ملاحظات حول «ندوة الدوحة»

ملاحظات حول «ندوة الدوحة»

عقدت على مدى يومي 5-6 شباط الجاري، ندوة بعنوان «سورية إلى أين» في العاصمة القطرية الدوحة، ووصف أصحاب الدعوة الندوة بأنها «ندوة علمية» تشارك فيها بالدرجة الأولى «مراكز أبحاث سورية»، إضافة إلى شخصيات مستقلة وجهات معارضة، لتدارس الوضع السوري الحالي ومحاولة الخروج باستنتاجات عمّا ينبغي عمله. وكانت الشخصيات الداعية للندوة قد أكدت: أنّ الهدف ليس تشكيل أي جسم جديد، رغم أنّ بعضها عاد للحديث عن هذا الأمر معتبراً أنّ الندوة هي خطوة أولى ضمن خطوات عديدة ستأتي مستقبلاً في هذا الاتجاه.

السياق

قبل نقاش ما جرى طرحه في الدوحة، ربما من المهم الإشارة إلى أنّ الظروف التي تسمح لمثل هذه المبادرات بالتخلق، وبغض النظر عن الموقف منها، إنّما تكمن في الأمور التالية:
أولاً: الاستعصاء طويل الأمد في عملية الحل السياسي، واستمرار الأزمة وتعمقها، ما يدفع نحو محاولة البحث عن إحداثيات جديدة، لعل وعسى تكون مدخلاً نحو التغيير.
ثانياً: وضع المعارضة «الرسمية»، والتي تمثلها حالة هيئة التفاوض السورية المشلولة منذ ما يزيد عن عامين نتيجة لعوامل عديدة، بينها ما هو دولي وإقليمي، ولكن على رأسها سلوك المتشددين الذين يصرون على تكرار نموذج «الحزب القائد» ضمن المعارضة كما ضمن النظام، ناهيك عن إصرارهم ليس على الاحتكار فقط، بل وعلى عزل وإبعاد أية جهة معارضة لا يتفقون معها.
ثالثاً: مع التغيرات المستمرة في الوقائع في سورية وحول سورية، لا يمكن استبعاد أنّ دولاً بعينها تحاول من وقت إلى آخر أن تبحث عن تموضع أكثر مناسبة لما تراه مصلحتها، وعليه فهي تدعم أو تحفز مبادرات مختلفة...
والظروف هذه بشكلها العام، لا تنطبق على «ندوة الدوحة» وحدها، ولكن تنطبق أيضاً على نشاطات عديدة جرت هنا وهناك خلال السنة الماضية.

نوعية الحضور

إذا تركنا جانباً الحضور المحدود لكل من منصة موسكو وهيئة التنسيق الوطنية في الندوة، فإنّ الحضور الأساسي كان لتيارين من المعارضة، ينتميان في نهاية المطاف إلى العقلية نفسها في الجوهر، وإنْ إلى مرحلتين مختلفتين؛ بكلام آخر، كان الحضور الأساسي للندوة هو لـ «الجهات الحاكمة» الحالية، ولـ «الجهات الحاكمة» السابقة، ضمن المعارضة، والتي خرجت أو جرى إخراجها من المسرح قبل حوالي 4 سنوات، بعد أن مارست دورها في تعطيل الحل، ولكنها تُوحي الآن بأنها في مرحلة إعادة درس وإعادة صياغة لفهمها...

نوعية الطروحات

يمكن تلخيص الطروحات الأساسية الأكثر تكراراً ضمن الندوة، والتي لم تحمل من صفة «العلمية» بقدر ما حملت من صفة «السياسية» و«المسيسة»، ما يلي:
جرى تجنب ذكر القرار 2254 في معظم المداخلات، إلا عند الضرورة القصوى!
طرح عدد غير قليل من الحضور ضرورة ما أسموه «تجميد عمل اللجنة الدستورية» كحد أدنى.
جرت مهاجمة مسار أستانا بشكل كثيف.
إسباغ تقييمات إيجابية على الأدوار الأوروبية والأمريكية.
جرى أيضاً تكرار شعار إسقاط النظام بالطريقة التي كان عليها منذ 2012، وإنْ كانت صياغة «التوصيات» قد حاولت السير ربع خطوة إلى الأمام، ليس عن الواقع الحالي، بل عمّا كان عليه وضع «المعارضة الحاكمة» ما قبل 2017...
مهاجمة مجلس سورية الديمقراطية بالطريقة المعهودة، ووسمه بالإرهابي، والإصرار على رفض تمثيله في أية عملية سياسية، بل والحديث بأن المطلوب هو القضاء عليه نهائياً!

عقلية واحدة

الملفت، أنّ كُثراً ممن يطرحون شعار «إسقاط النظام»، وحين تحاول أن تناقشهم بشكل منفرد، يقولون صراحة: إنهم لا يملكون أدوات القيام بذلك، ولكن «يتمسكون» بالشعار ريثما تتغير الظروف!
وهذا النوع من الطرح يحمل في داخله مضامين عديدة؛ فمن لا يملك الأدوات ويصر على الهدف نفسه، فإنه يستدعي وينتظر التدخلات الخارجية لتحقق له ما يريد. وهو فوق ذلك غير مبالٍ بما سيجري للبلاد والعباد في فترة «الانتظار» هذه، وربما الأهم: أنّ ادعاءه بأنه مع الحل السياسي هو بالضرورة ادعاء كاذب أو «تكتيكي»، لأنّ الحل السياسي يعني الوصول إلى توافق، ولا يعني قطعاً انتصار طرف على الآخر. وهذا الكلام ينطبق بالدرجة نفسها، وإنْ مع اختلاف التفاصيل، على عقلية المتشددين ضمن النظام... وكلاهما لا يمانعان كما يثبت السلوك العملي تحول سورية إلى مستنقع صراعي، وتحول أهلها إلى وقود للمصالح الأنانية...

اصطفافات

إذا أمعن المرء النظر في البنود التي سردناها أعلاه في فقرة «نوعية الطروحات»، فإنّ الطريف، ولكن غير المفاجئ، أنه سيرى أنّ القسم الأعظم من هذه البنود هو موضع اتفاق عمليٍ بين متشددي المعارضة ومتشددي النظام... ابتداءً من تجنب ذكر 2254، ومن ثم العمل الفعلي على تعطيل اللجنة الدستورية ومنعها من إنجاز أي شيء، ومروراً بمهاجمة أستانا، وكذلك بشعار «الحسم» بوصفه صنو شعار «الإسقاط» وكلاهما يعنيان «لا للحل السياسي»، ووصولاً إلى الموقف العملي من الغرب، وليس انتهاءً في الموقف الإقصائي المتعلق بالقوى السياسية في الشمال الشرقي السوري.

مشتركات

ربما أهم المشتركات بين حقبتي «الجهات الحاكمة في المعارضة»، وكذلك «الجهات الحاكمة في النظام»، هي أنها جميعها تنتمي إلى فضاءٍ سياسي قديم، يتسم بالصفات التالية:
انفصاله الكامل عن الناس ومعاناتها ومصالحها.
إنكاره للوقائع الجديدة الدولية والإقليمية، والإصرار على العيش في فقاعة مشتقة من الماضي، بما في ذلك طريقة تعامله مع الغرب، علناً أو ضمناً.
غياب برنامج اليوم الأول بعد الأزمة، بل وغياب حتى البرنامج المرحلي، والعمل يوماً بيوم، انطلاقاً من مصلحة ضيقة، هي الحفاظ على المواقع التي تحت اليد، واستغلالها إلى أقصى مدى ممكن.
الإصرار على تعقيد ظروف الانتقال نحو الجديد، وبكل الوسائل الممكنة، وضمن الغاية نفسها؛ الاستمرار في شغل المواقع نفسها إلى أقصى مدى ممكن.

بُعد إضافي

رغم أنّ قسماً من الإعلام الذي تابع هذه الندوة قد حصر قراءته بالتركيز على خلافات بين أقسام من المتشددين أنفسهم، بين الائتلاف خصوصاً وشخصيات أخرى من الائتلاف نفسه، أو من التشكيلات السابقة عليه، ولكن اختفى حضورها منذ 2017، إلا أنّ لهذه المحاولة فيما يبدو بعداً آخر مختلفاً...
بعيداً عن نوايا الأفراد، فالبُعد الذي نتحدث عنه، يشير إليه حضور نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكية إيثان غولدريتش، والذي يعني دعماً ضمنياً، بالتوازي مع تجاهل جميع الفاعلين الآخرين وخاصة الأتراك والروس... وهذا الأمر ربما يندرج ضمن السياسة الأمريكية المعلنة وشعارها «تغيير سلوك النظام»؛ والتي تتطلب إنهاء 2254 بالذات، وليس عبر الرفض غير المعلن له من جانب جهة واحدة، بل يجب أن يشمل الرفض الجهتين... إحدى أدوات إنهاء 2254 في التصور الغربي، وفي تصور المتشددين، هي إنهاء اللجنة الدستورية، والتي رغم أنها لم تنتج شيئاً فعلياً حتى الآن، ولن تنتج فيما يبدو ضمن الإحداثيات الحالية، ولكنها تعمل كمنفسة للحل السياسي ريثما يتوفر العلاج وظروف العلاج...
من جهة أخرى، فإنّه لا شك أنّ الصراع بين المتشددين أنفسهم ربما يفتح الباب (في حال امتلك قسم منهم الشجاعة والحكمة الكافية) أمام طروحات وتوجهات أكثر قدرة على الدفع باتجاه الحل، ولكن شرط ذلك كان وسيبقى: شمول الجميع، وعدم الإقصاء، وعدم الاحتكار، والعمل بصدق باتجاه الحل السياسي وباتجاه التنفيذ الكامل لـ 2254 وما يتطلبه من توافقات، والذي سيجري تنفيذه عاجلاً أم آجلاً، ومن سيعمل ضده سيحكم على نفسه بفقدان أي تأثير وأي مستقبل سياسي...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1057