الحركة الشعبية ودور القوى الوطنية
منذ تصاعد الحركة الاحتجاجية في سورية في عام 2011، تباينت طرق تعاطي الأطراف المختلفة مع هذه الحركة. بين من خوّنها منذ اليوم الأول وحاول قمعها بشتى الوسائل، وبين من لم ير فيها سوى رافعة يعتليها للإطاحة بالسلطة والحلول محلها في عمليةٍ تسمح بالحفاظ على منظومة النهب وتغيير هوية الناهب. وفي مواجهة هذا وذاك، هنالك منْ نظر للحركة الشعبية بوصفها تعبيراً عن ضرورة موضوعية وعن قانون يحكم تطور المجتمعات.
بهذا المعنى، خصّص حزب الإرادة الشعبية في وقتٍ مبكر، حينما كان لا يزال يحمل قبل الأحداث في البلاد اسم (اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين)، مساحةً واسعة لنقاش وتحليل مسألة الحركة الشعبية، مؤكداً أنها حالة «تتكرر في التاريخ بشكل دوري تقريباً، وهي ليست جديدة، ولكن تفصل بين دورة وأخرى فترات زمنية طويلة، من 50 إلى 100 عام كما لاحظ الباحثون، ما يجعل الأمر مفاجئاً وغير معتاد بالنسبة لمن يعاصر موجة كهذه... وتعقبها بعد انتهائها فترة هدوء ما هي في نهاية المطاف إلاّ فترة كمون لنهوض ونشاط سياسي واسع جديد للجماهير... وخلال فترة الهدوء والكمون، تتراكم المشكلات التي تتطلب الحل، وتتراكم المطالب التي تبقى دون حل، وتتراكم درجة شحن المجتمع لانفجاره اللاحق، وكل ذلك يخلق سراباً ووهماً بأن كل شيء بخير ويتعود أولو الأمر على التعاطي بعدم جدية، وباستخفاف مع مطالب المجتمع، وتزداد ثقتهم بأنفسهم مقتنعين أن جهاز دولتهم القمعي القوي قادر على حل كل المشكلات... ولكن عندما تأتي الموجة الجارفة التي يعبر عنها النشاط السياسي المستقل للجماهير، المستقل عن جهاز الدولة، والمستقل عن البنى السياسية التقليدية، فإذا بها لا تبقي ولا تذر، لأن طاقتها المخزونة خلال الكمون تكون هائلةً وقادرةً على صنع المعجزات. وهي بجوهرها تعبيرٌ عن نضج موضوعي لضرورة إحداث تغييرات عميقة في المجتمع وفي بناه الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية» (من افتتاحية قاسيون المعنونة درس أساسي بتاريخ 29/3/2011) .
الحركة ومحاولات المتضررين
انطلاقاً من التفسير المذكور آنفاً، كرر الحزب في مناسبات عدّة قناعته الراسخة بأن الحركة الشعبية في البلاد لن تنتهي ما لم تصل إلى مرادها، أي إنها ستبقى تسير نحو الأمام حتى إحداث التغييرات العميقة المطلوبة، وفي سيرها هذا نحو الأمام، ستمر الحركة الشعبية حكماً بالعديد من حالات الصعود والهبوط التي تحكمها تطورات الظرف في البلاد وتطورات الظروف الإقليمية والدولية. وهي الرؤية التي أثبتت الأحداث صحتها على طول الخط، فرغم محاولة القوى المتضررة من الحركة الشعبية حرفها عن مسارها عبر إبراز وتضخيم التناقضات الثانوية، مثل التناقضات الطائفية والقومية والدينية.. إلخ، وغيرها من التناقضات غير الأساسية (معارض، موالٍ) و(علماني، متدين)... ورغم محاولة إغراق الحركة الشعبية بالدماء جراء عملية العسكرة التي دفعت في اتجاهها قوى التشدد في النظام والمعارضة، والتي دفع الشعب السوري بانتماءاته المختلفة ثمنها آلاماً لم يندمل منها شيء حتى الآن، رغم ذلك كله، فإنّ الحركة الشعبية لا تزال تتحين الظرف المناسب حتى تعود للتعبير عن نفسها بكل الأشكال الممكنة...
وإذا كان انكفاء شكل التظاهر تحت سطوة العنف والقمع والأعمال المسلحة قد عنى بالنسبة لكثيرين انتهاء الحركة الشعبية، فذلك لأنهم لم يروا عمق وجوهر هذه الحركة بما هي تعبير عن نشاط سياسي عالٍ للناس، والتعبير عن النشاط السياسي لا يكون بالتظاهر فحسب بل وبعدد غير منته من الأشكال...
لا يزال الأمل معقوداً على الحركة الشعبية التي قطعت شوطاً واسعاً من الخبرة التي كوّنتها بالطريقة الصعبة، حيث خبرت بشكلٍ مباشر انهيار الأكاذيب التي حاكتها القوى المتضررة في النظام والمعارضة خلال السنوات الأولى من الأحداث، واتضّح للقاصي والداني رابط المصالح المشتركة الذي يربط بين هذه القوى المختلفة والمتخاصمة ظاهرياً، والتي أكد الحزب أنه: «سيكون منطقياَ خوف القوى المتشددة في النظام من الحركة الشعبية، وخصوصاً رموز وأركان الفساد الكبير، التي ترى في الحركة الشعبية السلمية والمطالبة بالتغيير طرفاً قادراً على فضح ذلك الفساد ومحاربته بكل الطرق الحضارية والسلمية، أن تسعى بحجة وجود المسلحين، وهم موجودون، إلى ضرب السلمي قبل المسلح بخلط مقصود، حتى تفلت تلك القوى من سيف التغيير الذي سيبقى مسلطاً على رقابها طالما الاحتجاجات السلمية قائمة ومستمرة حتى تحقيق المطالب. وبالوقت نفسه، فإن بعض قوى المعارضة المطالبة بالتدخل الخارجي تمارس دور قوى الفساد نفسه في جهاز الدولة، وذلك بدفع الحركة الشعبية إلى التطرف والتسلح ورفع شعارات غير واقعية بهدف رفع منسوب الدم واستدراج التدخل الخارجي، وتهيئة المناخ النفسي- الاجتماعي له، مستفيدة من عنف صنوها الآخر في النظام، لذا فهي منطقياً عدو للحركة الشعبية لا يختلف بالجوهر عن قوى الفساد داخل جهاز الدولة، وهي لن تعترف إلا بحركة شعبية ترفع شعارات مطالبة بالتدخل الخارجي وتدويل الأزمة على الطريقة الليبية، أما الشعارات الرافضة للتدخل الخارجي والمطالبة بالوقت نفسه بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية فهي «مؤامرة» من النظام وصنيعة يديه» (من مقالة لماذا الخوف من الحركة الشعبية- قاسيون- 15/10/2011).
مرة أخرى... دور القوى الوطنية
بالطريقة ذاتها، شدد الحزب في وقتٍ مبكر أيضاً على أن «التوافق الدولي، على أهميته، غير قادر وحده على حل الأزمة... فهذا التوافق أصبح في ظروف الأزمة والقوى الفاعلة فيها شرطاً ضرورياً ولكنه غير كاف لحل الأزمة كما يريد الشعب السوري وبما يعبر عن مصالحه، ومن هنا، فإن المطلوب من القوى الوطنية السورية أن تمارس دورها الطليعي رغم محاولات الإقصاء الذي ستتعرض له، وأن تعمل على حل الأزمة بعيداً عن منطق المحاصصات كما يحاول البعض، والذي لن تكون نتيجته إلا استمرار الأزمة بطريقة أخرى، والحفاظ على جوهرها، وتغيير شكلها فقط» (من مقالة التوافق الدولي ودور القوى الوطنية- قاسيون- 12/1/2013).
واليوم، بعد مرور سنوات عدّة على هذا الكلام، تعود الكرة مرّة أخرى إلى ملعب القوى الوطنية السورية التي لها مصلحة عملية في إنجاز عملية التغيير المطلوب في البلاد، والتي تقف، مرة أخرى، أمام الحقيقة الماثلة بأن التوافق الدولي لن يكون كافياً لوحده من أجل دفع الحل وفق مصلحة السوريين، أي على أساس القرار الدولي 2254 الذي يشكل مدخلاً أساسياً لتمكين السوريين من تقرير مصيرهم بأنفسهم، بل يتطلب تجميع القوى التي لها مصلحة في تسريع خروج السوريين من درب الآلام الطويل الذي خبروه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1028