في فهم معنى «الغاز مقابل الروبل» 10- التضخم مجدداً، ووصولاً لعتبة البترودولار

في فهم معنى «الغاز مقابل الروبل» 10- التضخم مجدداً، ووصولاً لعتبة البترودولار

هنا الحلقة العاشرة، ويمكن الرجوع عبر الروابط للحلقات السابقة: الأولى (1- العقوبات وسعر الصرف)، الثانية (2- إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا)، الثالثة (3-خلية الرأسمالية الأولى)، الرابعة (4- خطوة أخيرة قبل ظهور النقد)، الخامسة (5-أنتم ملح الأرض!)، السادسة (6- العملة رمزاً للقيمة!)، السابعة (7- رأس المال!)، الثامنة (8- الربح!)، التاسعة (9-التضخم!)

وصلنا في الحلقة الماضية إلى الحديث عن التضخم والانكماش، وقلنا إنّ التضخم هو أداة نهب أساسية ضمن الاقتصاد الرأسمالي. سنضيف هنا بعض الكلام عن التضخم الذي سيساعدنا في تلمس وضع الدولار عالمياً ودوره، ثم سننتقل لقراءة تاريخية مختزلة وصولاً لوقتنا الراهن وللآفاق المحتملة بعده.

(الهدف النهائي لهذه السلسلة هو أن يتمكن القارئ من تكوين رأيٍ مستنير مما يجري هذه الأيام من تحولات كبرى على الساحة العالمية بما يخص البترودولار والدولار نفسه، وضمناً مسألة (الغاز بالروبل) بوصفها نقطة علامٍ في الانتقال نحو مرحلة جديدة، ليس بالنسبة لروسيا وحدها، بل وللعالم بأسره...)
وإذاً فلنتابع...

مراجعة سريعة وفكرة

سنمر على بضع أفكار وردت في الحلقة السابقة لنؤسس عليها ونتابع بعدها:
• التضخم هو تعبير عن أنّ (الكتلة النقدية في التداول أو المعروض النقدي) أكبر من (الكتلة النقدية الضرورية والتي تساوي كتلة البضائع مقسومة على سرعة الدوران).
• وإذا كان قانون العرض والطلب يطبق على البضائع، فهو أيضاً يطبق على النقد؛ فحين يكون المعروض النقدي فائضاً عن الطلب (أي عن الكتلة النقدية الضرورية)، فإنّ ما يمثله (أو ما يرمز إليه) هذا النقد من قيمة، يصبح أقل. التعبير الأوضح عن هذه المسألة والذي يعرفه الجميع، هو ارتفاع الأسعار... (كميات نقد أكبر، للحصول على البضائع نفسها).
• حين ترتفع الأسعار، فإنّ الأجور، حتى وإن بقيت محافظة على قيمتها الاسمية، إلا أنّ قيمتها الفعلية، أي قيمتها الشرائية، تنخفض. ويمكن حتى أن تزداد الأجور اسمياً ولكن تكون زيادتها أقل من زيادة الأسعار (أي أقل من نسبة زيادة التضخم)، وتكون فعلياً قد انخفضت.
• إضافة لأشكال النهب المختلفة التي يتعرض لها أصحاب الأجور ضمن التشكيلة الرأسمالية، (والتي مررنا عليها في حلقة الربح)، فإنّ هنالك عملية نهبٍ للأجور، تجري بشكل مستمر وعلى أساس دوري، عبر التضخم... فالعامل يستمر بالإنتاج والعمل عدد الساعات نفسه، وغالباً أكثر، ولكن راتبه يشتري بضائع أقل... ما يعني من وجهة نظر الاقتصاد الكلي أنّ حصة أصحاب الربح تزداد -بشكل إضافي- على حساب حصة أصحاب الأجور، عبر التضخم.
• وللمحافظة على هذا الربح وتعظيمه، فإنّه يتم التلاعب بطريقة حساب التضخم باتجاه تخفيض الرقم الحقيقي له؛ لأنّ الطبيعي أنّ نضال أصحاب الأجر، النقابي والسياسي والفكري، سيتجه نحو المطالبة على الأقل بأن تتم زيادة الأجور بنفس مقدار زيادة التضخم... ولذا، وعلى العموم، فإنّ كل الأرقام التي تعلنها الدول عن حجم تضخم عملاتها هي أرقام مزورة انخفاضاً، والأرقام الحقيقة دائماً أكبر، وأحياناً أكبر بصورة فلكية... والطريقة الأساسية لحساب النسبة الحقيقية للتضخم هي الحساب على أساس سلة سلع محددة، متوازنة، ومتكاملة... أي ببساطة حساب التضخم انطلاقاً من تغيرات أسعار مجموعة واسعة من البضائع.
إذا أخذنا حالة بلد واحد، ولتكن عملته هي الليرة، فإنّ أصحاب الربح ضمن هذا البلد ينهبون أصحاب الأجر بسبلٍ عديدة، أساسها هو نهب القيمة الزائدة، أي نهب العمل الإضافي المجاني الذي يقدمه العامل لرب العمل. ولكن ضمن أهم هذه السبل، وكما أشرنا أعلاه: التضخم. ما يعني أن كل تضخم إضافي لعملة البلد المعني هو ضمنياً عملية نهب إضافية من أصحاب الأجور في ذلك البلد...
فلنتخيل الآن أنّ هنالك عملة لكل العالم، عملةً تُستخدم في العالم بأسره وكأنه بلد واحد... لن نحتاج إلى سعة خيال لتصلنا الصورة، فهي الواقع الذي نعيشه: واقع عالم الدولار.
عندها يمكننا أن نقول ببساطة: إنّ كل تضخم إضافي للدولار، هو عملية نهب إضافية، ليس لأصحاب الأجور الأمريكيين فقط، بل وللعالم بأسره! وما نتحدث عنه هو التضخم الحقيقي وليس الأرقام التي يعلنها المسؤولون الماليون والبنك الفيدرالي الأمريكي، رغم أنه حتى هذه نفسها تشير إلى حجم تضخم هائل للدولار، هو في الحقيقة أقل بكثير من التضخم الفلكي الحقيقي له.

ثلاثة تعبيرات للتضخم

التعبير الأول (الرسمي):

المخطط البياني هذا هو الصورة الرسمية التي يتم تقديمها لنا عن حجم تضخم الدولار خلال المئة عامٍ الماضية...


1072b


لكي يصبح هذا المخطط محسوساً بشكل أكبر، فيمكن أن نقرأه بالشكل التالي: يقول هذا المخطط إنّ نسبة التضخم التراكمية خلال ما يقرب من مئة عامٍ هي 2326%، وهذا يعني نظرياً أنّ البضائع التي كان يمكن أن يشتريها دولارٌ واحد عام 1913 باتت تحتاج 23.26 دولاراً عام 2015 ليتم شراؤها هي نفسها...
هذه الطريقة في حساب التضخم هي طريقة مشوهة بشكل مقصود، وتنطلق بالأساس من تشويه طريقة حساب الدخل الوطني؛ حيث هنالك طريقتان أساسيتان في حساب التضخم: الطريقة البرجوازية/الميركانتيلية التي تعتبر كل أنواع الدخول جزءاً من الدخل الوطني الإجمالي، وبذلك فإنها لا تحتسب الإنتاج الحقيقي فقط، بل ومعه الخدمات المالية وغيرها التي لا تضيف أية قيمٍ حقيقية. طريقة الحساب هذه تقوم بتضخيم وهمي لكتلة البضائع المنتجة، وتسمح بالتالي بطباعة كمية أكبر من النقود، أي تسمح برفع التضخم بشكل غير معلن، وهذا الأمر مقصود كما أسلفنا بوصفه إحدى أدوات النهب، وإحدى أدوات التوزيع الثانوي للدخل الوطني من الأجور باتجاه الأرباح... أي وسيلة نهب إضافية من جيوب الفقراء باتجاه جيوب الأغنياء.
الطريقة الثانية في حساب الدخل الوطني، هي الطريقة الماركسية، التي تحسب ضمن الناتج الوطني الإجمالي فقط الإنتاج الحقيقي المتركز في خمسة قطاعات هي: (الصناعة، الزراعة، البناء، النقل الإنتاجي، التجارة الداخلية)...

التعبير الثاني (على أساس تغير أسعار البضائع):

فلنتذكر النسبة التي قالها لنا المخطط السابق (أي 2326%)، ولنحاول أن نحسب بأنفسنا نسبة التضخم على أساس أسعار البضائع، ولنأخذ أهم بضاعة تأشيرية: الذهب.
وسنحسب تضخم سعر الذهب ضمن فترة زمنية أقل حتى من التي يغطيها المخطط البياني السابق؛ سنحسبه بين عامي 1944 و2022:
مع نهاية مؤتمر بريتين وودز، تم تثبيت سعر أونصة الذهب عند 35 دولاراً، أي سعر غرام الذهب الواحد عند 1.125 دولار تقريباً، وسعره اليوم هو 59.6 دولاراً. أي أنّ نسبة تضخمه التراكمية بين هذين التاريخين هي حوالي 5298% أي أنّ التضخم وفقاً لسعر الذهب هو أكثر من ضعف التضخم الرسمي، (وإذا طابقنا الفترتين الزمنتين تماماً، فإنه سيصل إلى حوالي ضعفين ونصف).
وبالمختصر، فإنّ التعبير الثاني للتضخم، وهو تعبير أكثر قرباً من الحقيقة، يكشف لنا عن حجم «تلطيف» أرقام التضخم المعلنة رسمياً، أي عن حجم «تلطيف» النهب الجاري عبر التضخم.

التعبير الثالث (على أساس تغير قيم البضائع):

حساب التضخم على أساس تغير الأسعار الفعلية للبضائع بين نقطتين زمنيتين، ليس حساباً دقيقاً هو الآخر:
كنا قد مررنا في حلقات سابقة من هذه السلسلة على تعريف القيمة، قيمة أية بضاعة، وقلنا إنها عدد ساعات العمل الضروري اجتماعياً لإنتاجها. يسمح هذا التعريف باستنتاج واضحٍ هو أنّ الاتجاه التاريخي لقيم مختلف أنواع البضائع يميل دائماً نحو الانخفاض؛ لأنّ تطور القوى المنتجة يعني أنّ البضائع نفسها بات يمكن إنتاجها بعدد ساعات أقل فأقل، أي بقيم أقل فأقل.
ولأنّ السعر ليس إلا انحرافاً عن القيمة (هبوطاً أو صعوداً)، فانخفاض القيمة يعني ضمناً أنّ المؤشر المرجعي الذي يتحرك حوله السعر قد انخفض هو الآخر... وبالتالي فإنّ الاتجاه التاريخي الموضوعي للأسعار ينبغي أن يتجه نحو الانخفاض! وهذا معاكس تماماً لما رأيناه، سواء في المخطط الرسمي السابق، أو في حساب التضخم الذهبي. وهذا ما نراه أيضاً في كل العالم وبالنسبة لكل العملات... أي أنّ الطريقة التي قلنا عنها في الحلقة السابقة إنها الطريقة الصحيحة لحساب الحجم الحقيقي للتضخم (على أساس تغير أسعار البضائع بين فترتين زمنيتين)، أو التي سميناها هنا التعبير الثاني للتضخم، هي أيضاً ليست الطريقة الأكثر دقة لحساب التضخم، وهي أيضاً تخفض قيمته الفعلية...
وبالمختصر، فالتضخم أكبر بما لا يقاس من الأرقام والحسابات الرسمية وغير الرسمية... وليس هذا غريباً حين نقرنه بجوهره الذي تحدثنا عنه أعلاه، أي بوصفه أداة للنهب، وبوصفه بالتالي إحدى الأدوات التي يستخدمها أباطرة المال (الذين في الواجهة) والذين باتت ثرواتهم بمئات مليارات الدولارات، ومن خلفهم وفوقهم الأباطرة الحقيقيون الذين تقاس ثرواتهم بترليونات الدولارات!


1072-14


ست مراحل

التركيز الذي سلّطناه على مسألة التضخم، لا ينبغي أن يقدم إيحاءً خاطئاً بأنّ «التضخم هو المشكلة»، على العكس من ذلك، فإنّ التضخم هو فقط أحد أعراض المرض. لكنّ ميزته هي أنّه عَرضٌ من النوع الفريد الذي تسمح دراسته بالاستعانة بقانون القيمة وقوانين الرأسمالية الأخرى، بالوصول إلى تشخيصٍ على درجة جيدة من الدقة لحقيقة المشكلة.
وينبغي أن نأخذ في الاعتبار أيضاً، أنّ التضخم لم يكن بالأهمية نفسها طوال تاريخ الرأسمالية، ولكنه بدأ باكتساب أهمية كبرى بالتوازي مع تطورها التاريخي في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين نحو الإمبريالية، وخاصة مع نشوء رأس المال المالي. واكتسب التضخم أهمية أكبر وأكبر مع بريتين وودز واحتلال الدولار لموقع العملة العالمية، وتعزز موقعه أكثر مع تطورين لاحقين كبيرين هما: اكتمال نشوء منظومة الاستعمار الاقتصادي أواسط الستينات (التبادل اللامتكافئ)، ومن ثم أوائل السبعينيات مع البترودولار.
والمرحلة التي نعيشها اليوم، والتي بات عنوانها هو (غاز روبل)، يسميها البعض محقاً (إلى حد ما) بأنها مرحلة انفجار فقاعة التضخم الدولاري، والحقيقة أنها مرحلة انفجار فقاعة التضخم على العموم...
لكي يكون الكلام السابق أكثر وضوحاً، سنمر على هذه التطورات التي اختزلناها بشدة في
الجمل القليلة الماضية، عبر ست فقرات أقل اختزالاً:

أولاً: ما قبل بريتين وودز

وقعت اتفاقية بريتين وودز عام 1944، والتي لم يقبل الاتحاد السوفييتي بتوقيعها ولا بالالتزام بها. قبل ذلك التاريخ ولعدة قرون، كان نظام التبادلات الدولية أبسط بكثير مما نراه اليوم؛ كانت هنالك دول وممالك وإلخ لها عملاتها المحلية، وهذه العملات على العموم كانت صنفين: العملات التي تحمل قيمها في مادتها، والعملات الورقية (أو الإلزامية fiat money).
فأما العملات التي تحمل قيَمها في مادتها، فالمقصود بها بشكل خاص العملات الذهبية والفضية، وهذه كان يمكن استخدامها ببساطة في التبادلات الدولية، لأنّ وزنها، مادتها الفيزيائية، هو ما يحدد قيمتها. وأما العملات الورقية، والتي لا تحمل القيمة بذاتها بل ترمز إليها (عبر التعهد القانوني لمُصدرها -أي للبنك المركزي- بأنه مستعد لتبديلها بأي وقتٍ مقابل ما ترمز إليه من ذهب أو فضة)، فإنّ استخدامها في التبادلات الدولية كان أقلّ موثوقية، لأنّ أي تغير سياسي في العلاقة بين الدول يمكنه أن يؤثر في قدرة حامل الأوراق المالية على تحويلها من رمز للقيمة إلى قيمة، أي تحويلها من ورق إلى ذهب أو فضة...
ولذلك، فقد كان العالم لبضعة قرون ما قبل القرن العشرين، يشهد ظاهرتين أساسيتين بما يخص تداول العملات على المستوى الدولي:
الظاهرة الأولى: هي تلك المترافقة مع موجات الاستعمار الأوروبي، والتي كان يفرض من خلالها المستعمر عملته على الدول التي يحتلها لتكون هي وسيلة التداول ضمنها، ولكي يستفيد من ذلك بتقوية عملته، وأهم من ذلك ليستفيد عبر تضخمها بنهبٍ إضافي لشعوب تلك الدول.
الظاهرة الثانية: هي أن الدول الاستعمارية، والدول على العموم، كانت تتبادل فيما بينها مستندة إلى معيار الذهب؛ أي أنني يمكن أن أقبل أن تدفع لي بعملتك الورقية، ولكن على أن أكون قادراً على استبدالها بأي وقت أشاء بما تمثله من ذهب. وكانت تجري المقاصات والتبادلات على هذا الأساس؛ فإما ذهب وفضة فيزيائيان، أو عملات ورقية هي رمز للذهب والفضة.

ثانياً: بريتين وودز

كما أسلفنا فإنّ اتفاقية بريتين وودز قد جرى توقيعها عام 1944، أي عملياً مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، ولكن الأهم أنها وقعت مع توضح نتائج تلك الحرب بخسارة ألمانيا وحلفائها وبانتصار الاتحاد السوفييتي والحلفاء، وبات ممكناً في حينه الحديث عن اتفاق دولي جديد حول النظام المالي العالمي ضمن عالم جديد...
ولكن لفهم طبيعة ذلك النظام، ينبغي أن نأخذ بالاعتبار، ليس فقط النتائج السياسية النهائية للحرب، بل وأيضاً العسكرية والاقتصادية، والتي يمكن تلخيصها باختصار شديد بما يلي:
الاتحاد السوفييتي منتصر سياسياً، ولكن مع خسارة حوالي 25 مليون إنسان، ومع دمار هائل في كل جوانب الاقتصاد والبنية التحتية، ودون امتلاك قنبلة نووية حتى عام 1949.
أوروبا مدمرة بالكامل، ورؤوس الأموال الأوروبية هاجرت كلها تقريباً إلى الولايات المتحدة، وكذلك العلماء والكوادر الأكثر أهمية وتطوراً في أوروبا هم أيضاً هاجروا بقسمهم الأعظم إلى الولايات المتحدة. وفوق ذلك، فإنّ أوروبا خرجت من الحرب مثقلة بديون مهولة للولايات المتحدة مقابل الأسلحة والخدمات الأخرى التي اشترتها منها خلال الحرب.
الولايات المتحدة المنتصر الأكبر بكل المقاييس، رغم أنها لم تعلن اشتراكها بالحرب إلا في نهاية عام 1941، (بعد الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر)، أي بعد أكثر من سنتين من بداية الحرب. ومجموع خسائرها البشرية كان بحدود 400 ألف وفقاً للإحصاءات الأمريكية. وطبعاً امتلكت القنبلة النووية قبل الآخرين، واستخدمتها في ناغازاكي وهيروشيما.
وبالمختصر، فإنّ الولايات المتحدة قد خرجت من الحرب العالمية الثانية وهي تنتج ما يزيد عن ثلث الناتج الإجمالي العالمي، وما يصل إلى نصف ناتج العالم الرأسمالي. وفوق ذلك كانت في موقع المتحكم والمسيطر بما يتعلق بكامل دول أوروبا الغربية، وكانت هي عملياً المفاوض الأساسي مقابل السوفييت في مؤتمرات يالطا وبوتسدام وطهران... وربما تكشف الأحداث التي نعيشها حالياً أنّ الأمر لم يتغير كثيراً من حينه وحتى الآن، بما يخص سيطرة وهيمنة الولايات المتحدة على أوروبا بأكملها...
أياً يكن الأمر، لهذه الأسباب وغيرها، فقد تم توقيع بريتين وودز التي وضعت أساس النظام المالي العالمي الذي نعيش تحت عسفه منذ ذلك الحين. وأهم ما جاء فيها:
الحفاظ على معيار الذهب للتبادل الدولي، ولكن اعتماد الدولار أيضاً كعملة عالمية على أن تلتزم الولايات المتحدة بتغطية الدولارات التي تطبعها بالذهب، بحيث يمكن لأي حامل للدولار أن يأخذ من الولايات المتحدة الأمريكية ما يرمز إليه من ذهب في أي وقت يشاء. وتم تثبيت ما يرمز إليه الدولار من ذهب بأنه (أونصة الذهب تساوي 35 دولاراً، أي 1 دولار = 0.88867 غ ذهب، أو 1 غ ذهب = 1.12527 دولار). أي أنّ على الولايات المتحدة أن تخزّن مقابل كل دولارٍ تطبعه 0.88867 غرام من الذهب.
تشكيل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بوصفهما المؤسستين الماليتين الدوليتين الأساسيتين، ومقراهما واشنطن.

ثالثاً: الاستعمار الاقتصادي (التبادل اللامتكافئ)

مع: 1- انتصار الاتحاد السوفييتي العسكري والسياسي ودعمه الواسع لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث، 2- ومع اتساع هذه الحركات نفسها ونشاطها الكثيف، 3- ومع الانتصار الشكلي لدول الاستعمار الأوروبي الغربي التقليدي في الحرب العالمية الثانية، ولكن الدمار الفعلي، 4- ومضافاً إلى ذلك رغبة الولايات المتحدة بالحلول محل دول الاستعمار القديم... كل هذه العوامل أدت بمجموعها إلى الانتهاء التدريجي ولكن السريع نسبياً لحقبة الاستعمار الأوروبي التقليدي التي استمرت إلى ما يزيد عن ثلاثة قرون.
ولكن وكما يقال، فإنّ الاستعمار قد خرج من الباب وعاد من الشباك؛ عبر ما بات يعرف بالاستعمار الاقتصادي، والذي رست أسسه بشكل متكامل أواسط ستينيات القرن الماضي.
باختصار شديد، فإنّ للاستعمار الاقتصادي أربع آليات أساسية:
مقص الأسعار: المقصود به هو فرض أسعارٍ منخفضة جداً لمختلف أنواع الخامات، والتي تتركز في دول العالم الثالث والثاني، بمقابل أسعارٍ باهظة جداً للبضائع المصنعة... وهذا يحتاج لضرب كل أنواع النمو والتنمية في دول العالم الثالث والحفاظ على تخلفها بمختلف السبل.
التبعية التكنولوجية: وهذه تتكامل مع الآلية الأولى وتغذيها، والمقصود هو أنّ الدول المحيطية بأسرها ينبغي أن تبقى تابعة تكنولوجيا للمركز الغربي، بحيث تستورد منه التكنولوجيا، وتخضع لشروط الاستيراد، ليس المتعلقة فقط بالسعر العالي، ولكن أيضاً بمحدودية الصلاحية الزمنية لها وبمحدودية مجالات استخدامها، وهما محدوديتان تعززان استمرار التبعية واستمرار عمليات الاستيراد.
الديون: والتي يلعبان ضمنها دوراً محورياً صندوق النقد والبنك الدوليان، وباختصار تستخدم آلية الديون بما تتضمنه من شروطٍ قاسية وفوائد كبيرة، كآلية لترسيخ التبعية ولتشغيل الشركات الغربية نفسها التي تقوم بالإقراض، كأنما تقرض نفسها، وأسوأ من ذلك تستخدم الديون لفرض «تغييرات هيكلية» عبر «التوصيات» كشرط للإقراض، لتدمير أية إمكانات إنتاج وإنماء وتنمية حقيقية في البلدان المستدينة.
هجرة العقول: والتي تتم عبر شكلين، الأول فيزيائي: أي أن ينتقل أصحاب العقول من بلدانهم التي تعلموا ضمنها ليعملوا في المركز الغربي حيث الشروط أفضل بما لا يقاس من شروط الحياة في بلدانهم الأصلية، والثاني وهو الأكثر نهباً، هو الهجرة عبر الانترنت، حيث يستمر العقل بالعمل ضمن بلده نفسه ولكن عبر الانترنت لصالح المركز الغربي، وذلك مقابل فتات هو أقل بما لا يقاس مما تتطلبه المعيشة في المراكز الغربية...
يمكن توصيف النظام المالي والاقتصادي الدولي القائم حتى وقتنا هذا، بأنه قائم على دعامتين أساسيتين: التبادل اللامتكافئ (أو الاستعمار الجديد)، والدولار عملة عالمية...
فمختلف أنواع التبادلات اللامتكافئة منذ الستينيات وحتى مطلع الألفية، كانت تمر عبر الدولار. وإضافة لعملية النهب التي تجري عبر هذه التبادلات، فقد كان يجري مضاعفة هذا النهب عبر التضخم الدولاري...
فمنذ تم توقيع بريتين وودز، استغل أصحاب الدولار ميزة اعتباره عملة عالمية، لكي يشغلوا آلات الطباعة دون توقف. وباتوا عملياً يطبعون أوراقاً لا تكلفهم أي شيء تقريباً، ويأخذون مقابلها ثروات حقيقية من العالم بأسره.
وصلت تكلفة طباعة ورقة المائة دولار بأقصى أحوالها إلى 13.1 سنت، في حين يشتري بها أصحاب الدولار، بضائع بقيمة 100 دولار... أي أنّ نسبة ربحهم من هذه العملية لا تقل عن 76 ألف بالمئة... وهي نسبة فلكية. يقول ماركس إنّ رأس المال حين يصل إلى نسبة ربح 300% فإنه لن يتورع عن القيام بأية جريمة للحفاظ على نسبة الربح هذه!
فكيف يمكن أن نصف نسبة ربح هي 76 ألف بالمئة؟ وكيف يمكن أن نصف حجم ونوع الجرائم التي يمكن أن ترتكب للحفاظ عليها؟ ببساطة بأن ننظر إلى الواقع وإلى جرائم الولايات المتحدة حول العالم.


1072-24


رابعاً: البترودولار (مقدمة)

السؤال المنطقي الذي لابد من الإجابة عليه، هو لماذا سكتت الدول الأخرى عن عملية النهب الدولاري هذه؟
بداية، فإنه في المرحلة من بريتين وودز وحتى مطلع السبعينات، فإنّ هذه العملية لم تكن معلنة، أي أنّ الولايات المتحدة كانت تطبع دولاراتها بلا توقف ويجري استخدامها في الأسواق العالمية، ولم يكن من الممكن احتساب الكتلة الإجمالية لها ومقارنتها بحجم المخزون الذهبي لدى الولايات المتحدة.
إضافة إلى ذلك، فإنّ الموقع المتقدم للولايات المتحدة اقتصادياً ونووياً وسياسياً في تلك المرحلة، وحالة الاستقطاب الدولي بين المعسكرين الأمريكي والسوفييتي، أبقت قسماً كبيراً من سلوك الولايات المتحدة خارج المساءلة ضمن المعسكر الغربي.
وفوق هذا وذاك، فإنّ عمليات الانتشار العسكري عبر الناتو وعبر القواعد العسكرية الأمريكية التي بدأت من حينه، قد ساعدت هي الأخرى بإبقاء موقع الدولار خارج المساءلة.
رغم ذلك كلّه، فإنّ المسألة كان لابد له من أن تفتضح في نهاية المطاف؛ ومن القصص الشهيرة المعروفة في نهاية الستينيات حول هذه المسألة، هي الزيارة الشهيرة لشارل ديغول إلى الولايات المتحدة، والتي حمّل طائرته خلالها بكم هائل من الدولارات ومطالباً باستلام مقابلها الذهبي، وتم له ذلك بالفعل، ويحكي عن أنّ الكم كان 200 طن من الذهب.
كانت هذه «الفعلة» التي «ارتكبها» ديغول، حاسمة بما يخص مصيره هو نفسه، وبما يخص المصير العالمي لاتفاقية بريتين وودز، حيث لم تمر بعدها بضع سنوات حتى خرج نيكسون معلناً انتهاء ارتباط الدولار بالذهب، لتبدأ مرحلة جديدة هي مرحلة البترودولار، والتي نعيش اليوم نهاياتها...

في الحلقة القادمة:
البترودلار
غاز روبل
آفاق

معلومات إضافية

العدد رقم:
1072
آخر تعديل على الإثنين, 30 أيار 2022 12:32