الانتصارات «نحن» سببها والأزمات سببها «الحلفاء»!
عبر السنوات الأربع الماضية، أي منذ انتهى بشكل شبه كاملٍ الطور العسكري العنيف من الأزمة، وباتت استحقاقات التغيير هي الموضوعة على الطاولة، وبدأت الهوامش تضيق أكثر فأكثر على رافضي التغيير ورافضي الحل السياسي، فإنّ هنالك مقولة باتت ثابتة في الإعلام شبه الرسمي، وفي الإعلام الرسمي أحياناً، وعلى ألسنة متشددين ضمن النظام على وجه الخصوص.
المقولة المقصودة، هي تلك التي يمكن اختصارها بالشكل التالي: (الانتصارات «نحن» سببها، والمقصود النظام، والأزمات سببها «الحلفاء» والمقصود روسيا وإيران). وهذه المقولة تأخذ صياغات تتعدد وتتنوع، تبعاً لدرجة اجتهاد وفهلوية الناطقين بها؛ فيمكن أن تسمع أحدهم يخرج باستنتاج غرائبي من قبيل: سورية هي من «سمحت» لروسيا بأن تتحول إلى دولة عظمى! وهي تالياً، أي روسيا، مدينةٌ «لنا» بما لا يمكنها سداده مهما فعلت.
كذلك الأمر مع إيران، فما سمحـ«نا» لها بالقيام به في سورية، هو ما سمح لها بالحصول على الاتفاق النووي، وهو ما سمح لها أن تقف نداً للولايات المتحدة و«إسرائيل»، وأن تؤرقهما.
نعم هي مصالح
قبل المضي أبعد في هذا الحديث، لا بد من التأكيد على الموضوعة الصحيحة دائماً، وهي أنّ الدول تتصرف وفقاً لمصالحها وانطلاقاً من مصالحها، وليست مؤسسات عمل خيري تعمل لوجه الله. هذا صحيح دائماً. ومع ذلك، فإنّ العداوات بين الدول إذ تقررها المصالح، فكذلك الأمر مع التحالفات، فالمصالح أيضاً هي ما تقررها. والتحالف يعني تقاطع المصالح، ولذا فإنّ مساعدة دولة لأخرى (إذا نحيّنا النموذج السوفييتي الذي كان طفرة تاريخية) هي تحقيق لمصالحها في الوقت نفسه. ولذا فأضعف الإيمان في حالات التحالف، هو أنّ العلاقة بين المتحالفين هي علاقة تبادل مصالح، قد تكون متكافئة، أو ربما ترجح كفتها بهذا الاتجاه أو ذاك. ولكنّ الطريف في الحالة السورية، هو أنّ يتحول الحلفاء إلى خصوم لا انطلاقاً من مصالح البلاد، بل من مصالح ضيقة لأولئك الرافضين لتغيير أي شيء، ولمعالجة أي مشكلة من المشكلات...
التغطية على الفساد الداخلي
إذا تكلمنا بالملموس أكثر، فإنه يجري تحميل كلٍ من روسيا وإيران مسؤولية أزمات المحروقات والكهرباء، ولننظر عن قرب أكثر لهاتين الأزمتين. بالنسبة للمحروقات، يجري طلب خطوط ائتمانية (أي قروض عينية آجلة السداد) يتم بموجبها استقدام محروقات ضمن مجموعة أخرى من البضائع، وثم ماذا؟ يتم بيع تلك المحروقات بأسعار أعلى من السعر الدولي، ويراد أن تستفيد من ذلك «شركات خاصة» وتنمي أرباحاً فلكية، ولا يستفيد الناس عملياً من المحروقات، بل لا يكادون يرونها، ولا تحل أزماتهم، بل ويستمر السير في تنفيذ الوصفات التخريبية لصندوق النقد والبنك الدوليين، والتي تفتح الباب على انهيارات كبرى أشد مأساوية من كل ما جرى حتى الآن.
أي باختصار، تتحول (القروض العينية الآجلة السداد)، إلى أداة إثراءٍ وتحكمٍ للقلة الناهبة، ولا تكاد تفيض منها قطرة واحدة للتخفيف من أزمات عموم السوريين.
ملف الكهرباء هو الآخر يسير السير نفسه؛ فإضافة إلى الانعكاس المباشر لأزمة المحروقات على الكهرباء، فلا اقتراحات الحلول التي تقدمها الدول الحليفة يجري قبولها، ولا تظهر مبادرات حقيقية باتجاه الحل؛ بل وأكثر غرابة من ذلك، يجري تقديم مشاريع غربية بعينها، يعلم كل اختصاصي أنها لن تقدم أي حل، بوصفها الحل الأمثل والطريق الوحيد الذي ينبغي السير فيه؛ (خاصة مشاريع الطاقة الشمسية والريحية المؤسسة على استيراد أدواتها دون حتى التكنولوجيا الخاصة بتصنيعها من الغرب، ناهيك عن ضآلة ما يمكن أن توفره من طاقة، وناهيك عن الحقائق التي بات يقر بها العالم أجمع ما بعد أوكرانيا، من أنّ التحول نحو ما يسمى الاقتصاد الأخضر لن يكون حلاً في القريب العاجل، فما بالك ببلدٍ تشملها الظلمة، ويتم قطع الكهرباء فيها حتى عن مرافق الإنتاج).
إلقاء الكرة للخارج
الثابت، أنّ هنالك نهجاً واحداً في التعامل مع كل ما هو داخلي؛ فحين بدأت الحركة الشعبية عام 2011، كانت «المؤامرة الكونية» هي السبب الجامع المانع الوحيد لكل أزمات السوريين؛ لا تقليص الدعم هو السبب، ولا السماح للحيتان بالتهام أرزاق الناس، ولا ضرب القطاع العام، ولا ضرب الإنتاج الزراعي والصناعي هي الأسباب. السبب الوحيد هو «المؤامرة». ومعلومٌ لكل صاحب نظر موضوعي، أنّ المؤامرة موجودة فعلاً وكبيرة فعلاً، وتشمل بين ما تشمل العقوبات والحصار والإرهاب وغيرها، ولكنّ عاملها المكمل الذي لم يكن لها أن تنجح دونه، ولم يكن لها أن تستمر، هو الفساد الكبير الداخلي، الذي حوّل حتى العقوبات إلى مزراب ذهبٍ لأرباحٍ فلكية، أحد أكثر أشكالها وضوحاً، هو حصر استيراد بعض من أكثر المواد الغذائية أساسية بيد قلة قليلة وليس بيد الدولة...
الآن أيضاً، ليس استمرار الفساد الكبير هو السبب، وليست الخصخصة سبباً، وليس التدمير الممنهج للإنتاج هو السبب، السبب هو فقط «العقوبات الغربية»، بل وأدهى من ذلك أنّه حتى العقوبات الغربية لم تعد السبب الأساسي الذي يجري التعلل به هذه الأيام، بل السبب هو «تخاذل الحلفاء»!
إحدى الغايات الواضحة من الدعاية الكثيفة ضد روسيا وإيران، والتي يقودها متشددون ضمن النظام، ليس على المستويات الإعلامية فحسب، بل وأيضاً على المستوى الشعبي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، هي البحث عن قميص عثمان لتغطية كلّ شيءٍ تحته، ولحرف الجدال الطبيعي والموضوعي حول السياسات الداخلية نحو الخارج، نحو عدو خارجي، أو نحو «صديق متخاذل» خارجي.
سببان أكثر عمقاً
قد يرى كثيرون، أنّ ما أسلفنا قوله هو جملة القول في هذه المسألة، أي أنّ انتقاد «الحلفاء المتخاذلين» الغرض منه محصور في التهرب من المسؤولية عبر إلقائها على الآخرين. ولكن ما نعتقده أنّ هنالك سببين أكثر تأثيراً وأهمية (خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ المتنفذين والمتغوّلين في ممارسة النهب والنفوذ، يصرفون أقل اهتمامٍ وانتباهٍ على ما يظنه السوريون، وعلى ما يفكرون به؛ فآراء السوريين بهم وبأي شيء، هي الأقل أهمية في المعادلة من وجهة نظرهم).
السبب الأول: لا يقف عند حدود السعي إلى تحويل غضب وقهر الناس من المسؤولين المباشرين عنه نحو روسيا وإيران، بل وأيضاً في استخدام ذلك الغضب المحوّل، كأداة في رفض ومعاندة سعي روسيا وإيران، ومسار أستانا على العموم، لوضع العملية السياسية وفق 2254 موضع التنفيذ.
السبب الثاني: والأشد خطورة، هو العمل على تحضير الرأي العام في سورية، للقبول بانقلابٍ كامل على «الحلفاء» وفقاً لرسمة «خطوة مقابل خطوة» الغربية؛ فهمّ الفاسدين الكبار ليس البلاد ووحدتها وحال أهلها، وهذا ما أثبتوه بكل طريقة ممكنة، بل همهم هو منع التغيير ومنع الحل، حتى وإنْ كان الثمن الخراب وربما التقسيم. والوصفة هذه، أي الخراب والتقسيم، هي المضمون الفعلي للعمل الأمريكي و«الإسرائيلي» والغربي على العموم في سورية، والذي يتلطى اليوم تحت مسميات عديدة بينها «خطوة مقابل خطوة»، وبينها «خط الغاز العربي»، و«المبادرة الأردنية»، وغيرها.
الأكيد، أنّ عملية خداع الشعب السوري، ومحاولة إلقاء المسؤولية على الآخرين، باتت باهتة وغير قادرة على إقناع أحد؛ فحتى أولئك الذين يسلّمون تحت ضغط التضليل اليومي بأنّ روسيا وإيران ليستا حليفتين، بل هما عدوتان، يصرون أنّ العدو الأول للسوريين هم أبناء جلدتهم من الفاسدين الكبار واللصوص الذين انتهوا من نهش لحم السوريين، وبدأوا بسحق عظامهم، جوعاً وبرداً ومرضاً وظلمةً ومأساةً تكاد تكون بلا مثيل تاريخي، ليس بشدتها فحسب، بل وبما يسير معها جنباً إلى جنب من بطرٍ متعجرفٍ فاسدٍ، لقلةٍ ناهبةٍ تعيش في قصورٍ عاجية، وتنظر لعموم الناس باحتقارٍ ما بعده احتقار، وتحدد من بين هذه «الرعية» المشرفة على الهلاك من هو وطنيٌ ومن هو قليل وطنية ومن هو خائن...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1102