أربعة مستويات  في قراءة التحوّل الدولي الجاري

أربعة مستويات في قراءة التحوّل الدولي الجاري

إذا تركنا جانباً البروباغاندا الغربية، والمطبلين لها، والتي تنفي أي تغيّر في موازين القوى الدولية، وتصمّ آذانها وتغلق عيونها عن الواقع المستجد، معتبرةً أنّ ما يجري منذ 15 عاماً هو مجرد كبوةٍ مؤقتةٍ ألمّت بفرس الكاوبوي الأمريكي... إذا تركنا ذلك جانباً، فإننا نجد أنفسنا أمام ظاهرة عالمية شديدة التعقيد، ومتعددة الأوجه والطبقات.

وضمن محاولة فهم هذه الظاهرة، أو فلنقل (تقشيرها) قشرة وراء الأخرى سعياً وراء جوهرها، يمكن الوقوف على أربعة مستويات أساسية، من السطح نحو الجوهر، جميعها صحيح فيما نعتقد، وجميعها تجري بالتزامن، رغم أنّ كلاً منها يعبر عن مدىً زمني مختلف، وعن جانب من جوانب الجوهر... وهي:
1- التعددية القطبية (30 سنة).
2- المنظومة المالية- السياسية العالمية (100 سنة).
3- الانقلاب الجيوسياسي العالمي (400 سنة).
4- التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية (آلاف السنوات).

أولاً: التعددية القطبية

يرى كثيرون ما يجري من تحولٍ في ميزان القوى الدولي، بعينٍ «دولتية»؛ أي كصراعٍ بين دولٍ، وبين تحالفات تدخلها تلك الدول. على هذا الأساس، فإنّ التحالف بين روسيا والصين وغيرهما، يظهر بوصفه أداةً في مجابهة التحالف الغربي برأسه الأمريكي. وأما الهدف، فهو: الوصول إلى شكلٍ ما من الثنائية أو التعددية القطبية التي كانت سائدة ما قبل انهيار الاتحاد السوفييتي.
هذه الطريقة في رؤية ما يجري، تختزل وتقزّم التحول الجاري إلى تحولٍ مداه الزمني حوالي ثلاثة عقود، أي أنها ترى أنّ ما يتغير الآن هو الأحادية القطبية الأمريكية التي سادت مع انهيار الاتحاد السوفييتي.
لا شك أنّ هذه المقاربة فيها مقدارٌ ما من الصحة، ولكنّها سرعان ما تكشف عن سطحيتها مع أول محاولة لحك الظاهرة أكثر، والدخول إلى عمقها؛ فهذا النمط من المقاربات، يتعامل مع الدول والتحالفات المتصارعة، معتبراً إياها جزراً معزولة عن بعضها البعض، وكأنما الحديث هو عن حكاية من حكايات التاريخ التي تروي صراعاً بين إمبراطوريات غابرة (ونقول حكاية لأنّ القصة الواقعية حتى للصراعات التاريخية القديمة، ليست بهذه البساطة قطعاً).
بين العوامل التي لا يمكن إغفالها في قراءة الصراعات المعاصرة، دورُ الشركات الكبرى ودور البنوك المركزية ودور النظام المالي العالمي، وكذا دور عمليات التبادل اللامتكافئ؛ فحتى حين ننظر إلى كل دولة من هذه الدول المتصارعة على حدة، فإننا لن نجد أمامنا هرماً سلطوياً بسيطاً يتكون من محكومين وحاكمين معزولين عن الدول الأخرى وشعوبها وحكامها...
قبل كل شيء، فإنّ ورقة عباد الشمس الكاشفة لمن هو الحاكم الفعلي في دولة ما، إنما هي أسلوب إنتاج وتوزيع الثروة في تلك الدولة؛ فالحكام الفعليون هم أولئك الذين يضعون يدهم على القسم الأكبر من الثروة المنتَجة، ويديرون العمليات الاقتصادية والسياسية والأمنية والإعلامية والثقافية وإلخ.. لتخديم نمط التوزيع الذي يصب في صالحهم.
ضمن هذا المعيار، فإنّ الحاكم الفعلي في دول المركز الغربي، ليس الرؤساء ولا الحكومات، بل هو الشركات الكبرى والبنوك المركزية.
في الدول الأخرى حول العالم، فإنّ الحكم هو شراكة بين ثلاث جهاتٍ تختلف نسبة مشاركتها في الحكم من دولة إلى أخرى:
1- الشركات الكبرى الغربية والبنوك المركزية الغربية وعلى رأسها الفيدرالي الأمريكي، هي شريكٌ في حكم كل البلدان حول العالم (على الأقل من وجهة نظر الدور العالمي للدولار كأداةٍ لشفط القيمة المضافة حول العالم، وكذلك دور التبادل اللامتكافئ في تعميق هذا النهب، وفي العمل على تحديد الهوية الإنتاجية لدول الأطراف، وغالباً باتجاه تكريسها كمُصدّر للمواد الخام ومستوردٍ للمواد المصنعة).
2- الشركات الكبرى والبنوك المركزية في الدولة المعنية. وهذه تحكم بوصفها «شريكاً مضارباً» للمركز الغربي؛ تنهب الشعوب في الدول التي تسود فيها، لجيوبها ولجيوب المركز الغربي، وتحاول بشكل مستمرٍ أن ترفع النهب بشكل مطلق ونسبي، أي ترفع درجة نهب شعوبها، وتحاول أن تقلل حصة المركز الغربي من ذلك النهب، بل وتحلم بالوصول إلى توافق ما، وإنْ عبر الصراع، مع المركز الغربي، لنيل حصة أكبر ليس من النهب المحلي فحسب، بل ومن النهب الدولي.
3- ممثلو مصالح الطبقات المنتجة، وهؤلاء هم الأقل اشتراكاً بالحكم في كل دول العالم، مع أنّ هنالك مؤشراتٍ في عدد قليلٍ من الدول على أنّ حصتهم آخذة بالتزايد (الصين ربما تكون أهم مثال على ذلك، وتحولات مؤشرات توزيع الثروة داخلياً هي أحد أهم معايير هذه المسألة، وكذلك نوعية النشاط الإنتاجي والموقع ضمن تقسيم العمل الدولي الذي تثبت الصين نفسها فيه كمنتجٍ ومصدر، وكمستوردٍ للمواد الخام...).
ضمن هذه اللوحة، فإنّ الصراعات التي تبدو خارجية فقط، بين دولٍ وتحالفات، هي في جوهرها صراعات داخلية بالدرجة الأولى، ولها امتداداتها الخارجية المتنوعة... ولذا فإنّ الحديث عن الانتقال من أحادية إلى ثنائية أو حتى تعددية قطبية، يكاد يكون نافلاً ولا محل له.

ثانياً: المنظومة
المالية- السياسية العالمية

القشرة الثانية في قراءة الظاهرة، تفرضها وقائع التبادل اللامتكافئ وسيادة الدولار كعملة عالمية، أي طبيعة المنظومة المالية- السياسية العالمية، وما تفرزه من تداخل منظومات الحكم والصراع، بين الغرب والشرق، وضمن كل دولة من الدول عبر العالم.
هذه القشرة توسع المدى الزمني الذي يمكن أن يُقرأ ضمنه التحول العالمي الجاري، ليصل به إلى بريتين وودز 1944؛ أي إلى اللحظة التي أرسي فيها الأساس الأول للمنظومة المالية السياسية الراهنة. علماً أنّ العمادين الثاني والثالث لها، أي التبادل اللامتكافئ، والانتشار العسكري الأمريكي حول العالم، لم يستقرا بشكل كامل قبل أواسط الستينيات، أو حتى السبعينيات.
ضمن هذا المستوى من الظاهرة، يحدث أن تتقاطع مؤقتاً مصالح الشركات الكبرى والبنوك المركزية «الشرقية»، أو «الدولتية»، مع مصالح شعوب دول الأطراف، بل وحتى مع مصالح الشعوب عموماً، في إطار عملها على كسر هيمنة الدولار وهيمنة عمليات التبادل اللامتكافئ.
أحد أوجه هذا التقاطع المؤقت الواضحة، هو أنّ مصلحة المركز الغربي في إطار أزمته الرأسمالية البنيوية، تفرض عليه الذهاب باتجاه تفتيت الأسواق المحلية إلى النهاية، وذلك لتحويل العالم بأكمله إلى سوقٍ واحدٍ له وحده. وهذا يتطلب تدمير وتفتيت الدول نفسها التي تحمي تلك الأسواق، وتفتيت شعوبها، وتفتيت حتى الشركات والبنوك الكبرى المتسلطة فيها.
عيب هذا التقاطع وميزته في الوقت نفسه، أنه مرحليٌ وهشٌ إلى أبعد الحدود؛ فالغاية الفعلية للناهبين الداخليين خارج المركز الغربي، هي الحفاظ على نسب النهب التي يحصّلونها، وكذا محاولة التمدد للمشاركة في نهب الآخرين... ولكن القانون الموضوعي لميل معدل الربح نحو الانخفاض مع تعقد التركيب العضوي لرأس المال، وكذا طريقة تقسيم العمل الدولي القائمة، يجعلان من الغنيمة المتصارع عليها أصغر فأصغر، ويجعلان الصراع أشد فأشد... وهذا ما يفتح الباب تاريخياً على المستوى الرابع الذي سنتحدث عنه لاحقاً...

1057-54

ثالثاً: الانقلاب الجيوسياسي العالمي

صراع الحصص والنفوذ بين الناهبين المحليين والدوليين، وخاصة مع تراجع قدرة المركز الغربي على السيطرة، عسكرياً واقتصادياً، يفتح الباب أمام إعادة النظر في طريقة تقسيم العمل الدولي، وهذه رست أسسها الأولى ليس مع الحربين العالميتين، بل قبل ذلك بقرون؛ وبشكلٍ واضح مع انطلاق موجات الاستعمار الغربي الكلاسيكي.
هذه الموجات التي يؤرخ لها ابتداءً من القرن السادس عشر، أو حتى الخامس عشر، وإنْ كانت في مراحلها الأولى مجرد غزواتٍ لنهب الثروات الخام وخاصة الذهب والفضة، (وضمناً استجلاب العبيد)، فإنها طوّرت- مع الوقت- نظاماً تجارياً واقتصادياً عالمياً تحكم من خلاله السيطرة على الثروات وعلى إنتاجها.
كلمة السر في هذه السيطرة، كانت الطرق البحرية؛ فممالك أعالي البحار، وخاصة بريطانيا وفرنسا وقبلها إسبانيا والبرتغال وهولندا... ولكي تضمن سيطرة طويلة الأمد، ولأنها معزولة عملياً في أصغر قارات العالم، فإنها وضعت على جدول المهام التاريخية أمامها تدمير القوى القارية، ومنعها من التواصل فيما بينها بشتى السبل الممكنة...
ما يقال عن سياسة «فرق تسد» البريطانية، ربما يرتكز بالدرجة الأولى إلى هذه الفكرة؛ ففي كل الدول المستعمرة جرى الإصرار على جملة سياسات ثابتة:
1- الساحل يزدهر والداخل يتصحر ويتم إفقاره ويجري تعزيز الفصل بينهما بكل السبل الممكنة، بما فيها استخدام الأدوات الإثنية والقومية والدينية والطائفية وإلخ.
2- تدمير طرق التجارة البرية التاريخية، وعلى رأسها طريق الحرير، ومنع تطوير أية تجارة بينية بين القوى القارية، وزرع شتى أنواع المشكلات والنزاعات بين الحدود... إلى ذلك الحد الذي يصعب فيه أن نجد في آسيا وفي إفريقيا، أي دولتين متجاورتين دون مشكلات حدود بالحد الأدنى.
القوى الصاعدة اليوم، بطرفي الحكم الداخلي فيها (أي الناهبين الداخليين والمنهوبين)، تدرك هذه المسائل إدراكاً عميقاً... ومشاريع وتحالفات «الحزام والطريق» و«الأوراسي» و«بريكس»، وغيرها، هي أدوات انقلابٍ جيوسياسي في طريقة تقسيم العمل الدولي؛ انقلابٌ موضوعه هو: تغيير واقعٍ جيوسياسي عالمي استمر على حاله لما يقرب من أربعة أو خمسة قرون...

رابعاً: التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية

بالعودة إلى ما انتهينا إليه في «ثانياً: المنظومة المالية- السياسية العالمية»، وربطاً مع الانقلاب الجيوسياسي العالمي، فإنّ شدة الصراع الداخلي في مختلف الدول، وخاصة تلك التي في طور الصعود، ستتزايد على أساس يومي...
«النخب المالية» مأزومةٌ في الشرق والغرب، مأزومةٌ سواء كانت نخب المركز الغربي أو نخب دول الأطراف. وبينما يصارع كلاهما على أهدافٍ لا مكان لها بين الاحتمالات الواقعية (بالدرجة الأولى بحكم ميل معدل الربح... وتفاعله مع شتى قوانين الرأسمالية الأخرى وضمناً انتهاء إمكانيات التوسع الأفقي)، فإنّ صراعهما نفسه، سيزيدهما ضعفاً، وسيفتح الباب بشكل أكبر لتقدم الفئة الثالثة من الحاكمين، أي ممثلي الطبقات المنتجة...
وربما نشهد ذلك بشكل أسرع في الدول موضع الاستهداف المباشر بالتفتيت والإنهاء، ونقصد روسيا والصين... والتي لن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها حتى النهاية، دون استئصال أوهام النخب المالية، وصولاً إلى استئصالها هي نفسها...
هذه العملية بالمعنى التاريخي، هي عملية طويلة بلا شك، ولكننا نعيش فصلاً مهماً ومفصلياً من فصولها، وهي بجوهرها عملية تغيير جذري ليس للتوازن الدولي فقط، ولا للمنظومة المالية السياسية العالمية فقط، ولا للواقع الجيوسياسي الدولي فحسب... بل وإضافة إلى ذلك كلّه فإنها تغيير للتشكيلة الاقتصادية الاجتماعية السائدة في الكوكب...

 

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1057
آخر تعديل على الأحد, 20 شباط/فبراير 2022 11:49