تحولات الفساد والنهب في سورية سياقٌ مستمر عمّقته وسرّعته الأزمة

تحولات الفساد والنهب في سورية سياقٌ مستمر عمّقته وسرّعته الأزمة

يحاول المسؤولون السوريون تبرير الإجراءات «غير الشعبية» التي تقوم بها الحكومات المتعاقبة، بأنها إجراءات اضطرارية في ظل العقوبات والحصار. والواقع أنّ الحكومات السورية ومن خلفها أصحاب النفوذ الحقيقي والسلطة الحقيقية في البلاد، لم يعد في جعبتهم سوى الإجراءات «غير الشعبية»، وبعبارة أدق، الإجراءات التي تصب بالضد من مصلحة عامة الناس ومصلحة البلاد ككل، وفي مصلحة المتمولين والفاسدين الكبار.

أكثر الإجراءات وضوحاً، هي تلك المصنفة تحت باب رفع الدعم، والتي يجري بموجبها رفع سعر كل شيء عملياً، ليس فقط إلى عتبة الأسعار العالمية، بل وفوقها بالنسبة للعديد من البضائع. بالتوازي مع تقويض كل الخدمات والمكتسبات التي جرى تحصيلها تاريخياً؛ من التعليم إلى الصحة إلى الكهرباء وإلخ.
الأمثلة في هذا السياق تكاد تكون بلا نهاية؛ من «البطاقة الذكية»، إلى رفع نسبة التعليم الموازي إلى 50% من الطلبة، مع رفع رسومه، إلى تآكل الخدمات الصحية بشكل كارثي، إلى أسعار المحروقات وغياب الكهرباء، واستمرار حصر استيراد عدد من المواد الغذائية الأكثر أساسية في يد بضعة حيتانٍ كبار، يأكلون موارد الدولة ودم السوريين في الوقت نفسه.

استمرارٌ لسياق!

تحت ضغط وعذابات السنوات الكارثية الماضية، قد يسهو أو ينسى البعض السياق الذي سبق الأزمة، وكيف كانت الأمور تدار من الناحية الاقتصادية في حينه.
لا بد إذاً من التذكير سريعاً، بأنّه منذ تمّ تبني ما سمي «اقتصاد السوق الاجتماعي» عام 2005، والأمور من سيئ إلى أسوأ. يكفي أن نذكر بأهم رقمين كانا نتاج الخطة الخمسية العاشرة (2005-2009)، وكانا الأساس المادي للحريق التالي: أولاً: ارتفعت نسبة الفقر على الخط الأعلى في سورية من 30% عام 2005، إلى 44% نهاية 2009. أي أنّه جرى إلقاء ما يقرب من ثلاثة ملايين سوري تحت خط الفقر خلال 5 سنوات فقط.
الرقم الثاني: هو رقم توزيع الثروة؛ مع نهاية الخطة الخمسية العاشرة، كان 75% من الثروة المنتجة مجدداً في سورية، تذهب لـ 20% من السكان، بينما 80% منهم يحصلون على 25% من الثروة.
وإلى هذين الرقمين يمكن إضافة دزينة من الأرقام الأخرى المتعلقة بتراجع حصة كل من الزراعة والصناعة من الناتج الإجمالي، الذي تمّ تضخيم أرقامه بشكل وهمي عبر الحسابات المالية المكررة، وعبر فقاعة «الانفتاح» وما صاحبها من أنشطة مالية وبنكية، سرعان ما انفجرت تلك الفقاعة، وتبين خواؤها مع أول طلقة رصاص؛ حيث فرّت الأموال الساخنة بلا رقيب أو حسيب بعد أن تربّحت من تعب السوريين.

أبعد من ذلك

يصعب أن تجد بين عموم السوريين، أياً تكن مواقفهم السياسية الراهنة، من يحتفي بالسياسات الاقتصادية التي كانت وما تزال متبعة في سورية، خاصة منذ 2005. ولكن مع ذلك، فإنّ انتقاد البعض يقف عند حدود اعتبار اختيار الطريق «الليبرالي» اقتصادياً، مجرد خطأ وقعت به السلطات في إطار التجريب والبحث عن حلول... ولكن حقيقة الأمر أبعد من ذلك، وينبغي تبينها لأنّها هي وحدها ما يسمح بتفسير استمرار هذا «الخطأ» وتعمقه، بل والإصرار عليه في ظل أزمة طاحنة تتطلب سياسات معاكسة 180 درجة للسياسات التي يجري اتباعها.
ينبغي إذاً فهم مصدر هذا «الخطأ»؛ أي فهم الأساس الذي دفع نحو تبني السياسات الليبرالية في سورية تحت مسمى «اقتصاد السوق الاجتماعي».
من البديهي، أنّ أية سياسة اقتصادية، في أية دولة كانت، هي دائماً لخدمة مصلحة فئات وشرائح طبقية بعينها، وضد شرائح وفئات طبقية أخرى؛ وقبل أي تفصيل إضافي، يُعد مؤشر توزيع الثروة في بلدٍ من البلدان أحد أهم المؤشرات على طبيعة ونوعية المصالح التي يخدمها اقتصاد ذلك البلد. وحين تصب ثلاثة أرباع الثروة في جيب خمس الناس، فهذا يعني أنّ الاقتصاد وتالياً السياسة والعسكر تُدار لمصلحة هؤلاء.
الانتقال نحو الليبرالية في سورية لم يحدث دفعة واحدة، ولم يبدأ عام 2005، بل بدأ قبل ذلك بأعوام طويلة، ولعل أوضح معالم هذا الانتقال كان قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991، وإنْ كان هذا القانون ليس هو أيضاً الخطوة الأولى ضمن هذا الانتقال، ولكنه الخطوة الأولى الواضحة المعالم.
ما أوصل سورية إلى القانون رقم 10 لعام 1991، وما تلاه وصولاً لـ«اقتصاد السوق الاجتماعي»، ليس الظرف الدولي المتعلق بانهيار الاتحاد السوفييتي فحسب (وهو عامل مهم لا شك في هذا الانتقال)، ولكن أيضاً طبيعة التطور الداخلي لبنية المجتمع، ولبنية الفئات المتنفذة والمسيطرة في البلاد.
ففي سورية منذ الستينات عملياً، لم يجر تطور الطبقات في سورية ككل ضمن سياق كلاسيكي؛ أي لم تتطور البرجوازية الصناعية ومعها الطبقة العاملة وصولاً إلى التناقض بينهما، وبحث كل منهما عن تعبيره السياسي وإلخ. ما جرى هو تطور «كلاسيكي» لبلد تابعٍ اقتصادياً، لبلد تمّت إعادة ترتيبه بما يتناسب مع موقع دولةٍ طرفية ضمن نظام الاستعمار الحديث الاقتصادي، بحيث تكون هذه الدولة مصدرة للمواد الخام ومستهلكة للمواد المصنعة، ومصدرة للعقول، وضعيفة الإنتاجية...إلخ، وقد ساهم في هذه العملية بشكل فعالٍ احتلال الجولان السوري، وتحول «المجهود القتالي» إلى عبءٍ ضخمٍ دائمٍ، لم يكن بحد ذاته ليشوه الاقتصاد لولا أنْ تحوّل مع الزمن إلى دريئة ينفذ من خلالها الفاسدون الكبار نحو تخفيض سقف الحريات السياسية إلى الحدود الدنيا، تحت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».

1086-16

خلال هذه المرحلة، بدأت شرائح معينة من الفاسدين البيروقراطيين، أي الفاسدين الذين منحتهم كراسيهم إمكانية النهب، بتجميع الثروات شيئاً فشيئاً. في حينه كانت هنالك فئة أكثر سيطرة على السوق وعلى عمليات النهب، وهي فئة الكومبرادور، أو ببساطة، فئة وكلاء الشركات والبنوك الأجنبية، والذين كان عملهم الأساسي هو إدارة عملية التبادل اللامتكافئ لمصلحة الغرب، أي إدارة عمليات الاستيراد والتصدير، ومعها كل العمليات الاقتصادية الأساسية، بحيث تحافظ على الموقع التابع والمنهوب لسورية، وبحيث ينهبون لجيوبهم مقداراً مهماً، ولجيوب المراكز الغربية مقادير أكبر.
نشأت علاقة بين الفاسدين البيروقراطيين، والكومبرادور، علاقة تنافس وشراكة؛ حيث يمرر الفساد البيروقراطي مصالح الكومبرادور مقابل نسبة أو حصة من المرابح. مع الوقت، ومع تراكم الثروة في أيدي الفساد البيروقراطي، ومع تعمق نفوذه وسيطرته، بدأ يعي اللعبة أكثر ويطالب بحصص أكبر، بل ويطالب بالحصة كلها.
عند هذه النقطة بالذات، بدأت عملية التحول نحو الليبرالية تشهد خطواتها الكبرى الأولى، أي مطلع التسعينيات. ويذكر السوريون جيداً، أنّ تلك المرحلة بالذات هي التي شهدت ظهور ما سمي في حينه بـ«القطط السمان»، والذين كانوا تجاراً صغاراً تحوّلوا بغمضة عين، وبمساعدة قوانين وتسهيلات معينة، إلى متمولين كبار. والحقيقة أنّ هؤلاء لم يكونوا سوى واجهاتٍ للفاسدين الكبار الذين أرادوا اكتساح السوق، وإخراج الكومبرادور منها، ليس لمصلحة عموم السوريين، بل ليحلوا محل ذلك الكومبرادور.
الفريسة الأثمن والأسمن كانت القطاع العام، والذي بدأت مختلف أنواع الألعاب الدفترية والاحتيالية تظهره خاسراً، إضافة إلى عمليات النهب والفساد التي لعبت الدور الرئيسي في تخسيره...
الفريسة التالية التي بدأ التهامها بشكلٍ متسارع منذ 2005 هي الدعم، والذي كان هو نفسه وعبر تاريخه تعبيراً عن اختلال العلاقة بين الأجور ومستوى المعيشة. أي أنّ سياسة الدعم نفسها ومنذ اللحظة الأولى، كانت اعترافاً من الدولة بأنّ أجور العاملين لا تكفيهم للوصول إلى الحد الأدنى لمستوى المعيشة، ولذا لا بد- حفظاً للأمن الاجتماعي ولاستمرار الإنتاج- أن يتم دعم رواتبهم تلك ببعض الزيادات بطرق غير مباشرة، عبر أسعار المحروقات والخبز والصحة والتعليم وإلخ.
وهذه الفريسة بدأ التهامها بشكل واسع مع تبني اقتصاد السوق الاجتماعي، وكان من بين أول الضحايا المازوت الذي تم رفع سعره بين ليلة وضحاها من 7 ليرات لليتر إلى 25 ليرة لليتر، وذلك عام 2007.
ويذكر السوريون النتائج المباشرة لتلك الكارثة التي حلّت على رؤوسهم؛ يذكرونها بتأثيرها المباشر على المواسم الزراعية، وخاصة المعتمدة على السقاية... حيث استفاق أهالي حلب ودمشق على عشرات الآلاف من أهالي الجزيرة السورية الذين هجروا أراضيهم وقدموا إلى المدينتين، يجلسون منذ الصباح تحت الجسور بانتظار الحصول على أي عملٍ في «الفعالة»، ليؤمنوا لقمة الخبز لعيالهم بعد أن سحبت من فمهم.
كذلك رأى السوريون الانعكاس السريع لهذا القرار على الثروة الحيوانية التي تآكل أكثر من ثلثها خلال سنوات الخمسية العاشرة، وارتفعت أسعار اللحوم بشكل كبير، وبات اللحم عزيزاً صعب المنال إلا بكميات قليلة بالنسبة للسواد الأعظم من السوريين.
إنعاش ذاكرة ما قبل 2011، وما قبل 2005 أيضاً، ضروري لفهم السياق العام الذي يوصل مسؤولاً إلى تلك الدرجة من عدم المبالاة اتجاه الناس، ومن عدم احترامهم، للقول: إنّ الدولة قررت رفع تكلفة الحصول على جواز سفر فوري إلى 500 ألف ليرة سورية «نزولاً عند رغبة المواطنين»!

سياق موازي

إذاً، فإنّ تحوّل 2005 نحو الليبرالية الاقتصادية، كان جزءاً من سياقٍ عامٍ ممتد، عملت وفقه شرائح الفاسدين البيروقراطيين الكبار لاحتلال مواقع الكومبرادور، وتوسيع عمليات التهام مصالح الناس.
الفاسدون الكبار كانوا يعلمون جيداً أنّ احتلال مواقع الكومبرادور، يتكوّن من عمليتين مترابطتين؛ احتلال مواقعه في السوق المحلية، ولكن أهمّ من ذلك بما لا يقاس هو احتلال مواقعه ضمن السوق العالمية، وبوضوح تدميره بالتوازي مع وراثة علاقاته مع الغرب وحظوته لديهم.
بهذا المعنى، فإنّه كان من الضروري، أن يُظهر الفاسدون الكبار «حسن النية» اتجاه المركز الغربي الذي بيده إعطاء كروت البلانش للكومبرادور المحلي. وأهم مكان لإصدار تلك الكروت يقع في صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والطريق الأقرب لقلب هاتين المؤسستين هو تنفيذ توصياتهما.
أيّ أنّ سياسات رفع الدعم، وما يسمى «التطوير الهيكلي»، وشعارات التجارة قاطرة النمو والسياحة قاطرة النمو، وتخفيض حقوق العمال، وتقديم التنازلات لرؤوس الأموال الخارجية، وإلخ... كل هذه السياسات وتبنيها، ليس فقط أداة لسيطرة القطط السمان ومن وراءها على السوق المحلية، ورفع نسب النهب منها، بل وأهم من ذلك أنها الطريق نحو الحصول على الاعتراف من المركز الغربي بوكلاء النهب المحليين.
ليس مستغرباً في هذا السياق أن تحسنت فجأة علاقاتنا مع تركيا وقطر، وأن تم إغراق السوق بالبضائع التركية في حينه، وأنْ تم بالمعية تدمير كمٍ كبير من الصناعات المتوسطة المحلية. وليس مستغرباً أيضاً الركض وراء وهم الشراكة الأوروبية، وغيره من الاتجاهات السياسية-الاقتصادية التي تم اتباعها.

أخطر من ذلك

الفاسدون الكبار ذوو الصفة البيروقراطية من حيث النشأة، قد نجحوا في إتمام تحولهم إلى حد بعيد، وقد احتلوا معظم مواقع الكومبرادور السابق، ولكنهم هم أنفسهم قد غدوا شيئاً آخر مع هذا التحوّل؛ فقد تحولوا شيئاً فشيئاً نحو رأس مال مالي... أي رأس مال عديم الهوية الإنتاجية، يعمل في أي شيء يجني أرباحاً، والمهم أن تكون أرباحاً كبيرة وسريعة... ولذا نمت أكثر فأكثر كل أنواع المضاربة، ابتداءً بالعقارية، ووصولاً في يومنا هذا إلى المضاربة المالية على الليرة السورية حتى.
وربما أخطر من كل ذلك، أنّ تحوّل الفساد البيروقراطي إلى رأس مال مالي لم يكن سوى عتبة جديدة ضمن تحولٍ مستمر؛ فالعقوبات الغربية وقانون قيصر خاصة، ومعه كل ظروف الحرب، قد أثرت فعلاً، وبين أهم تأثيراتها أنّها دفعت برأس المال المالي هذا نحو طورٍ جديد، هو طور رأس المال المالي الإجرامي، والذي بات الآن يمتهن الإتجار بالمخدرات والبشر بكل أنواعها، وفوق ذلك يتاجر باستمرار الحرب.
بالمحصلة، بات رأس المال المالي الإجرامي هذا، ليس مجرد امتدادٍ لرأس المال المالي العالمي في سورية، بل بات امتداداً لنمط محدد من رأس المال ذاك؛ أي رأس المال المالي الإجرامي العالمي... رأس المال ذاك الذي هو العدو الأخطر للبشرية بأسرها، والذي يرى أنّ مجرد وجود سورية موحدة هو مشكلة بالنسبة له... ولذا فإنّ العمل المستميت الذي يقوده هؤلاء ضد الحل، وضد الحوار، وضد تنفيذ 2254، وضد أستانا ضمناً، هو استمرارٌ طبيعي ومنطقي لطبيعة المصالح الذاتية والعالمية التي يخدمها أصحاب هذا السلوك...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1086