ماذا يعني الاستقلال اليوم؟!
ريم عيسى ريم عيسى

ماذا يعني الاستقلال اليوم؟!

يصادف اليوم 17 نيسان الذكرى السادسة والسبعين لاستقلال سورية عن الاستعمار الفرنسي، بجلاء آخر جنود الاحتلال من سورية، والذي كان نتيجة نضالات وتضحيات على مدى عقود للسوريين الوطنيين في وجه الاستعمار الفرنسي، وحالة الوصاية التي مارستها القوى الاستعمارية في بلدنا ومنطقتنا، وفي كافة أنحاء العالم، من خلال الأدوات العسكرية بالدرجة الأولى، والتي من خلالها تحكمت بكافة مفاصل الدولة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لإبقاء الشعوب تحت رحمتها وحرمانها من حقها في تقرير مصيرها، وبالتالي من حقها في إدارة عجلة الحياة بكافة نواحيها فيما يعود بالفائدة إليها بالدرجة الأولى، وليس للمستعمر.

أتى استقلال سورية في تلك المرحلة التاريخية، والتي كانت تشهد تحولاً مهماً في موازين القوى الدولية، الأمر الذي خلق أيضاً الظروف الملائمة لشعوب كثيرة- منها الشعب السوري- أن تستثمر الفرصة التاريخية لإنهاء هذه الاحتلالات، وإخراج آخر فلولها من أراضيها، لتأخذ زمام الأمور، وتبدأ بالنهوض بشعوبها واقتصاداتها وكل جوانب الحياة العامة فيما يحقق إرادتها الحقيقية. على الرغم من أن الاستقلال كان نقطة تحول تاريخي مهم إلا أنها كانت فقط نقطة البداية، حيث توجب على الوطنيين السوريين الاستمرار بالنضال لمعالجة عواقب كافة الأدوات التي استخدمها الاستعمار لإضعاف الدولة والشعب، بما في ذلك تكريس التقسيم على أسس جغرافية وطائفية وقومية، بالإضافة إلى الأدوات التي كان لها تأثيرات سلبية على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية (ويمكن أن نرى اليوم ذات التأثيرات في سياق العصر الراهن). وكان لإرادة الشعب الدور الأكبر في انطلاقة بعد الاستقلال، التي أدت إلى الحفاظ على وحدة البلاد، والمضي قدماً في وضع الحياة بكافة جوانبها على مسارها الصحيح والوطني.
لكن ذات التحول التاريخي في الموازين الدولية الذي خلق البيئة الملائمة للكثير من الشعوب للتخلص من الاحتلالات ذات الطابع العسكري الذي كان العنوان الأساسي في التوازن العالمي القديم، ولدى الدول الاستعمارية في الخارطة الدولية القديمة، هذا التحول التاريخي نفسه أتى بتوازن عالمي جديد ومعه دول استعمارية جديدة، والتي لم تستخدم ذات الأدوات التقليدية، أو حتى الاحتلال المباشر، بالرغم من أنها في الجوهر كانت ذات الدول، ولكن بواجهة جديدة وعنوان جديد، وهو المعسكر الإمبريالي الرأسمالي، والذي عمل على تطوير أدواته الاستعمارية ضمن التوازن الدولي الجديد خلال ما يقارب العقدين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
في بدايات ظهور التوازن الدولي الجديد آنذاك، والذي قسّم القوى الدولية إلى معسكرين: الاشتراكي الشيوعي والإمبريالي الرأسمالي، لم يتلاش نهائياً الطابع العسكري للصراع، ولكنه لم يعد الأداة الأساسية أو الوحيدة في الصراع والتنافس بين المعسكرين. كان أحد أهم جوانب هذا الصراع محاولة المعسكر الإمبريالي استغلال أكبر عدد ممكن من البلدان التي كانت مستعمرة سابقاً من قبل ذات المعسكر في التوازن الدولي القديم، وإبقائها تحت سيطرة هذا المعسكر ضمن التوازن الدولي الجديد، وفي المقابل، وضمن هذا الجانب من الصراع، محاولة المعسكر الآخر دعم هذه الدول لتحافظ على استقلالها وتنهض بشعوبها للخروج من سيطرة ونهب دول المعسكر الإمبريالي، حيث ذلك يكون لصالح المعسكر الاشتراكي، وفي ذات الوقت لصالح شعوب هذه الدول (وكنا قد شرحنا مفصلاً هذه الفكرة في مواد سابقة).
دون الخوض في أحداث ما يزيد عن سبعين عاماً، ما نراه اليوم في الوضع الدولي على كافة المستويات يشبه لدرجة كبيرة تلك المرحلة من التحول من توازن دولي إلى توازن دولي آخر، ما يعني أن الدول والشعوب التي تخضع للاحتلال في شكله الحالي، عليها النضال للتحرر من مستعمريها ضمن هذه الإحداثيات التي تتطلب ذات الإرادة التي كان لها الدور الأساسي في استقلالها الأخير، ولكن باستخدام الأدوات المناسبة والاستفادة من الحالة الراهنة التي يعيشها العالم.
بشكل أوضح، قامت القوى الممثلة للمعسكر الإمبريالي الرأسمالي، وهي الدول الغربية بقيادة أمريكية، والتي تشهد تراجعاً سريعاً اليوم في عملية تشكل توازن دولي جديد ينهي الأحادية القطبية القائمة، قامت هذه القوى خلال عدة عقود على «احتلال» البلدان التي كانت أحد أهم ساحات الصراع الشرقي/ الغربي- أو الاشتراكي/ الرأسمالي- باستخدام الأدوات المتاحة لها، والتي لم يختف كلياً ضمنها الجانب العسكري، ولكن بشكل متزايد ومنذ ستينيات القرن الماضي كان السلاح الاقتصادي هو الأداة الاستعمارية الأساسية. من خلال الجانب الاقتصادي، قامت الدول الغربية بالسيطرة على مصائر الشعوب، وبتعاون من الأنظمة في هذه الدول، والتي كانت الوكيل المحلي للغرب وأدواته الأساسية في عملية النهب الوحشي للشعوب، في عملية تم من خلالها إفقار الشعوب والدول، وتحويلها إلى جهات تابعة ومرتبطة اقتصادياً وبشكل متزايد بالدول الغربية، ما جعل عملية التحكم بالمفاصل الأخرى للحياة فيها أكثر سهولة وعرضة للتدمير من خلال أدوات اقتصادية دون الحاجة إلى التدخل العسكري المباشر.
إذا نظرنا اليوم إلى الحالة الكارثية التي تعيشها بلادنا على المستويات كافة، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، فيمكن ربطها إلى حد كبير بالتبعية للغرب من خلال الأدوات الاقتصادية بالدرجة الأولى، ومن هنا تأتي قدرة التأثير العالية لأداة مثل: العقوبات الاقتصادية الغربية على ما يحصل في البلاد، والانهيار المتسارع لما تبقّى من الاقتصاد. كما يمكن ربط التبعية للغرب والمنظومة الاقتصادية الغربية بما في ذلك منظومة الدولار بما يحصل ليس فقط على المستوى الاقتصادي، بل أيضاً السياسي وحالة تقسيم الأمر الواقع الجاري ومحاولات تعميقه وترسيخه، وكل ما لذلك من تأثيرات على عرقلة العملية السياسية والحل السياسي.
الاستقلال اليوم لا يعني فقط إجلاء آخر جندي أجنبي من سورية، بل يعني قطع آخر خيط يربط سورية بالمنظومة الغربية الناهبة، أو بالأحرى قطع آخر رابط تبعي للخارج، وإحراز الاستقلال على كافة المستويات، وأهمها: الاقتصادي، بما له من تداعيات على المستويات الأخرى ضمن الإحداثيات الدولية الحالية، والتي كما أشرنا آنفاً تشبه إلى حد كبير الظروف الدولية التي كانت مناسبة لتحقيق الاستقلال من الاستعمار الفرنسي قبل ستة وسبعين عاماً.
اليوم، وفي ظل التغييرات الجارية في المنظومة الدولية، وبالأخص اقتصادياً، وما لذلك من ارتباطات بالتغييرات السياسية على المستوى الدولي وتأثيراتها على نضال الشعوب التي ما زالت وإلى حد كبير تحت وطأة الاستعمار بشكله الحالي. في ظل هذه الظروف من الضروري العمل والنضال من أجل تحقيق الاستقلال الاقتصادي كهدف أساسي وجزء مهم من الوصول إلى حل جذري وشامل ومستدام للأزمة التي تعيشها سورية ويعيشها الشعب السوري اليوم، وتكمن أهمية الجانب الاقتصادي في تأثيرها المباشر على الشعب اليوم، ومعاناته النابعة من الممارسات الاقتصادية الوحشية سواء من الغرب أو من وكلائه المحليين، بالإضافة إلى تأثيراتها غير المباشرة بما في ذلك: حالة التقسيم التي تعيشها البلاد، وتهديد وحدة شعبها وأرضها؛ وسلب السوريين من حقهم في تقرير مصيرهم؛ وصعود قوى سياسية من كافة الأطراف السورية، والتي لا تمثل بشكل من الأشكال الشعب السوري وإرادته، إنما تمثل القوى الناهبة والمرتبطة بالغرب.
إن إنهاء الأزمة التي يعيشها الشعب السوري اليوم، وبكافة جوانبها، تتطلب من الوطنيين السوريين- من كافة الأطراف- العمل سوية على الوصول إلى الحل السياسي الشامل من خلال التطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن 2254، ولكن لا يمكن بأي شكل من الأشكال تحقيق هذا دون تحقيق الاستقلال الاقتصادي الكامل لسورية والشعب السوري، وهذا يمس بشكل مباشر وغير مباشر كافة أجزاء الحل السياسي، ويمكن للسوريين أن يحددوا -على أساسه- الوطنيين، بين من يمثلهم على طاولة المفاوضات بما في ذلك من خلال الموقف من العقوبات الاقتصادية، والبرامج الاقتصادية المقترحة من قبل أية جهة، ومدى ارتباطها وتبعيتها للمنظومة الاقتصادية الغربية، وحتى من خلال المبادئ والحقوق الاقتصادية المنصوص عليها في الدستور السوري القادم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1066