حول علاقة 2254 مع وحدة سورية واستقلالها ومع التوازن الدولي ومع الحركة الشعبية...
من المعروف والمسلّم به، أنّ القوانين والقرارات، سواء كانت محلية أو دولية، لا يمكنها بذاتها أن تصون الحقوق، ناهيك عن أنها ليست قادرة بذاتها على إعادة الحقوق المسلوبة لأصحابها... فما يَفرض الحقوق وما يفرض سلب الحقوق هو الموازين الحقيقية للقوى المتصارعة، على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
ولتكون الفكرة السابقة ملموسة أكثر، نكتفي بأربعة أمثلة من بين مئات وربما آلاف الأمثلة:
- هنالك عشرات القوانين والقرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، والتي تصب في مصلحة الفلسطينيين وفي مصلحة إنفاذ حقوقهم، أو على الأقل تصب في إحقاق جزء من حقوقهم المسلوبة؛ سواء منها التي تتعلق بمطالبة الاحتلال بالانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران 67، أو المتعلقة بالمستوطنات، أو بجرائم الحرب والفصل العنصري وغيرها من الممارسات الإجرامية للاحتلال. مع ذلك، فإنّ هذه القرارات، ورغم استطالة العهد بها ومضي عقودٍ على إقرارها، إلا أنها ما تزال دون تنفيذ. وما يمكن أن يحوّلها إلى واقع، ليس النصوص التي تحتويها، بل ميزان القوى الواقعي دولياً وإقليمياً ومحلياً.
- الجولان السوري ما يزال محتلاً منذ 50 عاماً، والقرارات الدولية التي تطالب الكيان الصهيوني بالانسحاب منه، (ضمناً قرارات مجلس الأمن وقرارات الأمم المتحدة) عددها أكبر من عدد هذه السنوات. وأيضاً في هذه الحالة، ما تزال «إسرائيل» مستمرة في احتلالها وفي بناء المستوطنات وفي سرقة الثروات وفي قمع السكان.
- القرار 2254 نفسه، يقول بوحدة سورية واستقلالها، وقد مضى على إقراره أكثر من 7 سنوات، ومع ذلك فإنّ عدة قوى أجنبية توجد بعسكرها على الأرض السورية، بينها قوى توجد في تعارض تامٍ مع القانون الدولي. وكذلك فإنّ الأرض السورية نفسها مقسمة تقسيم أمر واقع بين عدة مناطق نفوذ.
- الدستور السوري المعمول به يقول بالتعددية السياسية، ويقول بحق السوريين في العمل، وفي مستوى أجور يتناسب مع مستوى المعيشة، والواقع، أنّ السياسات الرسمية تضرب بالدستور عرض الحائط في هاتين الناحيتين، وفي غيرهما الكثير، مما لا يخدم مصالح المتشددين وأصحاب النفوذ والتجار الكبار، بينما تتمسك بتلك الأقسام من الدستور التي تضمن السيطرة والهيمنة والمحافظة على قبضة حديدية على توزيع الثروة لمصلحة علية القوم، وضد مصلحة عموم الناس.
هذه الأمثلة جميعها تقول في جوهرها شيئاً واحداً: هو أنّ نصوص القوانين والقرارات، سواء المحلية منها أو الدولية، ليست بذاتها ضامناً للحقوق، ولكن ما يضمن الحقوق أو يحجبها هو محصلة القوى الفعلية على أرض الواقع.
رغم ذلك، فإنه من الخطير أن نستنتج من ذلك أنّ القوانين والقرارات، المحلية والدولية، هي مجرد حبرٍ على ورق، ولا قيمة لها إطلاقاً. وهذا الاستنتاج شائعٌ، بل وتروّج له القوى ذاتها التي تسلب الحقوق المنصوص عليها في القوانين والقرارات. ومن المفهوم تحت ضغط الوقائع وتحت ضغط الإعلام، (ولكن من غير المبرر في الوقت نفسه)، أن يشيع بين الناس أنّ القرارات الدولية لا أهمية لها، ولا أهمية تالياً للتمسك بها أو استخدامها في النضال من أجل استعادة الحقوق وصيانتها.
محصلة القوى الواقعية
رغم أنّ القوانين والقرارات التي تعترف بالحقوق، وخاصة المسلوب منها، هي ليست بذاتها الأداة التنفيذية، لا لصيانة الحقوق، ولا لاستعادة المسلوب منها، إلا أنها بالتأكيد (أي القوانين والقرارات) إحدى الأدوات المهمة في النضال من أجل استعادة الحقوق وتثبيتها.
المسألة ببساطة، يوضحها المثال التاريخي المعروف في الثورة الفرنسية: في آب 1789، جرى إقرار «إعلان حقوق الإنسان والمواطن». في هذا الإعلان التاريخي، تم الإقرار بحقوقٍ عديدة للشعب الفرنسي كان محروماً منها. ولكنّ تلك الحقوق لم تتحول إلى واقع ملموس إلا بعد عقودٍ من هذا الإقرار، بل يمكن القول: إنّ قسماً منها ما يزال غير متحقق بشكل كامل حتى اللحظة.
مع ذلك، اللحظة التي أقر بها الإعلان نظرياً، كانت تعبيراً عن تغيّرٍ في ميزان القوى في الداخل الفرنسي، لمصلحة أصحاب الحقوق المسلوبة؛ هذا التغيّر لم يكن كافياً لإنفاذ الحقوق عملياً، لكنه كان كافياً لإقرارها نظرياً، وللبدء بإنفاذها عملياً مع الوقت ومع استمرار النضال لتحقيقها.
أي أنّ مجرد الإقرار النظري القانوني بالحقوق، هو بحد ذاته، تعبير عن تغيّر في توازنات القوى الواقعية، وهو منصة انطلاقٍ أعلى نحو مواصلة النضال لاستكمال الحصول على الحقوق وإنفاذها.
من واقعنا القريب، يمكن أن نستحضر مثال المادة الثامنة المعدلة في دستور 2012 السوري. المادة بشكلها القديم كانت تقول بقيادة حزب البعث في الدولة والمجتمع، والجديدة تقول بالتعددية السياسية. الواقع أنّ التعددية السياسية لم تتحقق بعد، ولكن الواقع أيضاً يقول: إنّ التعديل الذي جرى في الدستور عام 2012 كان انعكاساً لتغيّر موازين القوى في الداخل السوري مع ظهور الحركة الشعبية، التي انفكت من عقال كامل الحركة السياسية القديمة. وبالتالي، إنّ الإقرار بالتعددية السياسية قانونياً، قد عبّر عن تحول في ميزان الواقعي من جهة، وتحول بذاته إلى منصة أعلى للنضال باتجاه إقرارها عملياً من جهة ثانية.
مثال ما بعد الحرب العالمية الثانية
من الأمثلة التاريخية المهمة في تناول المسألة موضع الدرس، مجمل القرارات والقوانين الدولية للأمم المتحدة نفسها، لا بنصوصها فحسب، بل بوصفها تعبيراً عن مرحلة تاريخية جديدة من توازن القوى على المستوى الدولي.
ابتداءً بميثاق الأمم المتحدة نفسه، ومن ثم جملة القرارات التي اعترفت باستقلال عدد كبير من البلدان، ودعت إلى خروجٍ فوري للاستعمار منها، ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، فإنّ مجمل هذه القرارات كانت تعبيراً عن التوازن الدولي الجديد الذي صعد فيه الاتحاد السوفييتي في حينه، ومعه منظومة الدول الاشتراكية، وكذلك الدول المتحررة حديثاً من الاستعمار الغربي.
الإقرار بإجرامية الاستعمار وبعدم شرعيته، لم يكن ممكناً قبل الحرب وقبل التوازنات التي أفرزتها؛ بل أكثر من ذلك، فإنّه خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان السائد في الفكر الأوروبي خاصة، هو أنّ الاستعمار الأوروبي هو فضيلة من الفضائل، ومِنة تمنّ بها «الشعوب المتطورة والمتحضرة» على «الأمم البربرية المتخلفة».. كما كان يقول أحد أكبر منظري الاستعمار (جون ستيوارت مل) على سبيل المثال.
لم يتحول الاستعمار إلى جريمة منكرة قانونياً، إلا بفضل ميزان قوى دولي جديد. وهذا الميزان نفسه هو الذي وضع الأرضية القانونية للتحرر الفعلي من الاستعمار، والذي جرى في أوقاتٍ متفاوتة، ضمن حوالي 20 إلى 25 سنة تلت نهاية الحرب العالمية الثانية.
كلمتان مفتاحيتان
ملخص الكلام السابق، هو أنّ القرارات الدولية التي تعترف بحقوق الشعوب، هي في الوقت ذاته تعبير عن أمرين:
الأول: ميزان قوى دولي وإقليمي ومحلي، يفرض الاعتراف بتلك الحقوق ولو نظرياً.
الثاني: القرارات بحد ذاتها، هي منصة متقدمة للاستمرار في النضال نحو تحويل الاعتراف النظري بالحقوق إلى اعترافٍ عملي.
وإذاً، فإنّ فهم 2254 وما يقوله حول وحدة سورية وسيادتها، ينطلق من هذين الأمرين نفسيهما كما سنفصل فيما يلي...
وحدة سورية وسيادتها
انطلاقاً مما قلناه أعلاه، فإنّ إقرار 2254 بحد ذاته كان تعبيراً عن توازنٍ محدد للقوى على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي، وعلى المستوى الدولي خاصة. ضمن ذلك التوازن تم القطع قانونياً مع مرحلة الأحادية القطبية، التي سادت ابتداءً من انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991. بعد الانهيار، وفي ظل الأحادية القطبية، تحولت المؤسسات الدولية بشكل سافر وعلني إلى أجيرٍ للسياسات الغربية، بما في ذلك شرعنة الحروب الأمريكية حول العالم بشكل صريح أو عبر السكوت عنها، وبما في ذلك تدمير الناتو لليبيا.
ابتداءً من القرار 2254، وقبله من الفيتو الروسي الصيني الأول بما يخص سورية، دخل العالم بأسره مرحلة جديدة من توازن القوى. لم يكن ممكناً في بدايتها الإقرار حتى نظرياً بالحقوق، ولكن كان ممكناً منع الغرب والأمريكان خاصة من تمرير قرارات معادية لمصالح الشعوب بشكل سافر (وإنْ تحت مسميات حماية المدنيين). منذ نهاية 2015، دخلنا مجدداً مرحلة الإقرار القانوني النظري بالحقوق، وعبر 2254 بشكل خاص، والذي أقرّ بوحدة سورية وسيادتها، وكذلك بحق الشعب السوري بالتغيير وبالانتقال السياسي وبتقرير مصيره بنفسه. وهذا الإقرار بذاته، تحوّل إلى منصة أعلى من أجل النضال نحو التنفيذ الفعلي للحقوق المقرّة فيه نظرياً.
المرحلة التي نعيشها الآن من تحول الميزان الدولي، هي مرحلة التحضيرات النهائية لميزان القوى بما يحسم الشروع الفعلي في التنفيذ. بما يخص سورية، نقصد بشكل ملموس، تكوين أرضية من التفاهمات الدولية والإقليمية والمحلية بين أصحاب المصلحة في الحفاظ على سيادة سورية واستقلالها، وهو الأمر الذي لا يمكن تحقيقه دون تغيير سياسي جذري، يُبعد أو على الأقل يُضعف إلى أقصى الحدود الممكنة، المتشددين في الأطراف السورية، والذين أثبتوا بكل طريقة ممكنة أنّهم (وبغض النظر عما يقولونه من شعارات) يتقاطعون بشكل عميق ووجودي مع المصالح الغربية في منطقتنا وفي بلدنا.
أرضية التفاهمات التي نقصدها بشكل ملموس، هي جمعٌ لمصالح كلٍ من الصين وثلاثي أستانا والدول العربية الأساسية، والغالبية العظمى من الشعب السوري. هذه القوى تتقاطع مصالحها في أمورٍ واضحة هي ما يلي:
- إنهاء حالة «الفوضى الخلاقة» الأمريكية في مجمل المنطقة، والتي تمّ من خلالها عبر عقدين على الأقل، استنزاف كل القوى الإقليمية والمحلية، وابتزازها، ومنعها من التطور، وتكريس تبعيتها اقتصادياً وتكنولوجياً، وسياسياً.
- يتضمن ذلك إنهاء التوترات المبنية على الاستثمار بالفوالق الطائفية وخاصة «السني- الشيعي»، والفوالق القومية، وخاصة المتعلقة بالمسألة الكردية؛ فجملة التفاهمات التي تتعمق وتزداد يوماً وراء الآخر في منطقتنا، وبين قوى كانت سابقاً على حافة حروب مباشرة (السعودية وإيران مثلاً)، هي مثال جيد على كيفية تأثير التوازن الدولي الجديد على طبيعة العلاقات والاصطفافات الإقليمية. والخاسر الأساسي من إنهاء التأثير المدمر لهذه الفوالق هم الأمريكان، ومعهم الصهاينة بالدرجة الأولى، والغرب عموماً بالدرجة الثانية.
- مصالح هذه القوى التي تصيغ الآن تفاهماتها، لا تقف عند حدود إنهاء الاستنزاف، بل تتعدى ذلك نحو بناء منظومة من العلاقات المتوازنة والمتكافئة والتنموية الواسعة المدى. وتتطلب لذلك لا استقراراً أمنياً وسياسياً فقط، بل وأيضاً دفعاً تنموياً كبيراً بالمعنى الاقتصادي، يتطلب استقلالاً أعلى عن الهيمنة الغربية الناهبة، وضمناً استقلالاً أعلى عن المنظومة الدولارية.
يمكن لهذه النقاط الثلاث أن تصبح عشراً أو أكثر لو أردنا التفصيل، ولكنها ربما تفي بما يتطلبه موضوع هذه المادة بشكلها العام هذا.
2254 والحركة الشعبية
هذه النقاط بمجموعها، تجعل من تنفيذ 2254، أي من استعادة وحدة سورية وسيادتها، وفي إطار تحولٍ سياسي حقيقي، يبني استقراراً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً في سورية، مصلحة مشتركة لكل هذه القوى. وهذا لا يمنع بطبيعة الحال من أنّ كل طرف سيحاول في سياق هذه العملية أن يشد البساط ناحيته، على أمل أن تكون له فوائد أكبر من الآخرين في سياق العملية. ولكن الجيد في المسألة، أنّ عملية الشد هذه ستكون متبادلة من كل الأطراف، وستكون محصلتها أقرب للصفر بما يخص الفوائد الجزئية المبتغاة في سورية نفسها، في حين ستكون محصلتها أعظمية بما يخص دفع سورية نحو الخروج من أزمتها والخروج من التأثير الغربي.
هاتان المحصلتان معاً، الصفرية في الجزئي، والقصوى في الكلي، ستفتحان الباب على إمكانية تحويل الكلام النظري الموجود في القرار 2254 عن حق الشعب السوري بتقرير مصيره بنفسه، إلى واقع فعلي. الشرط الوحيد الإضافي لتحقق ذلك، هو أن تواصل الحركة الشعبية السورية الكامنة تطورها، وأن تجد ضمن الظروف القريبة القادمة أساليبها السلمية والمنظمة في التعبير عن نفسها، وعن حقوقها ومطالبها. ومع تلك الحركة يجب أن تسير قوى الفضاء السياسي الجديد، التي ما تزال حتى اللحظة في طور التشكل...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1105