مستقبل الحركة الشعبية عالمياً وفي سورية نقاش مع صديق حول افتتاحية قاسيون 1094

مستقبل الحركة الشعبية عالمياً وفي سورية نقاش مع صديق حول افتتاحية قاسيون 1094

اتصل بي منذ بضعة أيام أحد الأصدقاء ممن يتابعون قاسيون بشكلٍ مستمر، ليناقش معي ما قالته افتتاحية العدد الماضي رقم 1094، والتي كانت بعنوان «الحركة الشعبية تصعد والنخب تنحط».

يوافق صديقي على الفكرة العامة للافتتاحية القائلة بأنّ هنالك حركة شعبية على المستوى العالمي، انطلقت قبل عقد أو نحو ذلك، وأنها لا بد مستمرة لسنوات عديدة قادمة، وأنّ السبب الأساسي في ذلك هو التأزم المتعاظم في أوضاع الناس المعيشية حول العالم بنتيجة جملة الأزمات الرأسمالية. ويوافق أيضاً على أنّ مستوى «النخب» السائدة حول العالم، هو في انحدارٍ مستمر، وخاصة النخب الغربية. ولكنّه عبّر عن عدم موافقته على فكرتين أساسيتين
أولاً من الصحيح أنّ هنالك حركة شعبية حول العالم، وأنها ربما تزداد انتشاراً وزخماً، وربما تستمر فعلاً لسنوات طويلة قادمة، ولكنّ هذا كله لا يعني أنها تزداد تنظيماً أو نضجاً؛ فإذا كان الجانب الإيجابي الظاهر من الحراكات الشعبية هو الإضرابات العمالية، خاصة في أوروبا، أو التحركات السياسية المنظمة إلى هذا الحد أو ذاك في أمريكا اللاتينية (كما تلك التي أوصلت لولا إلى الرئاسة مجدداً)، فإنّ الجوانب السلبية الأكثر امتداداً وسيطرةً، هي الاتجاهات المتعصبة قومياً ودينياً وطائفياً وثقافياً وإلخ، وكذلك الحركات «الحقوقية» الطابع التي لا تناضل فعلياً ضد المنظومة الرأسمالية وضد النخب الحاكمة، بقدر ما تصرف جهودها على تشتيت النضال الاقتصادي- الاجتماعي، إلى ذلك الحد الذي يصبح المرء مجبراً فيه على النظر جدياً في احتمال أنّ قسماً مهماً من هذه «الحراكات» يعمل كأداةٍ في يد النخب أكثر منه أداة ضدها (المقصود هو قسم واسع من حراكات «حقوق الإنسان» و«الخضر» و«المثليين» وإلخ).
ثانياً بما يخص سورية تحديداً، فإنّ الحديث عن «حركة شعبية كامنة»، ربما يندرج في إطار الأمنيات لا الوقائع؛ فلكي تكون هنالك حركة شعبية ينبغي أولاً أن يكون هنالك شعب! والواقع أنّ الشعب السوري في حال تهجيرٍ مستمرٍ ومتصاعد، إلى الحد الذي يمكن القول فيه إنّ الهدف الأول ينبغي أن يتركز في الحفاظ على وجود هذا الشعب قبل أي حديثٍ عن احتمال أن يقوم ذلك الشعب بحركة في وجه النخب المحلية.
الأفكار التي يطرحها صديقي هي أفكارٌ تستحق النقاش فعلاً، وأظن أنها مرّت بذهن قراءٍ آخرين لقاسيون، وليس في ذهن صديقي فقط، ولذا سأحاول فيما يلي أنْ أساهم - ضمن حدود فهمي لما جاء في الافتتاحية- في نقاش هذه الأفكار.

في الفهم العام للحركة الشعبية

إذا نظرنا إلى «الشعب»، كمقولة سياسية، (وليس كمقولة عرقية أو ثقافية)، فإننا سنجد أنفسنا أمام مقولة حديثة بالمعنى التاريخي؛ فـ«الشعب» كعنصر سياسي، لم يظهر على ساحة الفعل التاريخي بشكلٍ واضح المعالم إلا إبان الثورة الفرنسية 1789. وفي تلك المرحلة كانت مقولة «الشعب» تشمل العمال والفلاحين ومعهم البرجوازية، والذين تقاطعت مصالحهم في العداء المشترك للملكية الإقطاعية في حينه.
بهذا المعنى، يمكن القول بقدرٍ ما من التقريب إنّ بين أُولى الحراكات الشعبية (ببعدها السياسي) في العالم، تلك التي احتلت من خلالها جماهير باريس سجن الباستيل 1789، وكانت في حينه حركة عفوية وغير منظمة وبلا قادة.
ومنذ تلك اللحظة، أي قبل أكثر من 230 عاماً وحتى الآن، يسجل التاريخ مجموعة من الحراكات الشعبية المتعاقبة، بين نشاطٍ وسكون، كل منهما يأخذ نحو 50 عاماً. ودائماً ما يبدأ الأمر عفوياً، وبلا قادة وبلا برامج واضحة، ودائماً ما يحتاج عقداً أو أكثر ليصل إلى درجة معقولة من التنظيم لتحقيق الحد الأدنى على الأقل من التغيير المطلوب.
خلاصة القول في هذه النقطة، هي أنّ عفوية وعدم انتظام الحركة الشعبية، على المستوى العالمي أو المحلي، هي مرحلة ضرورية وموضوعية في تطورها باتجاه وعي الحركة لمصالحها، وباتجاه تنظيم صفوفها، وصولاً لتحقيق أهدافها.
جوهر فكرة الحركة الشعبية، أنها تعبير عن النشاط السياسي المتصاعد للجماهير. وهذا النشاط متأتٍ أصلاً عن سببين عامين واضحين، الأول هو أنّ النخب «فوق» لم تعد قادرة على الحكم بالطرق السابقة، ولم تعد قادرة على حل أيٍ من المشكلات الكبرى التي تواجه الناس. والثاني هو أنّ الناس نفسها «تحت» لم تعد قادرة على احتمال شكل الحكم السابق وطريقته التدميرية في توزيع الثروة وفي إدارة الأمور.
وربما من المهم أيضاً في رصد وجود الحركة الشعبية، وتطورها، الانتباه إلى أنّ الحركة الشعبية، أي النشاط السياسي المتصاعد للجماهير، تأخذ تعبيراتٍ متنوعةً إلى أقصى الحدود، وليست محصورة إطلاقاً بشكل التظاهر (وليس خافياً أنّ محاولة حصرها بهذا الشكل كانت إحدى أدوات التلاعب بها وبوعي الناس لها، حيث تتبخر الحركة إذا لم يعد هنالك مشي على الزفت!).
الحقيقة، هي أنّ أشكال الحركة تبدأ حتى من تغيّر منظومة تفكير الإنسان العادي، باتجاه الاهتمام المتصاعد بالأوضاع السياسية لمجتمعه، وله هو نفسه. وتمر عبر شتى أشكال النشاط الأخرى الفردية والجماعية.

في صعوبات هذا العصر

مما لا شك فيه، هو أنّ «النخب» وعبر ما يزيد عن 200 عامٍ من الحراكات الشعبية، قد تعلمت الكثير عنها، وتعلمت الكثير عن كيفية تخريبها من الداخل ومن الخارج، وعن كيفية التلاعب بها. ولذا فمن المفهوم أنّ أشكالاً عديدة مما يجري تقديمه كحراكات تغييرية هو في الواقع، وكما يشير صديقي محقاً، أدوات في يد النخب وضد الحركة.
ولعل بين أهم هذه الأدوات، هي قَسم صفوف الذين «تحت»، باستخدام شتى أنواع الأدوات الطائفية والقومية والثقافية والسياسية وإلخ. وهذه المساعي التي تقوم بها النخب هي جزء موضوعي من تطور الحركة الشعبية، فالمرور من العفوية إلى التنظيم، يعني ضمناً فهم الناس للألاعيب التي تسعى النخب من خلالها إلى تقسيمها عمودياً. سنتحدث عن سورية بشكل منفصل بعد قليل، ولكن ربما من المفيد الإشارة هنا إلى أنه بعد عشر سنوات، فإنّ الغالبية العظمى من السوريين الذين «تحت» لم يعودوا يعيرون أذناً لا للحديث عن تقسيمات طائفية، ولا قومية، ولا للحديث خاصةً عن «نظامٍ» و«معارضة»، بل يرون هذين الأخيرين في صفٍ واحد في نهاية المطاف هو صف النخب، وهم بذلك محقون تماماً، وهم بذلك يقطعون عتبةً مهمة جداً في تطور حراكهم وتطور تنظيمه...
وإذاً، فإنّ المرور من العفوية نحو التنظيم عبر سلسلة من الصعوبات الكبرى والتجارب المريرة هو قانونية يصعب القفز فوقها، وإنْ كان من الضروري العمل لتقليل آلامها قدر الإمكان.
وكذلك، فإنّ أدوات النخب مهما تطوّرت في تقسيم الناس، وفي محاولة منعهم من إيصال حراكهم إلى نهاياته، فإنّ استمرار ذلك الحراك، يعني أنّ أدوات التقسيم لم تنجح بإنهاء الحركة، حتى وإنْ نجحت في تأخير تطورها. وكما أنّ «النخب» قد تعلمت عبر قرنين أو أكثر كيف تتعامل مع الجماهير، فإنّ ذاكرة الجماهير هي الأخرى تختزن الكثير من المرارات في هذا السياق بالذات. ولذلك فإنّ قدرتها على تجاوز عوامل تقسيمها تتبلور أكثر فأكثر مع تبلور تعفن النخب وعجزها عن تقديم الحلول... ربما واحد من آلاف المؤشرات على ذلك، أنّ ما يسمى الإعلام الرسمي في كل بقاع العالم، أي الإعلام المدار من قبل النخب، بات مكافئاً في نظر الناس للإعلام الكاذب، وباتت الدعاية التي يقدمها دعاية عكسية، إلى الحد الذي بات هنالك كثيرون يصيغون مواقفهم على أساس ما يطرحه الإعلام الرسمي، بأن يقلبوا طروحات ذلك الإعلام رأساً على عقب... (وهي ليست أداة متطورة في تكوين المواقف بطبيعة الحال، ولكنها خطوة لا بد منها)..

1095-5

عالمية الحركة الشعبية

قبل الدخول في نقاش «الحركة الشعبية الكامنة» في سورية، من الضروري القول إنّ الحراكات الشعبية، إذا كانت قد بدأت كظاهرة سياسية قبل نحو مئتي عام، فإنها بدأت كظاهرة ضمن الحدود «القومية» للدولة الحديثة النشأة في حينه في أوروبا. ولم تتحول إلى ظاهرة عالمية، تتأثر وتؤثر بشكل كبير ضمن خريطة واحدة للعالم بأسره، إلا بعد ذلك بقرابة مئة عامٍ أخرى. وربما مثال كومونة باريس (1871) هو مثالٌ مرجعيٌ في رصد هذا التحول في معنى وتأثير الحركة الشعبية، والتي تطلّب القضاء عليها التحالف بين عدة برجوازيات أوروبية، متحاربة أساساً فيما بينها.
جذر المسألة، هو أنّ الرأسمالية كنظام اقتصادي- اجتماعي وسياسي وثقافي وإلخ، هي أول نظامٍ عالمي في التاريخ. سبق أنْ ظهرت إمبراطوريات كبرى احتلت مساحات كبرى في العالم، على غرار الإمبراطورية الرومانية والفارسية والعربية وإلخ، ولكنّ أيّاً منها لم تقدم نظاماً عالمياً واحداً يشمل العالم بأسره، ويشمل ضمناً مناطق سيطرتها. بل إنّ واحداً من الشروط الضمنية لاستمرار سيطرة الإمبراطوريات التاريخية الغابرة، كان تجنب التدخل المباشر في إعادة تكوين أنظمة الحياة في المناطق الجديدة التي تتم السيطرة عليها.
على العكس من ذلك كلّه، فإنّ التوسع الرأسمالي الذي شمل العالم بأسره، وإنْ كان قد استخدم كما في حالات التوسع السابقة الأسلحة والحروب... فإنّ أهم مدفعٍ استخدمته الرأسمالية في توسعها، وكما يقول البيان الشيوعي هو «مدفعها البضاعي»، ولاحقاً المالي؛ أي نموذجها الاقتصادي الاجتماعي الذي جاء على قاعدة ثورة علمية في التصنيع، سمحت بإغراق الدول القومية بالبضائع، ومنها فاضت نحو العالم بأسره.

الداخلي والخارجي

منذ ذلك الحين، وبشكلٍ أكثر وضوحاً مع مطلع القرن العشرين، بات النظام القائم نظاماً عالمياً، وباتت الحروب حروباً عالمية، وباتت الثقافة عالمية، والاقتصاد عالمياً وإلخ... وبطبيعة الحال فإنّ الحركة الشعبية هي الأخرى باتت عالمية.
ربما أوضح الأدلة على درجة الترابط هذه هي حركة التحرر الوطني في بلدان «العالم الثالث» في النصف الأول من القرن العشرين؛ فكلّ دارسٍ موضوعي لحركة التحرر هذه، ولِمَ استطاعت تحقيقه، يعلم يقيناً، أنّ نضالات الشعوب المستعمرة رافعة أساسية في عملية التحرر، ولكنها ليست الوحيدة إطلاقاً، بل هنالك أيضاً الوضع العالمي المستجد مع نشوء وانتصار الاتحاد السوفييتي، وبعده الصين. وهو الأمر الذي شكّل عاملاً حاسماً في تحقيق الاستقلال الوطني لعددٍ كبير من الدول المستعمَرة.
منذ ذلك الحين، بات التداخل بين التطورات على المستوى العالمي والمستويات الإقليمية والمحلية، عالياً إلى حدودٍ يصعب أحياناً تخيلها، بل ويمكن أن تبدو حقائقها - فيما لو كُشفت أمام الناس- ضرباً من ضروب ما يسمى «نظريات المؤامرة».. كالقول مثلاً إنّ الأنظمة ومعارضاتها في عدد غير قليل من دول «العالم الثالث»، هما على حدٍ سواء، أدوات في يد المركز الغربي، وذلك بغض النظر عما يقوله هؤلاء وأولئك!
بكلامٍ آخر، فإنّ الفصل بين «الداخلي» و«الخارجي» بات أكثر عُسراً وصعوبة، فإذا كانت الظاهرة الرأسمالية قد تحولت إلى ظاهرة عالمية، وباتت شتى البلدان أجزاءً مكونة في هذه الظاهرة، فإنّ ما قد يبدو خارجياً بالنسبة لسورية مثلاً، هو في حقيقة الأمر داخليٌ.
بطريقة أكثر مباشرةً، فإنّ الحرب في أوكرانيا مثلاً، ليست شأناً خارجياً بما يخص سورية اليوم. كذلك الأمر مع وضع الدولار عالمياً، فهو شأن داخلي سوري أيضاً! وحين نقول إنّ الدولار يحتل سورية، وأنّ المتشددين في النظام والمعارضة على حدٍ سواء يتجاهلون ذلك، فهذا ليس شأناً خارجياً، بل هو شأن صميمي داخلي سوري.
بالمقياس نفسه، ورغم الصحة التي لا نقاش فيها، للقول بأنّ مهمة الحفاظ على الشعب السوري وإيقاف تجريفه هي مهمة تكاد لا تعلوها مهمة، إلّا أنّ تحقيق هذه المهمة نفسها، لا يمكن أن يمرّ إلّا عبر التغيير الجذري الشامل للمنظومة القائمة محلياً، لأنّ هذه المنظومة أثبتت على الأقل عجزها عن إيقاف حال التدهور، والحق، أنها أثبتت أنها جزءٌ أساسي وفاعلٌ في عملية التهجير وفي عملية التدهور... وإذا كان السبيل لإيقاف الانهيار هو التغيير الجذري، فإنّ طريقه هو الحل السياسي عبر 2254، والوصول إلى هذا الحل يحتاج وضعاً عالمياً محدداً، ووضعاً داخلياً وإقليمياً محدداً، وهذا وذاك يُسهم في تكوينهما التغيّر العالمي الجاري، وأساس هذا التغيّر هو الحركة الشعبية العالمية، التي تتمظهر بأشكال غنية ومتعددة إلى أبعد الحدود، بما في ذلك بالتعبير عن مصالحها العامة عبر سياسات دول كالصين وروسيا، وبغض النظر عما تريده وتنشده السلطات في تلك الدول... فمجرد العمل ضد التبادل اللامتكافئ عالمياً، يعني ضمناً العمل لا ضد الأمريكان ودولارهم فقط، بل وأيضاً ضد النخب في منطقتنا «نظماً» و«معارضات» والتي جرى تفصيلها ابتداء من ستينيات القرن الماضي كتابع اقتصادي، ومن ثم سياسي للمركز الغربي الدولاري...
بهذا المعنى، فإنّ من تبقى من السوريين في سورية، وصحيح أنهم نصف السوريين، لكنهم بالملايين، هؤلاء ما زالوا يحاولون البحث عن سبلٍ لينشطوا وليتحركوا، حتى وإن بأشكالٍ رمزية، ولكنهم أيضاً يحملون على أكتافهم لا عبء المرارات السابقة فحسب، بل وأيضاً دروسها، ولن يلقوا بأنفسهم نحو أشكالٍ يائسة من الحراك، بل سيبقون كامنين حتى تحين الظروف الملائمة... وحتى ذلك الحين سيجربون من حين إلى آخر اختبار الظروف وجاهزيتها... هذا المقصود- فيما أعتقد- بأنّ الحركة الشعبية في سورية كامنة... أي أنها لم تمت، ولن تموت قبل الوصول إلى أهدافها. وكما يقول فيكتور هوغو في البؤساء «الوقوف هو استعادة القوى. إنه السكون المسلح اليقظ. إنه الأمر الواقع الذي يقيم أرصاداً ورقباء ويلزم جانب الحذر. الوقوف يفترض نشوب المعركة أمس، ونشوبها غداً».. وكما يقول أيضاً فإنّ «الغد يقوم بعمله على نحو لا يقاوَم، وهو يقوم به منذ اليوم. وهو يبلغ غاياته، أبداً، بوسائل غير متوقعة»..

معلومات إضافية

العدد رقم:
1095