شكراً... جيمس جيفري!
«الولايات المتحدة تقر بوجود إرهابيين في إدلب وهناك مجموعة كبيرة من النصرة وهيئة تحرير الشام وهي متفرعة من القاعدة، وتعتبر منظمة إرهابية ولكنها تركز بشكل أساس على قتال النظام السوري وروسيا وهم يدّعون أنهم وطنيون ومقاتلون معارضون وليسوا إرهابيين ونحن لم نقبل هذا الادعاء بعد ولكن لم نر أنهم شكلوا تهديداً دولياً منذ فترة».
التصريح أعلاه هو لجيمس جيفري، المبعوث الأمريكي الخاص لسورية، أدلى به يوم الخميس الماضي 30 كانون الثاني، خلال حديثه في مؤتمر عبر الفيديو.
ورغم أنه ليس جديداً القول إنّ الولايات المتحدة كانت ولا تزال داعمة بل ومنشئة للجماعات الإرهابية ابتداءً من القاعدة، ووصولاً إلى داعش، لكن اللافت بالأمر أنّ الاعترافات الأمريكية التي أدلى بها مسؤولون أمريكيون حول مسؤولية الولايات المتحدة عن الجماعات الإرهابية وصِلتها بهم، كانت تأتي دائماً على لسان مسؤولين ودبلوماسيين سابقين، كما كان الحال مثلاً في اعترافات هيلاري كلينتون بما يخصُّ القاعدة وطالبان. هذه المرة، مسؤول أمريكي رسمي وعلى رأس عمله يدلي بتصريح فريد من نوعه: «لم نقبل هذا الادعاء بعد»، بما يعني أنّ هنالك احتمال أنَّ يتم قبوله في مرحلة قادمة، بل ويعزز هذا الاتجاه حين يقول: «يدّعون أنهم وطنيون ومقاتلون معارضون ... لم نر أنهم شكلوا تهديداً دولياً منذ فترة».
يُعيد تصريح جيفري هذا، الذاكرة إلى تصريح لوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، يوم 27/12/2017، أي قبل عامين ونيّف؛ في حينه قال لافروف: «المهمة الرئيسة لمحاربة الإرهاب هي الآن في دحر جبهة النصرة».
يمكن أن يفهم تصريح لافروف هذا بشكل أفضل اليوم، وبالتحديد في ضوء تصريح جيفري؛ فبعد القضاء على داعش من حيث المبدأ، بقي في يد واشنطن وسائل تأثير محددة على تطور الأوضاع في سورية، على رأسها وسيلتان: النصرة، والعمل على عزل الشمال الشرقي عن باقي سورية.
وبما أنّ فقدان أي منهما سيؤدي حكماً إلى ضعف تأثير الثانية، وفقدانها تالياً، فإنه لم يعد ممكناً التخلي عن أيٍّ منهما، خاصة بعد خسارة الأداة الداعشية بشكل سريع بعد الدخول الروسي المباشر.
تعلم واشنطن جيداً، أن حدود الاتفاق والتفاهم الروسي التركي تشمل القضاء على النصرة عاجلاً وليس آجلاً، وأمرٌ من هذا القبيل من شأنه فتح الطريق واسعاً (ليس إم5 وإم4 فقط) بل طريق الحل السياسي والاستقرار، وكذلك طريق تسريع طرد الأمريكي من سورية، ولذا فإنّ التمركز على مهمة حماية النصرة بات تمركزاً اضطرارياً تهون أمامه الفضائح العلنية التي تتضمن الدفاع عن النصرة نفسها ولو بشكل موارب كما جاء في تصريح جيفري الأخير.
الجيد في المسألة، لا يتمثل فقط في أنّ الأمريكي في إطار تراجعه وخسائره وانكفائه يرمي أوراقه كلها على الطاولة، (من مسألة نقل السفارة الأمريكية والاعتراف بيهودية الكيان، إلى الاعتراف بضم الجولان السوري المحتل، ووصولاً إلى صفقة القرن، وليس انتهاءً بالدفاع شبه العلني عن النصرة)، بل ربما أهم من ذلك كلّه، نتائج هذا السلوك...
ففي الوقت الذي سعت فيه واشنطن طوال عقود مضت إلى لعب دور مزدوج (حَكمٌ وقاضٍ) في أزمات المنطقة، أي إنها كانت تنحاز طوال الوقت للكيان الصهيوني وضد مصالح شعوب المنطقة، بما في ذلك انحيازها للأنظمة الفاسدة والتابعة ضد شعوبها، ولكن مع الحفاظ بالمعنى الدولي، وبشكل قسري، على دور الوسيط والوسيط، الأوحد في كل أزمات المنطقة، فإنها اليوم تخسر نهائياً دورها هذا، وتعلن عداءها المطلق لكل شعوب المنطقة.
إنّ إعلاناً من هذا النوع له فضائله أيضاً، فإلى جانب كونه اعترافاً اضطرارياً يهدف إلى التمركز على أدوات التخريب ضمن المنطقة وحمايتها، في ظروف انكفاء شامل لا يمكن معه تبديد وتشتيت القوى الأمريكية المتناقصة، فإنّه إعلان يسمح للشعوب نفسها بالتقدُّم خطوات سريعة نحو فرز حقيقي للقوى السياسية والشعبية ضد المصالح الأمريكية الصهيونية في المنطقة، ومن شأنه أيضاً أن يضيّق إلى الحدود الدنيا مساحات وهوامش التلاعب، والكذب بالشعارات الذي مارسته أنظمة عديدة في المنطقة عبر وضعها أمام اختبارات كبرى، سواء بما يخص القضية الفلسطينية نفسها، أو بما يخص القضايا الداخلية التي باتت بحاجة إلى استدارة سريعة صوب الحلول السياسية، وصوب تغييرات جذرية في البنى الاقتصادية التابعة والمولدة للأزمات والفوضى... ولذا لا بد في هذا السياق من تقديم الشكر لجيمس جيفري على وقاحته المفيدة!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 951