الدستور مسألة سياسية واجتماعية قبل أن تكون قانونية...
كان وما زال الدستور في مضمونه، وفي طريقة تنفيذه على أرض الواقع، أحد التعبيرات الأساسية عن مشهد القوى المسيطرة في الدولة وفي الفضاء السياسي السائد.
ولما كان هذا المشهد مهيمناً عليه منذ عقود من قبل قوى الفساد الكبير والاحتكار الاقتصادي بالدرجة الأولى، فإنّ ذلك قد وجد ترجمته عبر احتكار سياسي؛ حيث باتت المنظومة المتحكمة بمفاصل الدولة ممثلة لأقلية اقتصادية لا تتجاوز 10% من السوريين وتتحكم بأكثر من 90% من الثروة.
أهمية الدستور السوري القادم أنه ينبغي أن يكون بالدرجة الأولى تعبيراً حقيقياً عن مصالح الأغلبية العظمى من السوريين، والأغلبية هنا هي الأغلبية المنهوبة والتي تشكل أكثر من 85% من السوريين، وهذا يتطلب حساً عالياً من المسؤولية ودرجة عالية من الوطنية في عملية صياغة الدستور والتي تتطلب الأخذ بعين الاعتبار، ومن بين أمور كثيرة، ما يلي:
بما أنّ الدستور ينبغي أن يكون تعبيراً عن مشهد القوى المسيطرة، فإنّ الدستور الجديد ينبغي أن يكون جزءاً من عملية سياسية شاملة تضمن انتقال السيطرة نحو الأكثرية المنهوبة... وبداية ترجمة هذا الانتقال هو التطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن 2254 والذي يشكل خطوة أولى وشرطاً لازماً ولكن غير كافٍ، يستكمل بتضافر جهود الوطنيين من كل الأطراف، نحو الخروج من الأزمة الراهنة وإعادة توحيد البلاد والوصول بها إلى استقرار حقيقي يشكّل الدستور فيه عاملاً وحاملاً أساسياً على كافة المستويات.
الحراك الشعبي الذي انطلق قبل أكثر من 10 سنوات كان تعبيراً ضمنياً عن الرغبة والحاجة في تشكيل فضاء سياسي جديد يكون فيه للشعب السوري الدور الأكبر، وللدستور دور كبير في ترسيخ الأسس القانونية لتحديد الأطر التي يمكن لهذا الفضاء السياسي أن ينشأ ويتطور ضمنها، بما في ذلك طبيعة هيكلية الدولة وطبيعة توزيع الصلاحيات وطبيعة الأحزاب وقوانين الانتخاب.
الانخراط الحقيقي في الحياة السياسية يشكّل أهم دعائم الفضاء السياسي الجديد الذي من المفترض به التعبير عن الناس، وهذا لا يمكن تحقيقه دون أن يتمتع الشعب بحقوق وحريات أساسية تترجم على أرض الواقع مقولة «حكم الشعب بالشعب وللشعب». وفي حدها الأدنى يجب أن تضمن حرية التعبير والنشاط السياسي وتشكيل الأحزاب والنقابات والجمعيات والمواطنة المتساوية وانتخاب السلطات ومراقبتها وسحب الثقة منها، والآليات التي تضمن تحقيقها وتنفيذها، وهذا كله يرتبط بشكل وثيق بالمنظومة القانونية ككل؛ حيث تنظم القوانين التفاصيل ذات الصلة، ما يجعل من المهم بمكان أن تكون دستورية القوانين أمراً موضع دراسة دائمة من قبل الجهة المشرعة وبرقابة من المحكمة الدستورية العليا، وأن يكون هذا الأمر منصوص عليه في الدستور نفسه.
عملت قوى الفساد على مدى عقود على نهب الشعب، الأمر الذي مارسته خلال السنوات العشر الماضية أطراف عدة تحت مسميات مختلفة، ما أدى إلى تهالك البنية الاقتصادية-الاجتماعية وترسيخ وتوسيع الشروخات المجتمعية بالإضافة إلى التأثيرات السلبية الأخرى على كافة المستويات – الثقافية والتعليمية والصحية – وهذه كلها بحاجة إلى ترميم وإعادة بناء في إطار إعادة توحيد سورية وشعبها، وجزء من هذه العملية سيكون من خلال الدستور، والذي يجب أن يضع الأسس لتنظيم وقوننة هذه الجوانب كلها بالإضافة إلى تطويرها وتنميتها بشكل مستمر.
لا تقل أهمية القضايا الخارجية عن القضايا الداخلية، وسورية باعتبارها جزءاً من محيطها الإقليمي والدور المهم الذي تلعبه إقليمياً وبهذا المعنى دولياً أيضاً، لا بد أن تأخذ مكانتها الحقيقية من خلال سياساتها الخارجية وعلاقاتها الإقليمية والدولية، وهذا يتطلب بالدرجة الأولى عودة وازنة إلى دورها التاريخي في المنطقة، وعلى الخصوص موقفها من القضية الفلسطينية، وذلك انسجاماً مع تموضع إقليمي ودولي ضمن التوازن الدولي الجديد؛ والدستور يجسّد هذه الأمور ويعبّر عنها بما في ذلك الأسس التي ستنهي التبعية الاقتصادية ومن خلال ذلك التبعية السياسية للمنظومة الغربية المتراجعة والتي كان لها دوراً كبيراً في دعم قوى الفساد والفاسدين وفي السنوات العشر الماضية دعم تجار الحرب أيضاً.
هناك الكثير من العوامل الأخرى التي يجب التفكير بها وبشكل جدّي، وهذا يتطلب انخراط الأطراف السورية في العملية السياسية بمستوى يرقى إلى مستوى المسؤولية التي يواجهونها والمهمة المنوطة بهم، بما في ذلك إخراج سورية والسوريين من الكارثة التي يعيشونها وحالة التدهور المتسارع التي يعيشها السوريون. وهذا أيضاً يتطلب مشاركة جميع الأطراف السورية في كافة الحوارات الهادفة إلى التوصل إلى حل سياسي، ما يعني أيضاً ضرورة تحييد المتشددين من كافة الأطراف والذين يبذلون كل ما بوسعهم لعرقلة العملية السياسية وإطالة الأزمة.
من هنا تأتي أهمية الدستور السياسية قبل القانونية في هذه المرحلة حيث يشكل الوصفة الأولية والتصور الأولي لسورية ما بعد الأزمة، ولكيفية إحداث التغيير الجذري الشامل عبر تثبيت حق السوريين في تقرير مصيرهم بأنفسهم، الأمر الذي سيكون الحامل والضامن الأساسي لترجمة الدستور على أرض الواقع من خلال تنفيذه وتطبيقه حتى لا يكون حبراً على ورق كما كان لعقود.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1038