القرار 2254 والمسألة الوطنية..
يحاول بعض السوريين تقديم مسألة الحل السياسي للأزمة والقرار 2254 على أساس أنها تتناقض مع الوطنية السورية، تحت ذريعة أن هذا القرار قرار دولي، لم يشارك فيه ممثلو الشعب السوري، لا بل يشطح البعض معتبراً أنه (قرار استعماري). وبغض النظر إذا كان هذا الرأي تجاهلاً أو جهلاً بمضمون القرار وظروف صدوره، فإن معناه الوحيد هو وضع الشأن الوطني رهينة لقوى سياسية محددة، سواء من هذا الطرف أو ذاك، وتفويضها بهذه المسألة الإستراتيجية الكبرى، لا بل إن البعض يرى بأن الدفاع عن الوطن، بات يمر عبر رفض القرار 2254، وأكثر من ذلك، يمرّ عبر الدفاع عن الحال القائم كما هو.
حسب مختبرات علم الاجتماع السياسي، فإن تقييم صلاحية بنية ما، إما أن يكون بالاستناد إلى التحليل والاستنتاج، من خلال تفكيك الظاهرة وفرز عناصرها، واكتشاف نقاط الضعف والقوة فيها، وبالتالي، تحديد مدى قدرتها على القيام بالدور المطلوب منها، أو أن التقييم يكون من خلال التجربة الملموسة، وسلوك هذه البنية على الأرض، أو من خلال التحليل والتجربة معاً كما هو في الحالة السورية الملموسة.
والسؤال هو: هل استطاع ويستطيع النظام بتركيبته القائمة، وتوازن القوى فيه، القيام بالحد الأدنى من الدور المطلوب منه في حماية الاستقلال الوطني، واستعادة السيادة الوطنية، واستمرار الدور التاريخي الذي كانت سورية تلعبه، كحد أدنى من الوظيفة الوطنية المعروفة تقليدياً، لأي نظام سياسي؟ وماذا تقول التجربة الملموسة خلال سنوات الأزمة؟
من حيث التحليل
إذا كانت البنية الاقتصادية– الاجتماعية للنظام السياسي في سورية، هي بنية نظام رأسمالي تابع، أي جزء من السوق الرأسمالية العالمية، فإنه يخضع بالضرورة لقوانين وأدوات هذه السوق، ومنها: وجود قوى طبقية تنظم العلاقة بين السوق الداخلية وسوق المركز الرأسمالي، اصطلح عليها بـ (الكومبرادور). ومع سيادة اللبرلة عالمياً، تنامى موضوعياً دور هذه القوى كونها الأداة المحلية لعملية اللبرلة، وفي الحالة السورية الخاصة، ازداد دورها كونها جزءاً من الشريحة الطبقية المتحكمة أيضاً؛ أي: أن النخبة المالية السورية جمعت ثنائية السلطة: سلطة مستمدة من كونها امتداداً لمنظومة عالمية، وسلطة مستمدة من موقعها في جهاز الدولة، وهو ما يعني عملياً، تراجعاً كبيراً، إن لم نقل انتهاء لدور شريحة البرجوازية البيروقراطية المؤقت، كأحد حوامل المشروع الوطني السوري في الظرف التاريخي السابق (وأكثر تلك الحوامل ظرفيةً واهتزازاً)، خاصة بعد تحول القسم الأساسي منها عملياً إلى رجال أعمال.
الوطنية الجذر التاريخي
تعود جذور المسألة الوطنية في سورية، إلى بدايات تشكل الدولة السورية الحديثة، إثر تفكك الإمبراطورية العثمانية، حيث انقسمت النخبة السورية بين من يريد البقاء تحت راية العثمنة، وبين تلك القوى التي راهنت على الغرب المنتصر في الحرب العالمية الأولى، وصولاً إلى قبول الوصاية والانتداب، في حين برزت النزعة الوطنية الاستقلالية على يد قسم ثالث عبّر عنها يوسف العظمة بموقفه في معركة ميسلون.
الوطنية والجغرافيا السياسية
فرض التطور التاريخي، والجغرافيا السياسية على سورية، أن تكون المعركة الوطنية أحد التحديات الوجودية أمام الدولة السورية، وضمن هذه الخاصية تشكل ونما وتبلور الوعي الوطني السوري، حتى بات جزءاً من مكونات وجوده، لدرجة أن أي تجاهل للمسألة الوطنية من قبل نظام حاكم، سرعان ما كان يطيح بهذا النظام، وكان التوازن الدولي في الستينات والسبعينات عاملاً مساعداً في استمرار مفاعيل هذه الخاصية الوطنية السورية، لا بل إنها حققت للنظام ولسورية ريعاً سياسياً كبيراً مكنتها من لعب دور إقليمي، يفوق الوزن الطبيعي السوري كاقتصاد وديموغرافيا، رغم وجود مراكز إقليمية لها ثقل اقتصادي وسكاني أكبر منها بكثير.
الوطنية والبعد الطبقي
مع التحولات الكبرى في ميزان القوى الدولي، والتحولات النوعية في بنية النظام السياسي في البلاد، جرى تمييع هذه الخاصية الوطنية في سورية خلال العقود القليلة الماضية، وجاءت تأثيرات الأزمة وبالدرجة الأساس طريقة تعاطي النظام مع الأزمة في السنوات الأخيرة، لتلعب دوراً إضافياً في إضعاف الدور الإقليمي التاريخي للبلاد.
وإذا وضعنا نوايا النظام جانباً، فإن التجربة الملموسة من خلال النتيجة العملية لمواقف النظام خلال الأزمة، أكدت بأنه لم يعد قادراً على التعبير عن هذه الميزة المطلقة التي منحتها الجغرافيا السياسية لسورية، لا بل إن استمرار الأزمة وإدارتها بطريقة النظام سيجهز على ما تبقى من هذا الدور، سواء بالوصول إلى التقسيم الفعلي، أو من خلال استمرار التقسيم غير المعلن بموجب آلية تقاسم مناطق النفوذ القائمة حالياً.
النظام– الدولة واستعادة الدور
كما أسلفنا، فإن الدور التاريخي لسورية، ليس من صنع نظام أو حزب أو تيارٍ ما، بل هو مسألة تاريخية ثقافية لها سبب موضوعي يرتبط إلى حد كبير بالجغرافيا السياسية، ويستطيع أي نظام حاكم أن يفعّل هذا الدور، أو أن يعرقله حسب بنيته الطبقية، وشبكة مصالحه، وحسب التوازنات الدولية القائمة في اللحظة المدروسة.. أما أن يتم تحويل هذا الدور إلى رأسمال ثابت، ومجال استثمار لمنع عمليات التغيير وللحفاظ على بنية منتهية الصلاحية التاريخية، وضمن شبكة علاقات التبعية الاقتصادية، كما جرى خلال العقود الماضية، فإنّ ذلك لم يعد ممكناً على الإطلاق في ظل التحول الدولي الجاري، وتأثيرات الأزمة الرأسمالية العالمية ونتائجها اللاحقة، وخصوصاً ما يتعلق بطبيعة علاقة المراكز مع الأطراف في الظروف الجديدة... وفوق ذلك كلّه، وقبله كلّه، حاجة الشعب السوري للنمو والتنمية ولوقف الحرب والدمار.
فإما: أن يقوم النظام نفسه بتغيير جذري وشرطه الأساس الانفكاك عن منظومة التبعية الاقتصادية- المالية للغرب، وهو ما بات ممكناً من الناحية الموضوعية في ظل توازن القوى الدولي الجديد، ولكن ذاتياً لا تسمح به بنية النظام وتوازن القوى داخله كما بات واضحاً.
أو أن يتم تغيير النظام نفسه، وبيد الشعب السوري، وإيجاد بنية قادرة على قيادة التغيير الجذري المطلوب، وبالدرجة الأساس مسألة التبعية.
من هنا بالضبط، نرى أحد جوانب أهمية القرار الدولي 2254 بالنسبة للمصالح الوطنية السورية العامة، لا سيما، وأن هذا القرار كما هو معلوم مبنيٌ أصلاً على الحفاظ على وحدة وسيادة واستقلال سورية، ووضع القضية بيد الشعب السوري ليقرر مصيره، عبر انتخابات حرة ونزيهة، أي: إن منطوق القرار الفعلي، يعيد الأزمة إلى ساحتها الأصلية، أي الساحة السورية بعد تدويلها، ويعيد الاعتبار إلى اللاعب المغيّب عن الساحة، أي الشعب السوري. وليس صحيحاً لا بالمعنى الإجرائي المباشر، ولا بالمعنى السياسي العام، أن القرار هو قرار أمريكي، فحتى (لو كان مشروع القرار أمريكياً كما يزعم البعض) فإنه صدر بعد معركة دبلوماسية وإعلامية قاسية، حتى تم الاتفاق عليه بالصيغة التي خرج بها، و من يراجع ردود أفعال القوى المختلفة في حينه، والمواقف الفعلية منه منذ صدوره، سيفهم بالملموس محتوى القرار.
ولما تأكدت بالملموس استحالة الحسم العسكري، ولما كان استمرار العمل العسكري يؤدي إلى استنزاف الدولة والشعب السوري وإنهاكهما، ولما كان مشروع الفوضى الأمريكي معلناً، وباعتبار أن ذلك من الممكن أن يؤدي إلى التقسيم، بما يعنيه ذلك، ليس في إلغاء دور سورية التاريخي فقط، بل إلغاء وجود سورية نفسها كوحدة جغرافية سياسية، فإن الوطنية تقتضي أن يكون الرد عليه عكس ذلك، أي بالحل السياسي.
وعلى هذا الأساس، فإن القرار 2254 باعتباره خريطة طريق الحل السياسي، فهو يتقاطع مع المصالح الوطنية السورية، رغم أنه قرار دولي، وهو من جهة أخرى أحد مخرجات التوازن الدولي الجديد، وسعي القوى الصاعدة إلى الحفاظ على القانون الدولي، واحترام سيادة الدول وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 978