انسحاب صاخب وآخر مفاجئ... والهدف واحد

انسحاب صاخب وآخر مفاجئ... والهدف واحد

لعل أحد أهم أخبار الأسبوع الماضي بالنسبة لشرق المتوسط، هو ما نقلته وول ستريت جورنال عن مسؤولين أمريكيين حول «اتفاقٍ أمريكي عراقي على انسحاب القوات الأمريكية نهاية العام الجاري من العراق»، وذلك يوم 22 من الجاري، ضمن لقاءات الوفد العراقي الذي ترأسه وزير الخارجية العراقي مع نظيره الأمريكي، وهي اللقاءات التي سيجري استكمالها يوم الاثنين 26 من الجاري.

الخبر بحد ذاته ليس مفاجئاً؛ فمن جهة القراءة العامة للوضع الدولي ككل، وببعده الاقتصادي خاصة، بات من المسلّمات بالنسبة لمراكز الأبحاث أنّ الخيار الإجباري أمام الولايات المتحدة في إطار معركتها الكبرى مع الصين هو إعادة تموضع عالمي لقوّاتها، بحيث يجري تركيز تلك القوات على التخوم المباشرة للصين بالدرجة الأولى، وروسيا بالدرجة الثانية (إنْ أمكن).
السؤال لدى مراكز الأبحاث لم يعد حول هل ستنسحب الولايات المتحدة من منطقة الشرق الأوسط ضمن آجال قريبة أم لا، بل بات السؤال: كيف ستدير عملية انسحابها، وضمن أية آجال.
من جهة ثانية، وبما يخص العراق تحديداً، فالخبر ليس مفاجئاً لأنّ مسألة الانسحاب الأمريكي من العراق موضوعة منذ ما يقرب من عامين على طاولة البحث العملي، ليس سياسياً وإعلامياً فقط، بل وعبر عمليات قصف واستهداف، ارتفعت، ومن المرجح أن ترتفع وتيرتها أكثر، خلال الأشهر القادمة...
ما سنحاول نقاشه في هذه المادة، هو الفارق في التعاطي السياسي-الإعلامي الأمريكي، مع الانسحاب من كل من العراق من جهة وسورية من جهة أخرى؛ ذلك أنّ الانسحاب من العراق سيؤدي بالضرورة إلى الانسحاب من سورية، ليس على أساس التصور العام لإعادة التموضع العالمي الأمريكي فحسب، بل وأيضاً لأسباب لوجستية بحتة... إذ إنّ الوجود الأمريكي العسكري في سورية هو مجرد استطالة للوجود في العراق، ولا يمكن لهذه الاستطالة الاستمرار إذا غاب أصلها.
وإذا كان النقاش الفعلي لانسحابٍ أمريكي من العراق، هو ضمنياً نقاش لانسحابٍ أمريكي من سورية، فإنّ ما يلفت الانتباه هو الفصل التعسفي بين المسألتين، بل والإيحاء عبر أشكال وطرق متعددة، أنّ ما سيجري هو انسحاب من العراق وبقاء في سورية! وهذا الطرح له أساسه وله أسبابه التي سنحاول حصرها تالياً...

الانسحاب من العراق

اللافت في الإعلانات الرسمية التي ظهرت يوم الخميس الماضي من الجانبين العراقي والأمريكي هي أنها تضمنت الكلام ونقيضه في آن معاً؛ فعلى الجانب الأمريكي تم الحديث عن «انسحاب القوات المقاتلة» وكذلك عن «إعادة تموضع»، وعلى الجانب العراقي فقد قال وزير الخارجية العراقي، ضمن ما قاله: «قواتنا الأمنية ما تزال بحاجة إلى البرامج التي تقدمها الولايات المتحدة».
تلقى التصريح الأخير هجوماً كبيراً من مجموعة من القوى السياسية العراقية، وكذلك من أجسام عسكرية عديدة على رأسها «الهيئة التنسيقية لفصائل المقاومة العراقية» والتي تضم: «كتائب حزب الله» و«النجباء» و«العصائب» و«الخراساني» وغيرها.
اللافت أيضاً هو التغريدتان المتتاليتان اللتان نشرهما حساب تويتر الرسمي لقسم الشرق الأدنى لوزارة الخارجية الأمريكية حول الزيارة العراقية وحول المباحثات. وفيما يلي سنضع ترجمة التغريدتين على التوالي لما لهما من أهمية في اعتقادنا.

التغريدة الأولى:

«متحمسون للترحيب بشركائنا العراقيين في القسم اليوم (المقصود قسم الشرق الأدنى ضمن الخارجية الأمريكية). يمثل الحوار الإستراتيجي فرصة مهمة للعراق وللولايات المتحدة لمعالجة التعاون في مجالات متعددة، من الصحة إلى الطاقة والمناخ والمسائل الأمنية».

التغريدة الثانية:

«يسعدنا الترحيب بأصدقائنا الأكراد العراقيين في العاصمة وإظهار وجهات نظر عاصمتنا لهم. يعتبر الرئيس بارزاني وشعب إقليم كردستان شركاء أساسيين في الحرب ضد داعش، وقد قدّرنا مساهماتهم في الحوار الإستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق اليوم».
أول ما ينبغي أن يلفت الانتباه في التغريدتين هو أنهما تغريدتان! ونقصد أنّ «الحوار الإستراتيجي» الذي تأتي التغريدتان على ذكره، يبدو من حيث الشكل حوارين لا حواراً واحداً... يضاف إلى ذلك، التمايز في طريقة تناول كل تغريدة للطرف المعني، وما تحمله التغريدتان من فروقات ليس من الصعب فهم مغازيها.
إذا أضفنا الفارق بين هاتين التغريدتين إلى الفارق بين طريقة تعاطي وزير الخارجية العراقي من جهة، و«الهيئة التنسيقية لفصائل المقاومة العراقية» من جهة أخرى، سنجد أنفسنا أمام «مشهد عراقي تقليدي»؛ ونقصد بذلك الانقسام المفتعل بين «سنة» و«شيعة» و«كرد»، والذي لعب عليه طغاة العراق، ثم غزاته، وكان الهدف الدائم هو إضعاف كل العراقيين والعراق ككل، لمصلحة الخارج أولاً، ولمصلحة وكلاء هذا الخارج الداخليين ثانياً.
الأمر لا يقف عند حدود انقسامات ثانوية داخلية، فهنالك أيضاً القوى الإقليمية المنخرطة في الشأن العراقي بشكل مباشر وعلني أو غير مباشر، وعلى رأسها إيران وتركيا والسعودية والكيان الصهيوني.
الهدف الواضح من الصخب الإعلامي الأمريكي حول مسألة الانسحاب، والمترافق مع تصريحات متناقضة وغائمة وغير مفهومة في كثير من الأحيان، يتمثل كالعادة في «ضرب الجميع بالجميع». وفي الحالة العراقية، فإنّ المماطلة في الانسحاب، المترافقة مع إيحاءات بإعادة التموضع هنا أو هناك، وضمناً تحويل مسألة الانسحاب من العراق إلى انسحاب من جزء من العراق وليس انسحاب كامل من كل العراق... كل ذلك يهدف بالدرجة الأولى إلى تأليب الأطراف العراقية على بعضها البعض، ومن ثم ضرب الأطراف الإقليمية والدولية المتدخلة ببعضها البعض... ولكنّ الأكيد أيضاً هو أنّ المماطلة الأمريكية لن تكون بلا ثمن يدفعه الأمريكيون أنفسهم، وربما يكون الثمن غالياً بحيث يضطر الأمريكي إلى «ضبضبة» أوراقه والمضي دون تحقيق هدف التفجير...

الانسحاب من سورية

على العكس من السيناريو الصاخب الخاص بالعراق، فإنّ السيناريو الذي نراه متبّعاً في سورية هو سيناريو الصمت والمباغتة. هذا ما شهدناه أيام ترامب وانسحابه الجزئي في تشرين الأول 2019 والذي جاء مباغتاً ومنسقاً مع الأتراك الذين باشروا عدوانهم المسمى «نبع السلام» بعد ثلاثة أيام فقط من الانسحاب الأمريكي الجزئي.
سيناريو الصمت عن الانسحاب، لا يتضمن الصمت فحسب، بل وكثيراً من الخداع أيضاً؛ من ذلك ما نراه هذه الأيام من غزلٍ كاذب رسمي وشبه رسمي لأطراف محددة في الداخل السوري، وخاصة في الشمال الشرقي السوري...
يكفي أن نتذكر أن ترامب نفسه الذي مارس أوقح أشكال الغدر بالتواطؤ مع تركيا هو نفسه الذي احتفى البعض بوصفه الشعب الكردي بأنه شعب عظيم وبأن مقاتليه أشداء... لم يفصل بين غزل ترامب وغدره أكثر من سنة واحدة... (والذكرى يجب أن تنفع...)
هدف الغزل الجديد، كما هو هدف الغزل القديم: «تنويم» و«استغفال» هذه الأطراف، تجهيزاً للغدر بها في آجال غير بعيدة، بحيث لا تكون مستعدة للانسحاب الأمريكي المفاجئ، وبحيث يتحقق سيناريو الدم، على غرار ما جرى في تشرين الأول 2019، مع آمال بتوسيعه أكثر، بل وباستخدامه كأداة ليست للفوضى الأمنية والعسكرية فحسب، بل وكأداة لتعطيل الشروع بالحل السياسي أيضاً، عبر دعم «الفيتو التركي» وتعزيزه، وعبر محاولة ضرب الأتراك بالروس استمراراً للخط الأمريكي نفسه، لعل وعسى يتحول الانسحاب الأمريكي المفاجئ من سورية إلى فتيل صاعق لجملة صراعات داخلية وخارجية، بحيث تحل الفوضى محل الأمريكي، وتالياً لا يستفيد أي طرف من انسحابه...

وهل سيتحقق هذا السيناريو؟

لا يجوز التقليل من مخاطر هذا الاحتمال، وينبغي العمل ضده بشكل حثيث عبر تقريب القوى الوطنية السورية من بعضها البعض، وعبر تأريض الفيتو التركي بالتوازي.
الإيجابي في المسألة هو أنّ الأمريكي بات يكرر السيناريوهات نفسها منذ سنوات عديدة، ولا يضيف لها «إبداعات» فعلية جديدة، وهذا بحد ذاته يضعف تلك السيناريوهات ويجعلها أقل قابلية للنجاح... ولكن مرة أخرى: لا يجوز التهاون نهائياً مع هذه الاحتمالات، وينبغي العمل بلا توقف لمنعها...

(النسخة الإنكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1028
آخر تعديل على الخميس, 29 تموز/يوليو 2021 20:21