كيف يمكن منع تفجير الشمال الشرقي السوري؟
سعد صائب سعد صائب

كيف يمكن منع تفجير الشمال الشرقي السوري؟

شهدت الفترة الأخيرة، وخاصة الشهر الماضي، جملة من الأحداث التصعيدية في شمال شرق سورية. واتخذ التصعيد طابعاً عنيداً، ملحاً، ويومياً حتى؛ بحيث بتنا نرى مع مطلع كل صباح تقريباً قضية جديدة، مشكلة جديدة، خلافاً جديداً...

التفسير الأسهل للموضوع هو: أنّ الإدارة الذاتية اتخذت خلال الفترة الماضية جملة قرارات خاطئة، وقامت بمجموعة من الممارسات الخاطئة بينها عمليات قمع واعتقال وتضييق وإلى ما هنالك.
ونقول: إنّ هذا التفسير هو الأسهل ليس لأنه خاطئ، بل لأنّه لا يمثل سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد. وقبل أية محاولة لملامسة الأجزاء المخفية لا بد من الاعتراف بالجزء الظاهر ورؤيته، لأنّه نقطة العلام الأولى في الاستدلال على جذور جبل الجليد...

ممارسات وقرارات خاطئة

بين الأمثلة البارزة على القرارات الإشكالية والقرارات الخاطئة التي باتت حديث الشارع الجزراوي، والشارع السوري عموماً، القرار 119 الذي تضمن رفعاً لأسعار المحروقات. وكذلك قرار إغلاق المعابر بين مناطق الشمال الشرقي ومناطق سيطرة النظام والذي استمر لعدة أيام، وبعد ذلك الممارسات الخاصة بـ «التجنيد الإجباري» ضمن قسد، والمظاهرات التي خرجت احتجاجاً عليها، والقمع الذي نال بعض تلك المظاهرات، وليس انتهاءً باعتقال أحد الصحفيين بطريقة الخطف، قبل أن يتم الإفراج عنه مؤخراً.
من غير الممكن اتخاذ موقف موضوعي من هذه الممارسات دون أن يتابع المرء ما جرى خلال تطورها؛ ونقصد كيف كانت استجابة الإدارة الذاتية لرفض الناس لتلك الممارسات والقرارات.

بين الأمثلة الممتازة في هذا الإطار، التراجع عن القرار (119) الخاص برفع أسعار المحروقات، وجرى التراجع خلال 48 ساعة من إصداره تحت ضغط الناس، وهذه علامة إيجابية على أن درجة حساسية الإدارة اتجاه مطالب الناس هي درجة جيدة، ويمكن القول بما يخص القرارات والممارسات الأخرى أنّ شيئاً شبيهاً قد جرى في كل واحدة منها، حيث تم التراجع جزئياً أو كلياً عن معظم الممارسات والقرارات التي أثارت حفيظة الناس وأدت إلى إشكالات... وإنْ كان من الصحيح: أنّ من لا يعمل لا يخطئ، ومن يعمل سيخطئ حكماً، فمن الصحيح أيضاً: أن للأخطاء مستويات بعضها لا يجوز التعامل معها ببساطة، بل يجب التدقيق وراءها ومعرفة كيف تم الدفع نحوها، خاصة في ظروف لها هذه الدرجة من الخطورة والتعقيد...

أجزاء أخرى من جبل الجليد

وصفنا أعلاه أخطاء الإدارة وبعض الأفعال التي أقدمت عليها وأحدثت رد فعلٍ حاد من الناس، بأنها رأس جبل الجليد الذي عادة ما يمتد عميقاً جداً مقارنة بالجزء الظاهر منه.
ما يمكن رصده ضمن هذه الأعماق، هو السلوك التصعيدي لثلاثة أطراف، هم: الولايات المتحدة، تركيا، متشددو النظام، والذين تتقاطع أعمالهم في إحداث مزيد من التوتير في الشمال الشرقي.
العنصر الأكثر تأثيراً وأهمية في التصعيد بين هذه الأطراف ربما يكون الولايات المتحدة الأمريكية...
ابتداءً من تشرين الأول 2019، أي: مع الانسحاب الأمريكي الجزئي من الشمال الشرقي السوري، والذي جرى ضمن تنسيق واضح مع الأتراك الذين شنوا بعد الانسحاب بثلاثة أيام فقط عدوانهم المسمى (نبع السلام)، أصبح من الواضح، حتى لأولئك الذين ظنوا أن الولايات المتحدة حليف لهم، أنّ هذا «الحليف» هو على الأقل غير مأمون الجانب، ومستعد للغدر بأية لحظة.
ولكن مع الوقت، بدأت عناصر أخرى ضمن الصورة بالانجلاء والتّوضّح: فقد بدأ الأمريكان يدعمون بشكل علني تشكيلات محددة وعناصر محددة معادية بشكل مباشر للإدارة الذاتية، وتعمل ضمن مناطق سيطرتها، أو تحاول العمل ضمن تلك المناطق. وهذا الدعم امتد من الجانب السياسي إلى المالي والعسكري حتى...
وفي السياق، لقد شهدنا جملة من مؤتمرات العشائر العربية، وهي مؤتمرات لم تجمع أي منها العشائر العربية كما ادعت، بل حاولت استخدام وجهاء من هنا ووجهاء من هناك، كل حسب ولائه السياسي.
لقد رأينا بين مؤتمرات العشائر العربية، مؤتمراً رعاه الأمريكان بشكل غير مباشر، وآخر رعته قسد، وثالثاً رعته تركيا، ورابعاً رعاه النظام، بل حتى إنّ أبا محمد الجولاني قد أجرى لقاءً مع زعماء العشائر العربية، وأكثر من ذلك، يكاد لا يوجد تحالف سياسي سوري سواء كان معارضاً أم موالياً إلا وضمنه تسمية ما تخص العشائر، سواء كانت حقيقية أم خلّبية...
هذه المؤتمرات التي عقدت في الفترة الأخيرة، كانت تدفع بمعظمها باتجاه اختراع وتأجيج صراع قومي عربي- كردي، ووضعه على رأس جدول الأعمال.
ما نعتقده هو: أنّ العمل الأمريكي بشكل خاص إنما يستهدف ضرب الجميع بالجميع، وتمهيد «جوٍ مناسب» للانسحاب من سورية، والجو المناسب وفقاً للفهم الأمريكي هو: جو الفوضى الشاملة غير الخلاقة.
بالتوازي مع ذلك، فإنّ الأتراك يسعون إلى استغلال التناقضات والثغرات لمحاولة مدّ نفوذهم على مناطق إضافية في الشمال الشرقي، وليس المقصود هنا هو مد النفوذ العسكري المباشر، لأنه بات من المستبعد أن تجري أية عمليات إضافية واسعة النطاق في تلك المنطقة، لأنّ الروس باتوا موجودين هناك، وليس الأمريكان فقط، بل المقصود هو محاولة مدّ النفوذ عبر إضعاف الإدارة سياسياً، ورفع وزن القوى السياسية القريبة من تركيا التي يمكن لها أن توجد في الشمال الشرقي... وربما في هذا الإطار بالذات يجري حديث كثيف عن أنّ الرئيس المقبل للائتلاف سيكون شخصية عشائرية من الشمال الشرقي السوري.
متشددو النظام أيضاً يؤدون قسطهم ضمن العملية؛ فهم يستخدمون منابر رسمية وشبه رسمية، لتكفير الإدارة الذاتية ومساواتها بشكل مطلق مع الأمريكان، بل والحديث عن وجوب مقاومتها وصولاً إلى القضاء عليها بالسلاح، والخطير في المسألة: أنّ هذه الدعاية لا تقف عند الحدود السياسية العامة، بل تتجاوزها إلى التحريض القومي لصراع عربي-كردي...

وأين المخرج؟

المؤكد، هو أنّ هذه الأطراف ستستمر في محاولاتها تفجير الشمال الشرقي، كلٌ وفقاً لحساباته وأهدافه. والأكيد: أنّ مهام القوى السورية التي لا مصلحة لها بالتفجير هي مهام مضاعفة وصعبة ومعقدة، ولكنها بالتأكيد قابلة للتحقيق في حال توفر الإرادة الوطنية اللازمة.
وفي الإطار نفسه، ربما يمكن القول: إنّ من بين المسائل الأساسية التي نعتقد أنه ينبغي للإدارة الذاتية العمل عليها، ثلاث مسائل أساسية:

الأولى: هي العمل لتقليل الأخطاء والاستفزازات إلى الحد الأدنى وإلى الصفر إنْ أمكن، وهذا يتطلب انضباطاً داخلياً صارماً ضد المخطئين، والتدقيق في نوعية تلك الأخطاء وخلفياتها، بين ما هو طبيعي وما هو غير ذلك.

الثانية: هي تكريس علاقة إيجابية بين الإدارة وبين ضغط الناس، والاستفادة من زخم الأهالي وتوجيهه لمحاربة الفاسدين الكبار ضمن الإدارة نفسها، وهي المحاربة التي لا يمكن دونها ضمان أي نجاح لاحق.

الثالثة: هي تسريع عملية الانفكاك عن الأمريكي، لأنّ الواضح هو أنّ النقاط الأكثر ضعفاً للإدارة هي تلك التي تربطها بالأمريكان، وهي بالذات النقاط التي يمكن أن تتحول لموضع الطعن الأمريكي وغير الأمريكي، وواضح أيضاً أنّ العزل السياسي لأولئك الذين يحابون الأمريكان ضمن صفوف الإدارة الذاتية، ويعادون كل من يقف بوجه الأمريكان تاريخياً، بات ضرورة وجودية قصوى... والانفكاك عن الأمريكان لا يعني بحالٍ من الأحوال الذهاب إلى حضن النظام، أو حتى إلى حضن الروس، بل يعني تحصين الوضع تمهيداً للحل الشامل، وذلك عبر علاقات متينة مع الناس ومع الأطراف والقوى الوطنية التي في المنطقة وفي البلاد عموماً، وهو أمر ممكن، والظروف باتت تسمح به بشكل أكبر من أي وقت مضى.

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1021
آخر تعديل على الإثنين, 07 حزيران/يونيو 2021 12:46