بعض مما قلناه عام 2011.. ثلاث افتتاحيات لقاسيون

بعض مما قلناه عام 2011.. ثلاث افتتاحيات لقاسيون

عشر سنوات هي وقت طويل بالنسبة للذاكرة الفردية، وحتى بالنسبة لذاكرة المجتمع أحياناً، وخاصة حين تكون سنواتٍ مثقلةً بالدماء والعذابات العصية على الوصف... ولهذا مخاطره الكبرى، وبينها محاولات من أسهموا في سفك الدم السوري، للتبرؤ من ذلك، ليس هرباً من الحساب فحسب، بل وأسوأ من ذلك، لتجهيز أنفسهم للاستمرار السياسي لمراحل لاحقة، ولمواصلة نهب السوريين ولقمتهم والإتجار بدمائهم... والمقصود هنا على السواء متشددو النظام ومتشددو المعارضة...
في هذا السياق، وبعد أن أعدنا في العدد الماضي نشر بيان 25 شباط 2011 الذي سبق انطلاق الحركة الشعبية، فمن المفيد مع مرور عشر سنوات على انطلاقها، التذكير ببعض المواقف التي ظهرت في افتتاحيات جريدة قاسيون الناطقة في حينه باسم اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، التي باتت بعد ذلك «حزب الإرادة الشعبية».

2/4/2011 افتتاحية قاسيون 496 - درس أساسي

أحداث الأشهر الأخيرة في البلدان العربية بما فيها سورية، أثبتت حقيقة جديدة تدخل مسرح الأحداث بقوة لا يجوز القفز فوقها ولا التعامل معها باستخفاف، ولا تجاهلها ولا الخوف منها.. ألا وهي الحركة المتصاعدة المستقلة نسبياً للنشاط السياسي للجماهير الشعبية الواسعة..
وهذه الحالة تتكرر في التاريخ بشكل دوري تقريباً، وهي ليست جديدة، ولكن تفصل بين دورة وأخرى فترات زمنية طويلة، من 50 إلى 100 عام كما لاحظ الباحثون، ما يجعل الأمر مفاجئاً وغير معتاد بالنسبة لمن يعاصر موجة كهذه.. وتعقبها بعد انتهائها فترة هدوء ما هي في نهاية المطاف إلاّ فترة كمون لنهوض ونشاط سياسي واسع جديد للجماهير..
وخلال فترة الهدوء والكمون، تتراكم المشكلات التي تتطلب الحل، وتتراكم المطالب التي تبقى دون حل، وتتراكم درجة شحن المجتمع لانفجاره اللاحق، وكل ذلك يخلق سراباً ووهماً بأن كل شيء بخير ويتعود أولو الأمر على التعاطي بعدم جدية، وباستخفاف مع مطالب المجتمع، وتزداد ثقتهم بأنفسهم مقتنعين أن جهاز دولتهم القمعي القوي قادر على حل كل المشكلات..
ولكن عندما تأتي الموجة الجارفة التي يعبر عنها النشاط السياسي المستقل للجماهير، المستقل عن جهاز الدولة، والمستقل عن البنى السياسية التقليدية، فإذا بها لا تُبقي ولا تَذر، لأن طاقتها المخزونة خلال الكمون تكون هائلةً وقادرةً على صنع المعجزات.
وهي بجوهرها تعبيرٌ عن نضج موضوعي لضرورة إحداث تغييرات عميقة في المجتمع، وفي بناه الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية..
إن وعي هذه الحقيقة، في هذه اللحظة بالذات، يرتدي أهمية كبيرة لفهم ما يجري في طول العالم وعرضه، وخاصةً في العالم العربي، وفي بلدنا سورية.
إن عدم فهم واستيعاب هذه الحقيقة يمكن أن يدفع البعض في اتجاهات لا تحمد عقباها، وهذه الاتجاهات عبرت عن نفسها في الفترة الماضية بالأشكال التالية:
ـ اعتبار ما يجري مجرد مؤامرة خارجية أو داخلية..
ـ اعتبار ما يجري مجرد مطالب بسيطة آنية..
ـ اعتبار ما يجري أمراً بسيطاً يُحل ببعض التجميلات الإصلاحية..
والحقيقة، أن هذا التيار المتصاعد الجارف للحركة الجماهيرية تحاول قوى عديدة التعامل معه محاولة الاستفادة منه وتجييره لمصلحتها ولصالح أهدافها الضيقة.
فالإمبريالية الأمريكية تحاول ولم توفق حتى هذه اللحظة، والكيان الصهيوني يحاول ولم يجنِ إلاّ زيادة الخوف على مستقبله (مثال مصر وتونس).
إن سورية ليست خارج الزمان والمكان، والموجة الحالية لصعود النشاط الجماهيري ليست عابرةً أو مؤقتة، ولن تنتهي موضوعياً دون تحقيق أهدافها التي كانت السبب في إقلاعها.
فكيف التعامل معها؟
بالذهاب إلى ملاقاتها والاستماع لها بانتباه واحترام، والتفاعل معها بشكل إيجابي كي تتحول طاقاتها المتفجرة إلى طاقة إيجابية تدفع المجتمع والبلاد في لحظات إلى عشرات السنين للأمام، أم بالخوف والتوجس منها شراً، وإغماض العين عنها واعتبارها رجساً من فعل الشيطان والتعامل معها بالنار والرصاص؟!
إن التأخر عن ملاقاة حركة الجماهير المتصاعدة يوماً بعد يوم، إضافةً إلى الشك فيها وعدم احترامها، يخلق مصاعب إضافية، وأهمها: خلق فراغ يسمح للقوى التي لا تريد الخير للبلاد ومجتمعنا من امتطاء هذه الموجة وتوجيهها بالاتجاه الغلط، ولو مؤقتاً..
إن هذه الموجة الجديدة التي تغير وجه التاريخ في منطقتنا والعالم، هي تعبير عميق عن أزمة الرأسمالية كنظام عالمي بكل تطبيقاته المحلية، والتي فقدت عملياً كل مبررات وجودها تاريخياً.. والتي أتت الثورات، قابِلة التاريخ، لكي تخرج المولود الجديد إلى الوجود..
إن آلام الولادة ستكون أخف كلما استطعنا أن نفهم أكثر إيقاع حركة الجماهير التي تسير حتماً في الاتجاه الصحيح في نهاية المطاف.
وستكون آلام الولادة أكبر، إذا أغلقنا آذاننا عن هذا الإيقاع ولم نتفاعل معه بشكل إيجابي وإبداعي.
إن الأحزاب التي تلعب دوراً في التاريخ، وكذلك القادة، هي تلك التي تفهم هذه الحقيقة بعمق وتعبر عنها، وعندها تدفعها الجماهير إلى الواجهة.. أما الآخرون فإنها تقذف بهم على قارعة طريق التاريخ..
الجماهير تعود إلى الشارع، وهذا الأمر أصبح حقيقةً واقعةً، وهي سائرة نحو المستقبل.. إن فهم ذلك والتكيف معه بسرعة، ضمانة لتحقيق كرامة الوطن والمواطن..

1010-19

9/4/2011 افتتاحية قاسيون 497 - نحو مصلحة المجتمع والوطن

برهنت الأحداث منذ 15 آذار الماضي أن سورية قد دخلت مرحلة جديدة، فالبلاد قبل هذا التاريخ شيء وبعده شيء آخر، وإن كان الواضح كيف هي سورية قبل 15 آذار 2011 فإنها بعده ليست كذلك حتماً.
إن الحراك الشعبي الذي بدأ وأخذ يتسع، والذي ترافق مع عنف وإراقة دماء، قد انطلق على أرضية التناقضات الاقتصادية- الاجتماعية التي أججتها السياسات الليبرالية الاقتصادية، والتي أدت إلى وقوع أضرار هائلة بالاقتصاد الوطني، وخاصة في الصناعة والزراعة، فنتج عن ذلك تدهور الوضع المعاشي بشدة، وتزايد الفقر والبطالة، وارتفاع منسوب الاستياء في المجتمع. وكان قد سبق هذا الحراك على مدى سنوات مقاومة شديدة اتسمت بطابع اجتماعي شعبي ضد هذه السياسات، وتركز على ممثليها في الحكومة السابقة (الفريق الاقتصادي)، ولم يتمكن هذا الإجماع من وقف هذه السياسات التي استمر تطبيقها حتى الآن.
أي: إن هذا الحراك لم يأت من فراغ، ولا من فعل مؤامرة خارجية، بل فرضته الوقائع الاقتصادية– الاجتماعية، وإن كانت قد شجعته تلك الانتفاضات والثورات التي تفجرت مؤخراً في البلدان العربية.
إن المؤامرات الخارجية كانت وما تزال موجودة، وستبقى موجودة، وستتعاظم ما بقيت الإمبريالية والصهيونية واشتدت أزمة النظام الذي يمثلانه، وهذا الوضع يجعل مهمة تحصين الوضع الداخلي في مواجهتها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مهمة قائمة ورئيسية.
في الوضع الراهن، ومع استمرار التحركات الشعبية ظهرت مسألتان خطيرتان:
الأولى: العنف الذي رافق الحركة الاجتماعية، وصولاً إلى إراقة الدماء واستمرار ذلك...
الثانية: ظهور عملية شحن طائفي سريعة ومحاولة إظهار أن هناك صراعاً بين طائفتين في البلاد.
إن الشحن الطائفي استند على إراقة الدماء، وإذا استمر يمكن أن يهدد بشدة الوحدة الوطنية، ويحقق هدف المؤامرة الخارجية بتفتيت البلاد، وبناء على ذلك، فإن البحث عن الأصابع الخارجية والمتآمرة يجب أن يجري في هاتين النقطتين، لذلك لا بد من ملاقاة الحركة الجماهيرية عبر ملاقاة مطالبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإيقاف إراقة الدماء ومحاسبة المسؤولين، والبدء بالإصلاحات المعلن عنها بشكل سريع وفوري، بما يؤمن أعلى منسوب للحريات السياسية للمجتمع، وأعلى مستوى من الوحدة الوطنية.
وإذا كانت الإجراءات السياسية السريعة ضرورية، فإن الإجراءات الاقتصادية الاجتماعية لا تقل أهمية عنها ولا ضرورة.
إن تغيير الحكومة لا يلبي شيئاً ما لم يتم:
• القطع الفعلي والتام مع السياسات الاقتصادية اللبرالية السابقة ومحاسبة المسؤولين عنها.
• إطلاق حملة حقيقية مستندة إلى قوى المجتمع لمكافحة الفساد وخاصة الكبير منه.
• صياغة سياسات اقتصادية جديدة تؤمن أعلى مستوى من النمو وأعلى مستوى من العدالة الاجتماعية، وحل مشكلات الفقر والبطالة ومستوى المعيشة المتدني وفق خطط واضحة وجداول زمنية محددة.
• وضع معايير محاسبة للحكومة الجديدة، تنطلق من أهدافها المعلنة عبر بيانها الوزاري، ومقارنة أدائها مع الواقع العملي.
إن الأحداث الحالية تثبت بما لا يدع مجالات للشك أن بلادنا لا يمكنها أن تتحمل السياسات الاقتصادية اللبرالية الجديدة، وإن هذه السياسات لا يمكنها أن تنجز إلا الاستثمار في الفساد، ولا يمكنها أن تنتج إلا الإفقار ورفع مستوى التناقضات بما يهدد أمن الوطن والوحدة الوطنية.

1010-2

(19/11/2011) افتتاحية قاسيون 527: من الذي يعيق الحل؟؟ 

بعد ثمانية أشهر على بدء الحركة الاحتجاجية التي ظهرت كتعبير عن أزمة وطنية عميقة، بقيت هذه الأزمة بعيدةً عن الحل، لا بل راحت تتطور وتتعقد تحت تأثير جملة من العوامل الداخلية والتدخلات الخارجية.
وما زال الدم السوري ينزف، لا بل يشتد هذا النزيف ويزداد عدد الضحايا من مدنيين وعسكريين، مع حصول انحسار في الحركة الشعبية السلمية وتزايد العمل المسلح، ودخول القوى الخارجية أكثر على خط الأزمة ودعم العمل المسلح.
كان واضحاً منذ بداية الأحداث، أن هذه الأزمة تعني أنه لم يعد من الممكن استمرار الحالة السورية السابقة، لا سياسياً ولا اقتصادياً، وأن الوضع كان قد أصبح جاهزاً منذ أمد بعيد لحصول تغيرات عميقة في النظام السياسي، وإصلاحات بالعمق نفسه في المجال الاقتصادي والاجتماعي، إن التأخر في هذه العمليات قد هيأ الأرضية للانفجار، وهو ما حذرنا منه على مدى سنوات.
إن ما يمنع الآن السير باتجاه حل الأزمة هو سلوك القوى المتشددة في النظام وأجهزة الدولة ومن في حكمهم، وكذلك سلوك المتشددين في المعارضة.
وإذا كان متشددو أجهزة الدولة مدعومين من قوى الفساد الكبرى في أجهزة الدولة، وحلفائها في المجتمع، فإن متشددي المعارضة مدعومون وتشد أزرهم القوى الخارجية عربيةً ودوليةً، وقوى فساد ونهب في الداخل أيضاً.
الأولى: تريد الإبقاء على الوضع السابق، أو إيجاد وضع آخر تتم فيه المحافظة على مستوى النهب والفساد القائمين، والثانية: تريد استبدال النظام بوضع يؤمن مصالح القوى الخارجية ويؤمن إلغاء الدور الإقليمي لسورية الممانع للسياسات الإمبريالية والصهيونية.
إن التعامل العنيف والخاطئ مع الحركة الشعبية على مدى أشهر قد سمح بنشوء بيئة مناسبة لتواجد وتحرك المسلحين، بيئة حاضنة لهم في عدة مناطق، ويمكن لهذه البيئة أن تمتد وتتسع إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، خاصةً في ظل اتساع عناصر التدخل الخارجي (الإعلامي، السياسي، وإمداد السلاح)، وفي ظل التلويح بإيجاد مناطق عازلة في بعض المناطق الحدودية.
وهنا ينبغي أيضاً فهم السلوك الأمريكي في هذه المسألة، إن التصريحات الأمريكية التي نصحت المسلحين بعدم إلقاء سلاحهم (تجاوباً مع مبادرة وزارة الداخلية بالعفو عنهم) بعد توقيع الورقة العربية، لم يكن هدفها الوحيد تشجيع المسلحين ودعمهم فقط، بل كان يهدف أيضاً إلى تقوية مواقع متشددي النظام وأجهزة الدولة في الوقت نفسه، والإبقاء على دائرة العنف وتوسيعها وتسريعها.
وفي ظل الوضع الحالي الملائم نسبياً من حيث كون الدور الروسي- الصيني يمنع التدخل الخارجي عبر مجلس الأمن، ويضطر القوى الخارجية للجوء إلى دعم القوى المتشددة المسلحة في المعارضة، وتأمين الظروف لها للنمو وخلق صدام مسلح دائم وطويل، يمكن أن يتطور إلى حرب أهلية طائفية، يمكنها أن تودي بالبلاد نحو التقسيم. في ظل هذا الوضع، فإن المدخل للحل الآمن الذي يسمح بتحقيق الإصلاحات المطلوبة (بناء نظام سياسي جديد بكل مفرداته المعروفة، وتحقيق إصلاحات اقتصادية جذرية وعميقة)، يكمن هذا الحل في القضاء على المتشددين، كل المتشددين، سواء في أجهزة الدولة عبر محاسبتهم وفتح ملفات كل من أراق دماء الأبرياء، أو المتشددين في صفوف المعارضة المسلحة الذين يريقون دماء المدنيين والعسكريين، إن من شأن البدء بالقضاء على المتشددين يعني كسر دائرة العنف من أجل وقفه، ومن شأنه أن يمنع إعاقات الحل السياسي الآمن، أو إعاقات بدء الحوار الوطني. كما من شأنه البدء بخلق المستوى الضروري من الثقة بين الشارع والدولة، وتغيير واقع مستوى الثقة الضعيف القائم حالياً.
فعلى مدى الأشهر الماضية، هذه القوى هي التي كانت تعيق السير نحو الحوار الوطني الجدي الحقيقي، وهي ما زالت حتى الآن تعيق عملياً التغيرات الحقيقية من أجل بناء نظام سياسي جديد، وهذا التأخير والرفض والإعاقة قد كلف البلاد ألوف الضحايا، وفي حال استمرار الوضع بهذا الشكل يعني ألوفاً جديدةً من الضحايا.
إن كلفة التأخير في بدء التغيير تزداد، لا بل تتضاعف، ولا بد من وضع حدّ للقوى التي تمانع الحل الآمن، فهذا الحل ليس دون حدود زمنية، هذه الحدود التي إن جرى تجاوزها يصبح الحل الآمن غير ممكن.

1010-20

معلومات إضافية

العدد رقم:
1010
آخر تعديل على الإثنين, 22 آذار/مارس 2021 00:54