتم فصلها بشكل ما عن دمشق، وأنهى أيضاً كتلة مهمة من أسواق دمشق التي امتدت خارج أسوار المدينة القديمة.

1132-5

في ذاكرتنا الجمعية

إذا أعدنا ترتيب كل ما سبق، سيكون واضحاً أن المطلوب كان طمس الهوية، فعمارة المدن كانت دائماً جزءاً من تاريخها الذي يتحول إلى قضية راهنة كونه امتداداً لكل نضالات شعب ما، ومن حاول طمس هذه الهوية كان يسعى إلى تفتيت المجتمع ليجد السوريون- مثلاً - أنفسهم حائرين، لا يفهمون كيف وصلوا إلى هذه البقعة من الأرض، وما هي الروابط العميقة التي جمعتهم وتشكّلت بينهم. عمارة دمشق جزءٌ من ذاكرة جمّعية نقلها سكانها من جيل إلى آخر، شأنها في ذلك شأن كلّ المدن السورية، هذه الذاكرة الجمعية حملت فيما حملته الكثير من عناصر ثقافتنا كالطعام والأغاني والفنون، لكنها حملت أيضاً تلك «السليقة» التي سمحت للسوريين بتحديد أعدائهم بسهولة، في الخارج والداخل، ومن هنا يصبح فهم التدمير الممنهج لكل أوجه هذه الهوية ممكناً، ويصبح مفهوماً أيضاً، لماذا ظل تدميرها هدفاً مُلحاً حتى بعد جلاء الفرنسيين! فهذه السليقة مثلاً دفعت بآلاف السوريين لتشكيل جيش إنقاذ فلسطين الذي اندفع إليه شبان في بداية حياتهم ﻷنهم شعروا بالخطر، وشعروا بأن المشروع الصهيوني لا يستهدف فلسطين وحدها، بل يستهدف وجودهم هم أيضاً، ليعيدوا في ذلك إحياء جيش المتطوعين الذي مضى إلى ميسلون خلف يوسف العظمة في معركة جسّدت ملامح بلدنا في العصر الحديث.

الحيرة التي تصيب شاباً حين يقف اليوم عند بسطات الطيور الموزعة على الأرصفة بجانب حمام القرماني المتداعي هي شعورٌ طبيعي، فلن يدرك سبب اختيار هذه النقطة بالذات لبيع الطيور، فسوق الطيور لم يعد موجوداً، ولا توجد أية إشارة إلى تاريخه، أو إلى أنه كان هنا في يومٍ من الأيام، وهذا ما يجري مع الكثير من معالم دمشق التي جرى تشويهها وتدميرها، فالشواهد على الأحداث المفصلية في تاريخنا تختفي تدريجياً كما لو أن الصراع مع الاستعمار لم يحدث في دمشق هذه التي نعيش فيها اليوم.

الحيرة تلك من بسطات الطيور المبعثرة هي نفسها الحيرة التي تبدو على وجوه بعض الشبان حين يسمعون أن شباناً في أعمارهم مضوا إلى ميسلون خلف يوسف العظمة، رغم أنهم كانوا يعرفون النتيجة الخاسرة للمعركة مسبقاً، وهو بالتحديد الهدف من طمس هويتنا وكل دعائمها، أن يبدو تاريخنا سلسلة مبعثرة من قصص عفا عليها الزمن، لا نفع منها أو من حفظها وترك شواهدها قائمة. فإيطاليا مثلاً: لم تكتف بإعدام عمر المختار بل رمته من الطائرة في الصحراء، كي لا يتحول مكان دفنه إلى شاهدٍ على وجوده، ووسيلة لنقل نضاله إلى أجيال أخرى، وكان لا بد بالنسبة لأعدائنا أن يتغير شكل دمشق كونها مليئة بآلاف الشواهد على تاريخنا وخصوصاً الحديث منه.

ومن هنا تحديداً، كانت «اسرائيل» أكثر من سعى لإنجاز ذلك، بعد أن حرص وكلاء الاستعمار الداخليين حتى بعد الاستقلال على تنفيذ هذه المهمة القذرة، فإن كان القرار السياسي للاستعمار في لحظة، هو طمس هويتنا ونتجت عن ذلك جملة من السياسات، فما مغزى أن تظل هذه السياسات قائمة حتى اللحظة؟ وما معنى أن يستمر هذا التدمير الممنهج الذي نشهده؟ الاتهامات المتبادلة التي نسمعها اليوم، ومحاولة تحميل المسؤولية لتجار أو متربصين خارجيين بعقارات ما، هي تعمية مقصودة على عدونا الحقيقي، وعلى كل وكلائه الداخليين الذين يظنون واهمين أنهم كانوا أول من فكّر بتدمير دمشق، متجاهلين أن هذا «الركام المبعثر» يحمل روحاً عصية على القتل، وعصية على التدمير، مهما بلغ طيش العابرين به، ومهما بلغ استهتارهم به!

1132-8

معلومات إضافية

العدد رقم:
1132
آخر تعديل على الثلاثاء, 25 تموز/يوليو 2023 19:58