جيفري «يبقّ البحصة» أخيراً: لم نستهدف النصرة نهائياً ونحن على تواصل معها!
قبل أيام قليلة، أطلقت قناة PBS فيلماً بعنوان «الجهادي»، والذي كان الناتج النهائي للمقابلات التي أجراها الصحفي الأمريكي مارتن سميث مع عدة أشخاص، وضمناً تلك التي أجراها في زيارة إلى إدلب مع بطل الفيلم: أبو محمد الجولاني، وكذلك مع مؤلف الفيلم (الذي حاول أحياناً أن يتنكر في صورة الخصم، لكنه لم يعد يكلف نفسه عناء القيام بذلك): جيمس جيفري.
قبل شهرين من إطلاق الفيلم، صدر إعلان ترويجي عن الوسيلة الإعلامية نفسها، مع مقتطفات من المقابلة ومقال عنها. وغطينا ذلك في مقال في قاسيون (العدد 1012) بعنوان: «فصل جديد في مسرحية جيفري وأبو الفول الجولاني».
الفيلم في ظاهره فيلم وثائقي عن الجولاني ووصوله إلى ما هو عليه اليوم، ويحاول أن يتنكر بزي الموضوعية والواقعية، ويتضمن مقابلات مع المذكورين بالإضافة إلى إظهار بضع آراء مخالفة.
يحاول صانعو الفيلم الظهور بمظهر الحياد، وهو أمر شائع في الأفلام الوثائقية لجعلها تبدو وكأنها مجرد سرد للحقائق والغرض منها تعليمي بحت. ولكن في الواقع، يعرف معظم الناس أن هناك دائماً رسالة وهدفاً.
ليس من الصعب، بمتابعة الفيلم، أن نرى أن هناك محاولة واضحة لإضفاء الطابع الإنساني على الجولاني (وبعبارة أخرى، تبييضه) وتقديمه كشريك محتمل مقبول للغرب، ولا سيما للولايات المتحدة، من خلال معظم تعليقات جيفري ضمن الفيلم.
ولعل الميزة الأساسية لهذا الفيلم، أنه يحتوي تعليقات جيفري بعد أن «تحرر» من القيود الدبلوماسية التي كان يفرضها وجوده في موقعه الرسمي، رغم أنّه حتى حين كان على رأس عمله، فإنه لم يبخل بالتعبير الوقح عن سياسات واشنطن، ولكن الأمر الآن مختلف حقاً... كلام جيفري ضمن هذا الفيلم الجديد هو فضيحة متكاملة الأركان...
قلنا ذلك منذ أعوام...
قبل الخوض في تفاصيل هذا الفيلم، نعتقد أنه لا ضير من التذكير بأن قاسيون قد كشفت مضمون هذا الفيلم قبل سنوات من عرضه، وثابرت على فضحه، وهو ما سنمر عليه سريعاً عبر بعض الاقتباسات التي سنأخذها من عدة مقالات تناولت الموضوع خلال السنوات الثلاث الماضية:
في مقال بعنوان: «راند – النصرة»... صندوق باندورا! (7 كانون الثاني 2018)، تحدثنا عن خطة أمريكية، تم تطويرها من خلال مركز RAND الأمريكي للأبحاث ومقره الولايات المتحدة، تهدف إلى ضمان «استمرار المعركة وعدم التوصل إلى حل سياسي شامل، أي عدم تنفيذ القرار 2254». ووضحنا أن فهمنا لدور النصرة هو أنه ينطوي على مهمتين رئيسيتين:
- «تحمل مسؤولية عمليات خرق التصعيد، أياً كان الطرف الذي يقوم بها، سواء كان طرفاً إقليمياً، مثل: تركيا أو «إسرائيل» خاصة، وغيرهما بطبيعة الحال، أو داخلياً: معارضة ونظاماً؛ إذ إن الأطراف الرسمية جميعها، غير قادرة على تحمل مسؤولية خرق التصعيد بشكل علني، فهي غير قادرة على التلاعب العلني أمام الروس».
- «تغطية الخروقات التي تقوم بها أطراف داخلية مختلفة من «فصائل معتدلة» أو من أطراف في النظام، تسمح بإبقاء الروح في طروحات (الحسم العسكري) و(الإسقاط)».
لذلك رأينا قبل أكثر من ثلاث سنوات أن دور النصرة هو الإسهام في جهود تقسيم سورية، وتكريس هذا التقسيم والقيام بدورها في عرقلة العملية السياسية، وكل ذلك تحت رعاية واشنطن وضمن خططها.
ومن المقال السابق نفسه نقتبس:
«إذا أسمينا المشروع السابق اختصاراً مشروع (راند- النصرة)، فإنّه بمجمله يسعى إلى تقسيم سورية بالمعنى الفعلي، رغم بقائها قانونياً دولة واحدة».
أصبح دور النصرة في الإحداثيات الأمريكية أكثر وضوحاً خلال العام الماضي حين كان جيفري لا يزال في منصبه كمبعوث خاص للولايات المتحدة إلى سورية؛ حيث بدأ هذا الأخير بالإدلاء بشكل علني بتصريحات تهدف إلى تبرئة النصرة من الأمور التي أدت إلى تصنيفها كمنظمة إرهابية...
في 30 كانون الثاني 2020، قال جيفري عن النصرة «إنهم يدّعون أنهم مقاتلون وطنيون معارضون»، وهو أمر «لم نقبله (أي الولايات المتحدة) بعد، لكننا لم نرهم يشكلون تهديداً دولياً منذ فترة»؛
وكما بيّنت قاسيون في مقال بعنوان (أجندة عمل واشنطن: بند واحد... لا للحل! 9 شباط 2020)، فإن الهدف الأساسي كان: «إصرار الولايات المتحدة على منع حل قضية النصرة ... المنطق العام هو أن حل قضية النصرة يعني الاقتراب من إنهاء الأزمة».
لقد غطينا المزيد من هذه الأنواع من التصريحات من قبل الولايات المتحدة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر (من خلال عمل مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة) في مواد أخرى بما في ذلك:
المسرحية الكوميدية الكاملة للثلاثي: جيفري، مالي، جولاني! (23 شباط 2020)
أمريكا «ذات القلب الرحيم»، القائد أبو الفتح الفرغلي... و«المصادفات» التي بالجملة! (13 نيسان 2020)
غادر بعض الممثلين الخشبة... لكن المسرحية مستمرة والجولاني بزيٍّ جديد! (7 شباط 2021)
عودة إلى الفيلم
هكذا، يأتي الفيلم المعني كاستمرار لعملٍ قيد التنفيذ، عملٌ يتخذ شكلاً مختلفاً في كل مرة، ولكنه يعزز دائماً الأهداف نفسها.
وبينما يتضمن الفيلم تعليقات متفرقة من جيفري، يجب أن نشكر صانعي الفيلم على إتاحة النصوص الكاملة لمقابلاتهم، حتى نتمكن من رؤية ما قيل بالضبط. من المثير للاهتمام بشكل خاص نص المقابلة مع جيفري، الذي أدلى بسلسلة من الملاحظات التي تهدف بلا أية مواربة إلى تبييض الجولاني ومعه النصرة، وبطريقة تظهره، وتظهرها، كشريك ليس محتملاً فقط، بل كشريك فعلي مضت فترة غير قليلة على الشراكة بينه وبين الأمريكي، وقد حان الوقت لإعلان هذه الشراكة.
حين تحدث جيفري عن عملية تصنيف الجماعات على أنها إرهابية، فقد ميّز النصرة عن جماعات، مثل: داعش والقاعدة بقوله: إنها (أي النصرة) أشبه بـ «قوى المقاومة أو حركات التحرر الوطني أو غيرها من الحركات التي تستخدم الإرهاب أحياناً كتكتيك»، وهو ما يتضح من أنهم «يركزون بشدة على الإطاحة بنظام الأسد»، وضمن هذه العملية هم «لا يلاحقون المدنيين».
بل إنه يعبّر بشكل التفافي، عن أن تصنيف النصرة كمنظمة إرهابية إنما هو خطأ ارتكبته واشنطن بقوله: إنه عبر تصنيفنا للنصرة كمنظمة إرهابية «بدا الأمر وكأننا نصدق خطاب الأسد القائل بأن كل من هو ضدي فهو إرهابي».
يذهب جيفري أبعد من ذلك بتبرير بعض عمليات النصرة التي تستهدف مجموعات معينة في السوريين؛ فعندما سأله المحاور عن دعوة الجولاني لشن هجمات عشوائية على «القرى العلوية» في تشرين الأول 2015، كان رد جيفري هو أنّ: «هذا ما تفعله منظمات المقاومة، وهو ما فعله الجيش الجمهوري الأيرلندي في أيرلندا الشمالية بملاحقة المؤيدين الأقوياء للطرف الآخر».
في وقت لاحق من المقابلة، عندما سُئل جيفري: هل يعتقد أنّ الجولاني «على استعداد لضمان حقوق الأقليات في سورية»؟ قال جيفري: إنه لا يعتقد أن الجولاني هو من نمط «الأشخاص الذين يكرهون أي شخص ليس مثلهم».. فعلاً (يا إلهي!)
أخيراً، يعترف جيفري بوجود قنوات غير مباشرة مفتوحة مع النصرة، من خلال وسائل الإعلام والعاملين في المنظمات غير الحكومية، الذين قد ينقلون رسائل إليهم، أشياء مثل: أنّ «الولايات المتحدة لا تستهدفهم. تركز الولايات المتحدة على سياسة في سورية تتمثل أساساً في الضغط على نظام الأسد. لذا اذهب واستخلص استنتاجاتك الخاصة» الأصل الإنكليزي للجملة الأخيرة في هذا الاقتباس هو التالي: «So go draw your own conclusions» وربما من الصعب أن نترجمها بالفصحى بشكل مناسب، لأنّ الترجمة الأدق هي التعبير العامي التالي: «وكيف ما بدك تفهمها فهمها»..
وهذه القنوات نفسها ترجع رسائل جوابية هي وفقاً لجيفري: «نريد أن نكون أصدقاء لكم. نحن لسنا إرهابيين. نحن نحارب الأسد فقط». ويشير جيفري إلى أنه لم تكن هناك «قنوات محددة معهم بشكل مباشر: ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الروس سيستغلونها، وكذلك الأسد. جزئياً لأننا لم نرغب في إثارة قلق الأتراك».
يقول جيفري بشكل أكثر وقاحة: «كان من المهم بالنسبة لنا ألا تتفكك هيئة تحرير الشام، وألا تصبح قوة إرهابية (يعني هي ليست إرهابية!). لذلك، فإن حقيقة أنهم كانوا يتحدثون إلى الإعلاميين، وإلى المنظمات غير الحكومية، وإلى المنظمات الإنسانية، ويتعاملون مع المنظمات الإنسانية، بدلاً من قطع رؤوسهم، كانت شيئاً جيداً، لأن ذلك سهّل بالنسبة لي ضمان عدم وجود شخص ما في مكان ما حيث تقرر البيروقراطية الإرهابية إطلاق النار عليه. وكان من الممكن أن يكون ذلك سيئاً... لقد فعلت كل ما بوسعي لأتمكن من مراقبة ما يفعلونه والتأكد من أن هؤلاء الأشخاص الذين تحدثوا معهم (أي مع النصرة) يعرفون ما هي سياستنا، والتي كانت تتمثل في ترك هيئة تحرير الشام وشأنها، وبالتواصل معها (أي إن الولايات المتحدة تؤكد أن تترك النصرة وشأنها، وترغب في التواصل معها في الوقت نفسه) - وافترضت أن هؤلاء سوف ينقلون ذلك لهم (للهيئة). كما يعترف بعدم استهدافهم مطلقاً: «لم نستهدفهم أبداً... ولم نرفع صوتنا أبداً على الأتراك بشأن تعايشهم معهم».
ويضيف جيفري: إنّ «هيئة تحرير الشام قوة قتالية فاعلة ضد الإرهابيين الحقيقيين»، أي إنها ليست إرهاباً حقيقياً، وأن الجولاني هو «الخيار الأقل سوءاً من بين الخيارات المختلفة في إدلب التي تعد من أهم الأماكن في سورية، وهي واحدة من أهم الأماكن في الوقت الحالي في الشرق الأوسط».
كثير مما يقوله جيفري، يجري دعمه ضمن سيناريو متكامل عبر ما يقوله الجولاني نفسه ضمن الفيلم، ولكن بمزيد من التفصيل في نص المقابلة التي أجراها. وهذا يشمل تطمينات، مثل: «هذه المنطقة لا تمثل تهديداً لأمن أوروبا وأمريكا. هذه المنطقة ليست مسرحاً لتنفيذ عمليات خارجية» و«خلال رحلتنا التي استمرت 10 سنوات في هذه الثورة، لم نشكل أي تهديد للمجتمع الغربي أو الأوروبي: لا يوجد تهديد أمني، ولا تهديد اقتصادي، ولا شيء». وغالباً ما يشير في مقابلته المطولة إلى وجود خلاف مع قادة داعش والقاعدة، مما أدى في النهاية إلى فصل النصرة عن كليهما، وحتى مطاردة مقاتليها.
يختصر جيفري الموقف الأمريكي بالتالي: «الآن وهنا، عليك أن تتعامل مع هؤلاء الناس (أي النصرة)، لتجنب أشياء أسوأ»
ما هي الأشياء الأسوأ؟
لا بد من فهم تلك «الأشياء الأسوأ» التي تدفع الأمريكان للعمل بهذه الطريقة المكشوفة والخطرة بكل المعاني (والتي ربما سيكون المرشح التالي للعمل بها بين الغربيين، كما تظهر العديد من المؤشرات، هم البريطانيون). من الصحيح أن الشعوب بمعظمها لا تصدق إطلاقاً كذبة الأمريكان حول «محاربة الإرهاب»، لكن ليست كلها تصدق واقع أنّ الأمريكان هم الصانع الأول للإرهاب عبر العالم... طريقة جيفري هذه تساعد في إقناع أولئك الذين لم يقتنعوا بعد بأنّ أمريكا كذلك... ولذا فإنّ هنالك حاجة حقيقية ملّحة حتى يظهر خطاب بهذه الدرجة من الفضائحية...
ما نعتقده هو: أنّ تفسير المسألة، ضمن التوقيت الراهن، وإضافة إلى التفسيرات التي سبق أن أوردتها قاسيون في مقالات سابقة، يتمثل في النقاط التالية:
أولاً: يوحي إصرار جيفري على تسريع عملية تبييض النصرة إلى أنّ لديه تقديرات وربما معلومات عن أنّ استمرارها على ما هي عليه لم يعد ممكناً لفترة طويلة، وأنّ هنالك ما يجهز ضد النصرة، ليس روسياً فحسب، بل وربما تركياً أيضاً، أي عبر أستانا نفسها، وهو المسار الذي لم يُخف موقفه من النصرة في أي وقت سابق، ولكن وضع مهمة تفكيكها.
ثانياً: السياسة الأمريكية في الشمال الشرقي، والتي تتضمن محاولات تصعيد يومية (وليست هي الطرف الوحيد الذي يسعى نحو التصعيد، لكنها طرف أساسي في ذلك التصعيد)، تشير إلى أنّ هنالك أيضاً احتمال انسحاب قريب من سورية، ما يعني: أنّ الحفاظ على النصرة، بالتوازي مع إشعال احتراب وفوضى في الشمال الشرقي، وتثبيت حالة تقسيم الأمر الواقع بما في ذلك سطوة الفساد الكبير والمتشددين في مناطق النظام، وعبر وصلات خلفية وعلنية مع بعض دول الخليج وغير دول الخليج... وفوق ذلك، استمرار العقوبات... كل ذلك بمجموعه هو خطة الانسحاب الأمريكي من سورية، بما يسمح باستمرار النيران وربما تعميقها، وبما يسمح باستمرار المستنقع وتعميقه...
ولكن ذلك كلّه هو أحلام الأمريكان واستهدافاتهم، وهو ما لن يتحول إلى واقع إن تمكن الوطنيون السوريون من كل الأطراف بالتعاون فيما بينهم بالدرجة الأولى، وبالاستفادة من طبيعة التوازنات الدولية، من الذهاب سريعاً نحو التطبيق الكامل للقرار 2254.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1021